لم يكن بيان «الخطوط الحمراء» المصرية تجاه تطورات الحرب في السودان مجرد تعبير عن قلق أمني عابر أو موقف تضامني تقليدي، بل شكّل لحظة كاشفة، أعادت إدراج السودان صراحة داخل معادلة الأمن القومي المصري بوصفه ساحة تماس مباشر لا مجرد دولة جوار. بهذا المعنى، فإن البيان لا يقرأ فقط باعتباره موجهاً للأطراف السودانية، بل كرسالة مزدوجة: للفاعلين الإقليميين والدوليين، بأن القاهرة تعتبر ما يجري في السودان مسألة سيادية تخصها، وللسودانيين بأن مرحلة “الحياد المصري الحذر” قد انتهت.
ردود الأفعال السودانية لم تتسم بالتجانس، لا بسبب اختلاف المواقف من مصر في حد ذاتها، بل لأن البيان اصطدم مباشرة بجذور الأزمة السودانية: من يملك الشرعية؟ من يحتكر تعريف الدولة؟ ومن يقرر شكلها في لحظة الانهيار؟ لذلك تحوّل النقاش من مضمون البيان إلى دلالاته، ومن نصه إلى ما يفترضه من إعادة تراتبية للفاعلين داخل السودان.
مصر في المخيال السياسي السوداني
لا يمكن الولوج إلى فهم ردود الأفعال السودانية تجاه بيان «الخطوط الحمراء» دون استيعاب ما تمثله مصر تاريخياً للأطراف السودانية المختلفة في سياق الاستعمار، والتحولات السياسية، ومسار التغيير الأخير، ثم الحرب المندلعة منذ 2023. فالأطراف السودانية على اختلافها، تتفق على أن مصر ليست دولة جوار فحسب، بل شريكا تاريخيا ووجه مقارنة وتنافس في آن واحد، بوصفهما «شقيقين» تجمعهما الجغرافيا والمصير.
هذا الإدراك المزدوج يفسر السعي الدائم– وإن كان غير معلن– لصناعة استقلالية كاملة للقرار السوداني عن القاهرة. غير أن هذه النزعة لا تظهر في الخطاب الدبلوماسي بقدر ما تتجلى في المزاج الشعبي العام، الذي يجمع بين شعور عميق بأن مصر «الوطن الثاني» للسودانيين، بفعل التداخل السكاني والتأثير الثقافي المصري، وبين حساسية كامنة من أي دور يُفهم كوصاية. هذه العلاقة المركبة، الأخوية أكثر من كونها علاقة بين دولتين غريبتين، تفسر حدة التفاعلات أحياناً؛ إذ لا يتعامل الطرفان كغرباء، بل كأبناء «أم واحدة» تشعلهم الظروف الصعبة وتوقظ بينهم الغيرة في لحظات التفاوت والاختلال.
تتباين رؤى الأطراف السودانية تجاه البيان تبعاً لمصالحها وخبراتها التاريخية مع مصر. فقد كانت القاهرة، عبر عقود طويلة، الملاذ الآمن لمختلف الفاعلين السودانيين، كلما لفظتهم السياسة أو ضاقت بهم ساحات العمل العام في الداخل، من حقب الاستعمار مروراً بالانقلابات العسكرية، وصولاً إلى الثورات الشعبية. هذا الدور جعلها حاضنة لجميع ألوان الطيف السياسي، وفرض عليها دائماً معادلة دقيقة: موازنة علاقاتها مع جميع الأطراف وتجنب الانحياز الكامل لطرف دون آخر، خصوصاً في اللحظات الحرجة التي يمر بها السودان، وآخرها الحرب الحالية.
تاريخياً، لم تكن القاهرة مجرد عاصمة مجاورة، بل فضاءً سياسياً موازياً، استوعب التعدد السوداني، حين ضاقت به الدولة الوطنية. هذا الدور خلق علاقة تبادلية معقدة: السودانيون يرون في القاهرة ملاذاً عند الإقصاء، بينما ترى القاهرة في السودان فسيفساء، تحتاج إلى إدارة توازن دقيقة. من هنا، فإن مطالبة بعض السودانيين لمصر بالحياد الكامل، تتجاهل حقيقة أن حياد القاهرة نفسه هو فعل نشط لإدارة التعقيد، لا انسحاباً منه.
في هذا الإطار، يصبح بيان الخطوط الحمراء لا اقتراحاً لحل أزمة أو خارطة طريق، بل تحديداً للسقف الذي تعتبره القاهرة مقبولاً أو مهدداً لأمنها القومي، بما يشمل رفض الكيانات الموازية، والحفاظ على وحدة مؤسسات الدولة، ورفض أي تفكيك كامل للسلطة القائمة. من هنا، يمكن فهم لغة البيان الحازمة نسبياً مقارنة بخطابات سابقة، ليس كعدائية تجاه السودان، بل كنتيجة طبيعية لإدراك القاهرة العميق لتعقيدات المشهد السوداني، حيث كل معرفة عميقة تُفسر على أنها قدرة على التأثير، وكل توازن يُقرأ أحياناً كميل مستتر للسيطرة.
البيان كصدمة إدراكية لا مواجهة سياسية
أحدث بيان «الخطوط الحمراء» المصرية ما يمكن وصفه بـ«الرجة الصامتة» داخل السودان، وهي رجة لا تُقاس بحدة الخطاب العلني بقدر ما تُقاس بعمق الارتباك الذي أحدثته في حسابات الفاعلين السياسيين والعسكريين. فغياب التصعيد الواسع لا يعني قبولاً ضمنياً أو توافقاً سياسياً، بل يعكس حالة إنهاك وانهماك عام فرضتها الحرب، استنزفت القدرة على المواجهة المفتوحة، ودفعت معظم الأطراف إلى التعامل مع البيان، باعتباره معطى أمنياً جديداً لا مجرد موقف سياسي قابل للنقاش أو الرد الإعلامي.
في هذا السياق، انتقلت قراءة البيان من ساحة الخطاب إلى دوائر التقدير الاستراتيجي. فالصمت الذي طغى على المشهد، لم يكن حياداً ولا تردداً، بل إدراكاً واعياً، بأن القاهرة تتحدث من موقع القدرة على التأثير الفعلي، وأن أي مواجهة علنية معها في هذه اللحظة قد تحمل كلفة سياسية وأمنية باهظة. هذا الإدراك عزّز من منطق “إدارة الضرر”، بدلاً من منطق “الصراع الخطابي”، خصوصاً في ظل هشاشة البنية السياسية، وتفكك مركز القرار، وتراجع قدرة الفاعلين على تحمّل جبهات إضافية.
ومع ذلك، لم يخلُ المشهد من ردود رافضة، جاءت في معظمها من قوى رأت في البيان تهديداً مباشراً لمشاريعها السياسية، لا مجرد اختلاف في التقدير. هذه الردود لا يمكن فهمها بوصفها تعبيراً عن موقف مبدئي من الدور المصري، بقدر ما هي دفاع اضطراري عن مسارات سياسية، باتت مهددة في أساسها بفعل الخطوط الحمراء المعلنة.
الدعم السريع
ويبرز هنا بوضوح موقف المكونات الداعمة لقوات الدعم السريع، والدوائر المرتبطة بمشاريع إعادة تأسيس الدولة خارج الإطار المؤسسي القائم. فجوهر البيان– المتمثل في رفض الكيانات الموازية، والتشديد على وحدة مؤسسات الدولة– يضرب في العمق الأساس النظري لتحالف «تأسيس»، الذي يقوم على فكرة القطيعة مع الدولة السودانية الحالية وإعادة بنائها من نقطة الصفر. من هذا المنظور، لا يمثل البيان مجرد اختلاف في الرؤى، بل نقضاً صريحاً لشرعية المشروع نفسه.
لذلك، لم يُنظر إلى الخطوط الحمراء، باعتبارها موقفاً مصرياً قابلاً للاحتواء أو الالتفاف عليه، بل كإعلان يضيق مساحة المناورة الإقليمية، ويسحب الغطاء السياسي المحتمل، ويضع هذه القوى في مواجهة مباشرة مع دولة ذات ثقل إقليمي وتأثير دولي معتبر. وبهذا المعنى، أصبح الخيار محصوراً بين مسارين أحلاهما مرّ: إما الصدام العلني مع القاهرة، بما يحمله من مخاطر العزلة والتصعيد، أو مراجعة داخلية تفرض مقاربة أكثر برجماتية، قد تعني التنازل عن بعض المسلمات المؤسسة للمشروع.
قوى مدنية
في المقابل، تعاملت قوى مدنية ذات نزعة برجماتية مع البيان بهدوء محسوب، يعكس إدراكها لطبيعة اللحظة، أكثر مما يعكس موقفاً مؤيداً أو معارضاً. هذه القوى التي تحافظ على قنوات تواصل مفتوحة مع أطراف إقليمية متعددة، لم تُفاجأ بمضمون الخطوط الحمراء، لكنها رأت في إعلانها العلني تقليصاً لمساحة الغموض الاستراتيجي التي كانت تحيط بالموقف المصري، وتحويلاً له إلى مرجعية، يمكن البناء عليها في حسابات المرحلة المقبلة.
غير أن المعضلة الأساسية لهذه القوى تظل في تعقيد العلاقة المصرية مع الإسلاميين، وهي عقدة مركزية في المشهد السوداني. فمن جهة، لا يطمئنها هذا الموقف إلى إمكانية إعادة إنتاج تحالفات سابقة، أثقلت التجربة الانتقالية، ومن جهة أخرى، يحدّ من قدرتها على المناورة الداخلية، في واقع لا يزال الإسلاميون جزءاً فاعلاً من معادلته السياسية والاجتماعية. ومع ذلك، تبقى هذه القوى حريصة على عدم تجاوز الخطوط الحمراء المصرية، إدراكاً لثقل القاهرة في أي تسوية مستقبلية، ولدورها المحوري في موازين الإقليم.
الجيش
أما الترحيب الأوضح بالبيان، فقد جاء من معسكر الجيش وحلفائه، الذين رأوا فيه إعادة تموضع مصرياً، يخدم رؤيتهم للصراع ويعزز موقفهم في لحظة ضاغطة. ففي ظل تراجع شبكة الحلفاء الإقليميين، وتصاعد الضغوط الأمريكية، بدا البيان بمثابة رافعة سياسية ومعنوية، تعيد تثبيت القاهرة كشريك استراتيجي رئيسي، وربما كأهم سند إقليمي متاح في المدى المنظور.
هذا الارتياح لا ينفصل عن شعور متزايد داخل هذا المعسكر، بأن الحرب في السودان لم تعد شأناً داخلياً خالصاً، بل باتت جزءاً من صراع إقليمي أوسع، تتداخل فيه حسابات الأمن القومي، والنفوذ، وإعادة تشكيل الدول الهشة. في هذا السياق، يُنظر إلى أي دعم إقليمي صريح، باعتباره مكسباً استراتيجياً في معركة طويلة الأمد، لا مجرد موقف دبلوماسي عابر.
مأزق بنيوي
في المحصلة، تكشف «الرجة الصامتة» التي أحدثها بيان الخطوط الحمراء عن عمق الأزمة السودانية، أكثر مما تكشف عن طبيعة الموقف المصري. فالتفاعل المتباين مع البيان يعكس دولة لم تحسم بعد تعريف سيادتها، ولا حدود قرارها، ولا طبيعة علاقتها بجوارها الإقليمي. وبين تقاطع المصالح مع القاهرة، والخوف المزمن من إعادة إنتاج الوصاية، تتشكل ردود الأفعال السودانية بوصفها تعبيراً عن مأزق بنيوي، يتجاوز بياناً بعينه، ويتجاوز فكرة الخطوط الحمراء نفسها، ليطال سؤال الدولة ومصيرها في زمن الانهيار.






