ليس ما يجري اليوم في القرن الإفريقي وجنوب البحر الأحمر تعبيرا عن أزمة إقليمية عابرة، ولا يمكن اختزاله في تحركات إسرائيلية منفردة، أو طموحات إثيوبية صاعدة، أو سيولة أمنية فرضتها الحرب في السودان. نحن إزاء لحظة إعادة تشكل بنيوي للنظام الإقليمي المحيط بالعالم العربي، لحظة تعاد فيها صياغة مفاهيم الأمن، وحدود النفوذ، وأدوار الفاعلين، بعيدا عن منطق الصدامات الكبرى، وبقرب شديد من منطق الإزاحة الهادئة والتراكم البطيء المنتج لمتغيرات كيفية..

في هذا السياق، يصبح الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال، وتعميق الشراكة مع إثيوبيا، وتنامي الحضور الإسرائيلي في المواني والبنى الأمنية للقرن الإفريقي، حلقات في مسار واحد، لا يمكن فصلها عن انهيار الدولة السودانية، ولا عن تراجع الفاعلية العربية في إدارة محيطها الجنوبي، ولا عن تحوّل البحر الأحمر من ممر ملاحي شبه مستقر إلى فضاء أمني اقتصادي مفتوح على معادلات التنافس الدولي. الأهم من ذلك كله، أن هذه التحولات لا تستهدف الدول العربية عبر المواجهة المباشرة، بل عبر إعادة تعريف دورها تدريجيا، من فاعل مؤثر في الأمن الإقليمي إلى متلقية لترتيباته الملبية لمصالح ثالوث واشنطن تل أبيب أديس أبابا .

في المقابل، تأتي التحركات المصرية، بما في ذلك الحضور العسكري في الصومال، كإشارة على إدراك متأخر، ولكن ضروري بأن القرن الإفريقي لم يعد خارج معادلة الأمن القومي العربي، وأن تركه لفاعلين من خارج الإقليم يفضي بالضرورة إلى إعادة هندسة البحر الأحمر على نحو يضعف القدرة العربية على الفعل، ويؤثر على القدرات المصرية. وبين هذا وذاك، تقف القاهرة أمام اختبار مزدوج: ليس فقط كيف تواجه تمددا إسرائيليا متصاعدا، بل كيف تدير تحولا إقليميا أوسع، تتشابك فيه الطموحات الإثيوبية، والسيولة السودانية، وتدويل الأمن البحري، في لحظة تتآكل فيها الأدوات العربية التقليدية.

ملامح المخاطر ومساراتها

يتخذ التهديد الراهن طابعا تراكميا لا انفجاريا. فهو لا يقوم على صدامات عسكرية مباشرة، بل على سلسلة من التحولات البطيئة التي تفضي في مجموعها، إلى إزاحة هادئة للدور العربي من معادلة أمن البحر الأحمر. أول هذه المخاطر يتمثل في انتقال الوجود الإسرائيلي في القرن الإفريقي من ترتيبات غير رسمية إلى أطر قانونية وسياسية معلنة، بما يمنح هذا الوجود طابع الاعتياد ويخفض كلفته السياسية دوليًا، ويخلق سابقة يسهل البناء عليها لاحقا.

الخطر الثاني، يرتبط بالسعي الإثيوبي المتسارع لكسر معضلة الدولة الحبيسة، وتحويل الوصول إلى البحر الأحمر من مطلب اقتصادي إلى مشروع سيادي أمني مدعوم خارجيا. هذا التحول لا ينفصل عن إدراك إثيوبي، بأن ميزان القوى الإقليمي، في لحظة السيولة الراهنة، يسمح بمغامرات محسوبة، خاصة في ظل انشغال مصر بملفات متعددة، وتراجع القدرة العربية على إنتاج موقف جماعي متماسك وأيضا مؤثر.

أما الخطر الثالث، فيتجسد في تصاعد خطاب تدويل أمن البحر الأحمر، حيث تمت عسكرته من منصة جيبوتي، ثم يعاد حاليا تقديمه بوصفه ممرا دوليا، يحتاج إلى ضمانات أمنية متعددة الأطراف، بصيغ تتجاوز دول الشاطئ، وتفتح المجال أمام فاعلين من خارج الإقليم، بمن فيهم إسرائيل، لتقديم أنفسهم كجزء من الحل لا كطرف ذي أجندة خاصة. ويتكامل هذا مع خطر رابع، يتمثل في الطابع الأمني المتزايد للاستثمار في المواني في الضفة الإفريقية، حيث تتداخل المواني مع القواعد، واللوجستيات مع الاستخبارات، في بيئة تعاني أصلا من هشاشة الدولة وضعف الرقابة.

ويبقى الخطر الخامس والأكثر تأثيرا، هو استمرار تفكك السودان، وتحوله من عمق استراتيجي عربي إلى فراغ جيو سياسي مفتوح، تتقاطع فيه محاور متعددة، وتعاد من خلاله صياغة توازنات جنوب البحر الأحمر، على نحو يضعف الموقع العربي ككل، لا مصر وحدها.

على المستوى الدولي، أصبح البحر الأحمر اليوم فضاء أمنيا– اقتصاديا مركبا، تتقاطع فيه التجارة العالمية مع تنافس القوى الكبرى، ومع طموحات فاعلين إقليميين يسعون إلى إعادة تعريف مواقعهم في النظام الدولي.

في هذا السياق، تتحرك إسرائيل، باعتبارها فاعلا وظيفيا، لا يسعى إلى الهيمنة المباشرة، بل إلى الاندماج الهادئ في منظومات أمنية واقتصادية ناشئة، مستفيدة من الفراغ أكثر مما تصنعه. هذه المقاربة تجد قبولا متزايدا في بيئة دولية، تميل إلى إدارة الأزمات، بدلا من حلها، لكنها تفضي في المحصلة الإجمالية إلى إعادة إنتاج معادلة إقصائية، يصبح فيها العرب أطرافا متلقية، لترتيبات تصاغ خارج دوائرهم.

في هذا السياق، جاء التحرك العسكري المصري في الصومال؛ ليعكس إدراكا متزايدا، بأن ترك القرن الإفريقي خارج معادلة الفعل المصري لم يعد ممكنًا. غير أن أهمية هذا التحرك لا تكمن في حجمه العسكري، بل في دلالته السياسية. فالقاهرة تعيد إدراج القرن الإفريقي ضمن نطاق أمنها القومي، وتبعث برسالة مفادها، أن البحر الأحمر ليس ساحة مفتوحة لإعادة توزيع النفوذ دون حضور عربي.

في الوقت ذاته، يبدو هذا التحرك محسوبًا بعناية، بما يعكس وعيًا مصريا بمخاطر عسكرة المشهد. فمصر تدرك أن تحويل الحضور إلى استعراض عسكري صلب قد يوفر الذريعة لمزيد من التدويل، ويخدم سرديات تسعى إلى تصوير البحر الأحمر كساحة نزاع، لا كمنطقة إدارة مخاطر..

وربما لا يمكن قراءة التحولات الجارية دون التوقف عند السودان. فالسودان لم يكن يوما مجرد دولة جوار، بل عنصر توازن بنيوي في معادلة الأمن المصري والعربي. فانهياره لا يعني فقط تهديدًا حدوديا أو إنسانيا، بل يعني فتح المجال أمام إعادة رسم التوازنات الإقليمية على حساب الدور العربي، ذلك أن استمرار الحرب السودانية دون أفق تسوية، يحول البلاد إلى ساحة نفوذ مفتوحة، ويقوض أي محاولة لبناء مقاربة عربية متماسكة لأمن البحر الأحمر. ومن هنا، يصبح استقرار السودان شرطا مسبقا لأي استراتيجية عربية، تسعى إلى استعادة زمام المبادرة.

وفي سياق مواز، نرى التوسع الإثيوبي في الإقليم، يعكس تحولا في إدراك الذات والدور. فالدولة التي فرضت أمرا واقعا في ملف سد النهضة، باتت أكثر استعدادا لاختبار حدود القوة، وأكثر جرأة في السعي إلى منفذ بحري، مدفوعة بإدراك أن النظام الإقليمي يمر بمرحلة إعادة تشكل، تسمح بإعادة التفاوض على القواعد.

هذا الطموح الإثيوبي المدعوم إسرائيليا وغربيا بدرجات متفاوتة، يضع مصر أمام معضلة مركبة: كيف يمكن احتواء إثيوبيا دون دفعها نحو مزيد من التحالفات المضادة؟ وكيف يمكن الدفاع عن المصالح العربية دون الانزلاق إلى صدام مباشر يعيد إنتاج عدم الاستقرار؟

على المدى القصير، يظل سيناريو التعايش القلق هو الأكثر ترجيحا، حيث تستمر التحركات الإسرائيلية– الإثيوبية دون تحولها إلى بنية أمنية صلبة، مع بقاء هامش مناورة عربي محدود. أما على المدى المتوسط، فيبرز سيناريو الترسخ التدريجي، حيث تتحول الترتيبات المؤقتة إلى وقائع قانونية وأمنية، ويتم إعادة تعريف الأمن القومي العربي من موقع الدفاع لا الصياغة. في المقابل، يظل سيناريو إعادة التوازن العربي ممكنا، لكنه مشروط بتنسيق مصري عربي مؤسسي، وانخراط عربي فاعل في السودان، ومقاربة مصرية مختلفة للعلاقة مع إفريقيا.

ما تكشفه التحولات الجارية في البحر الأحمر والقرن الإفريقي، ليس فقط صعود أدوار جديدة، بل تراجع قدرة النظام العربي المؤثر على القاهرة على تعريف أمنه من داخل الإقليم. الخطر الحقيقي لا يكمن في خطوة واحدة، بل في المسار التراكمي الذي تعاد من خلاله صياغة مفاهيم الاستقرار، ومن يملك حق إدارتها. الرهان العربي اليوم ليس على منع التغيير، بل على إدارة مساره، بحيث لا يتحول إلى إقصاء هادئ للدور العربي في أحد أكثر أقاليم العالم حساسية.