في اللحظة التي كانت تضع فيها الدبلوماسية المصرية اللمسات الأخيرة على ‘كتابها الأبيض’ للإعلان عن مبدأ ‘الاتزان الاستراتيجي’ كعنوان للسياسة الخارجية في ‘جمهورية جديدة’، جاءت الإجابة من واشنطن باردة ومحملة بالدلالات.
تقرير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) حدد ثماني دول، ستلعب دورا محوريا في القرن الحادي والعشرين، حضرت السعودية، والإمارات، وتركيا، وغابت مصر. هذا الغياب عن قائمة “الكبار الصاعدين”، يفتح الباب أمام سؤال، يتجاوز بيانات الخارجية: هل ما تمارسه القاهرة اليوم هو ‘اتزان استراتيجي’ نابع من فائض القوة، أم أنه “تكتيك للتكيف” فرضته أزمة الديون ووهن المؤسسات المدنية، وغياب المبادرة والجرأة الاستراتيجية؟
النظام الدولي الحالي يتسم بتحول سريع، تتحدى فيه هيمنة الغرب التقليدية صعود قوى إقليمية مؤثرة داخل الجنوب العالمي. في هذا المشهد المتغير الذي يتصف بعدم اليقين وتحول نحو التعددية القطبية، حدد المركز الأمريكي الشهير ثماني دول محورية- البرازيل، والهند، وإندونيسيا، والمكسيك، والمملكة العربية السعودية، وجنوب إفريقيا، وتركيا، والإمارات العربية المتحدة- باعتبارها الجهات الفاعلة الرئيسية التي ستحدد خياراتها الاستراتيجية مستقبل الاستقرار العالمي. تتميز هذه الدول بكونها “حلقة وصل” بين المناطق الصاعدة ومراكز القوى التقليدية، إذ تمتلك الكتلة الاقتصادية والبراعة الدبلوماسية والقدرات العسكرية اللازمة للتعامل مع القوى العظمى باستقلال استراتيجي. ومن اللافت للنظر غياب مصر عن هذه القائمة المرموقة، وهي دولة لطالما اعتُبِرت حجر الزاوية الذي لا غنى عنه في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط وإفريقيا.
ولفهم سبب استبعاد مصر، يجب تقييم المفارقة بين عقيدة “الاتزان الاستراتيجي” التي قدمتها وزارة الخارجية المصرية من أيام، وبين وضع مصر الحالي الذي يصفه عدد من المراقبين، بأنه “مهمش جيو سياسيا” و”استجابة رد الفعل”.
إطار عمل وزارة الخارجية
تستند الرواية الرسمية للسياسة الخارجية المصرية في “الجمهورية الجديدة” إلى مفهوم “الاتزان الاستراتيجي”. فبحسب الكتاب الأبيض الذي. أصدرته وزارة الخارجية المصرية، فإن هذه العقيدة ليست مجرد تكتيك للبقاء، بل هي استراتيجية استباقية مصممة لحماية المصالح الوطنية (مصر أولا) في عصر الاستقطاب الدولي. تستند هذه العقيدة إلى ثلاث ركائز أساسية: الاحترام المطلق للدولة الوطنية، باعتبارها الوحدة الأساسية للنظام الدولي، وسياسة خارجية متوازنة في مواجهة القوى العالمية، ورفض الانخراط في تحالفات دولية ذات محصلة صفرية، أما الركن الثالث فهو: إعادة تأكيد استقلالية مصر في صنع القرار ومكانتها المستحقة كقائدة إقليمية في الدوائر العربية والإفريقية والمتوسطية.
تؤكد وزارة الخارجية، أن مصر قد مارست بنجاح “المرونة الاستراتيجية”، مما سمح لها بتنويع شركائها مع الحفاظ على علاقاتها الأمنية التاريخية مع الغرب. تشير القاهرة إلى الارتقاء بعلاقتها مع الاتحاد الأوروبي إلى “شراكة استراتيجية شاملة”، وانضمامها إلى تحالف بريكس+ في عام 2024 كدليل على مكانتها العالمية المتنامية، علاوة على ذلك، تسلط وزارة الخارجية الضوء على “دبلوماسية مصر المتخصصة” في الوساطة (كما في غزة) والطاقة (كمركز للغاز في شرق المتوسط) والقيادة الثقافية والدينية من خلال الأزهر، كركائز تحافظ على أهميتها. من وجهة نظر الحكومة المصرية، سمح “الاتزان الاستراتيجي” للدولة بالبقاء “شريكاً ضرورياً” لكل من واشنطن وتحالفات الجنوب العالمي الناشئة.
البلاغة مقابل الواقع البنيوي
وعلى الرغم من الخطاب الطموح لوزارة الخارجية، يرى باحثون مستقلون، أن السياسة الخارجية المصرية تتسم بمفارقة جوهرية: سردية كبرى للتجديد في مقابل واقع من الشلل الهيكلي وتضاؤل المبادرة.
يري هؤلاء، أن السبب الرئيسي لاستبعاد مصر من قائمة “الدول الثماني المحورية” هو أن موقفها الاستراتيجي، يُنظر إليه غالبا على أنه “رد فعل يتجنب للمخاطر ويفتقد للجرأة”، بدلاً من كونه استباقياً مبادرا. وبينما تستخدم الدول الثماني المحورية نفوذها لتوجيه الشؤون الإقليمية والعالمية، يُنظر إلى مصر بشكل متزايد، على أنها “تكافح لإطفاء الحرائق”-أي تدير الأزمات المباشرة على طول حدودها فقط.
يشير الباحثون، إلى أن “الجمهورية الجديدة” قد شهدت عملية مركزية مفرطة، حيث تتركز عملية صنع القرار داخل دائرة ضيقة تسيطر عليه، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى تهميش السلك الدبلوماسي المحترف. إن “جمود صنع القرار” هذا يمنع الدولة من التكيف مع التحولات العالمية المعقدة. يرى المراقبون، أنه عندما توظف السياسة الخارجية كأداة لإضفاء الشرعية الداخلية- مثل استخدام نزاع سد النهضة الإثيوبي لصرف الانتباه عن الأزمة الاقتصادية- تفقد الدولة القدرة اللازمة للقيادة الإقليمية الفعالة.
القيود الاقتصادية والتهميش الجيو سياسي
من السمات المميزة لـ “الدولة المحورية” كتلتها الاقتصادية وقدرتها على توفير المنافع العامة العالمية. في المقابل، فإن السياسة الخارجية لمصر مقيدة بشدة بـ”قيد اقتصادي”. تُعد مصر حاليًا ثاني أكبر دولة مدينة لصندوق النقد الدولي، ويصل إجمالي دينها الخارجي إلى ما يقرب من 153 مليار دولار إلى 165 مليار دولار. من المتوقع، أن تستهلك خدمة الدين نسبة مذهلة تبلغ 65% من الميزانية السنوية في السنة المالية 2025/ 26.
وقد أدى هذا الاعتماد المزمن إلى “التهميش الجيو سياسي”، وهي عملية تُجبر فيها الدولة على مواءمة مواقفها الدبلوماسية مع تفضيلات دائنيها. لعقود من الزمن، استطاعت مصر استغلال ثقلها الإقليمي لتأمين مساعدات غير مشروطة؛ إلا أن دول الخليج الآن تطالب بـ”قيمة مقابل المال”، مما يستلزم بيع أصول مملوكة للدولة وتقليص حضور مؤسساتها في الاقتصاد. تُعتبر صفقة رأس الحكمة مع الإمارات التي بلغت قيمتها 35 مليار دولار، مثالاً على “الدبلوماسية القائمة على الأصول”، حيث يقوم الدائنون بالاستحواذ على الأراضي لتجنب الانهيار المالي. وفي حين أن هذا يوفر سيولة قصيرة الأجل، إلا أنه يحد بطبيعته من النفوذ الاستراتيجي طويل الأجل للقاهرة، مما يحرمها من مكانة “المفصل” السيادي الذي يملي الشروط على القوى العظمى.
علاوة على ذلك، فقد سمحت اتفاقيات إبراهام للإمارات والبحرين بإقامة علاقات مباشرة مع إسرائيل، مما أنهى احتكار مصر والأردن للتطبيع وتهميش القاهرة في “النظام الإقليمي الجديد” الذي يتمحور حول الخليج وإسرائيل. تُعطي واشنطن الآن الأولوية لعلاقاتها مع دول الخليج وإسرائيل، وتعتبر مصر لاعباً أقل أهمية.
قليل جدًا ومتأخر جدًا
إن أبرز دليل على تراجع مكانة مصر هو عجزها عن التأثير في نتائج الأحداث في جوارها المباشر، وهو دور محوري في تعريف الدولة المحورية. يصف مقال صادر من أيام في تشاتام هاوس- مركز التفكير البريطاني الشهير- استجابة مصر للأزمات الإقليمية، بأنها “قليلة جداً ومتأخرة جداً”، ويضيف باحث آخر، أنها تتصف بالركوب المجاني- أي عدم الرغبة أو القدرة في دفع تكاليف القرارات المستحقة.
1. أزمة السودان: يُعدّ السودان ذو أهمية حيوية للأمن القومي المصري، لا سيما فيما يتعلق بمياه النيل واستقرار الحدود. إلا أنه في الحرب الأهلية التي اندلعت عام 2023، لم تتمكن مصر من فرض النتيجة التي تفضلها. تدعم القاهرة بقوة القوات المسلحة السودانية، لكنها ترددت في تقديم مساعدة عسكرية حاسمة، ويرجع هذا التردد جزئياً إلى “فخ الوسيط”: إذ تتلقى قوات الدعم السريع دعماً من الإمارات العربية المتحدة، الممول الرئيسي لمصر. وهكذا، تجد مصر نفسها عالقة بين مصالحها الأمنية الوجودية في الخرطوم ومصالحها المالية الوجودية في أبوظبي، مما يجعلها في موقف رد فعل، بينما تحقق قوات الدعم السريع مكاسب كبيرة على الأرض.
2. الوساطة في غزة: في حين تُبرز وزارة الخارجية المصرية دورها كوسيط في غزة كدليل على أهميتها، يرى الباحثون، أن هذا الدور هو أقرب إلى كونه؛ نتيجةً لظروف جغرافية معينة منه دليلاً على قيادة فعّالة. مصر هي الدولة الوحيدة التي تشترك في حدود برية مع غزة، ولا تسيطر عليها إسرائيل، مما يجعلها شريكًا “لا غنى عنه” بحكم الضرورة، وليس خيارًا استراتيجيًا. يشير المراقبون، إلى أنه عندما اقترحت إدارة ترامب خطة لإعادة إعمار غزة، رُفض اقتراح مصر المضاد على الفور من قبل واشنطن وإسرائيل، مما يسلط الضوء على افتقار القاهرة إلى النفوذ الفعلي لفرض حل لليوم التالي.
3. سد النهضة: يمثل النزاع الذي دام عقداً من الزمن مع إثيوبيا حول النيل فشلاً كبيراً لـ “حق النقض” المصري. فعلى الرغم من أن نهر النيل “شريان حياة وجودي”، إلا أنها لم تتمكن من الحصول على اتفاقية ملزمة قانوناً، وقد انتهجت إثيوبيا بنجاح سياسة “الهيمنة المائية”، حيث أكملت عمليات ملء السد بشكل أحادي.
يُعدّ فقدان القدرة على الردع الإقليمي سببًا رئيسيًا، يجعل المحللون يرون أن مصر تتخلف عن القوى الاستباقية مثل تركيا.
تقييم “الدبلوماسية المتخصصة”
تصف وزارة الخارجية المصرية انضمام مصر إلى مجموعة بريكس+ وسعيها لأن تصبح مركزاً للطاقة، بأنهما خطوتان جريئتان نحو الحفاظ على قدرتها على التأثير رغم القيود المادية والاقتصادية. ومع ذلك، فإن هناك تقييمات أكثر تشاؤمًا. إذ يُوصف طموح “مركز الطاقة” بأنه هش؛ فقد أجبر انخفاض الإنتاج في حقل ظهر وارتفاع الطلب المحلي مصر على ترشيد استهلاك الكهرباء في عام 2024، مما قوّض مصداقيتها كمصدر موثوق للطاقة. إن استراتيجية الطاقة العدوانية لإسرائيل- كما ظهرت في صفقة الغاز الأخيرة- تهدد الإرادة المصرية، في أن تكون مركزا إقليميا للغاز.
وبالمثل، يُفسر التحول نحو مجموعة بريكس+ على أنه استجابة “يائسة” لنقص الدولار الذي ابتلي به الاقتصاد منذ عام 2022. إن انضمام مصر إلى مجموعة بريكس+ يمنحها أنظمة دفع بديلة لـ”التخلص من هيمنة الدولار” في التجارة والحصول على “قروض ميسرة” من بنك التنمية الجديد، ولكنه لا يحل نقاط الضعف الهيكلية للاقتصاد السياسي المصري. تُعدّ العضوية في مثل هذه التكتلات آليةً لإدارة “دوامة هبوطية” من الديون، بدلاً من كونها توسعاً استراتيجياً للقوة العالمية- على حد قول أحد المراقبين.
فاعلية في بعض الملفات
وعلى الرغم من هذه التقييمات السلبية للأداء الخارجي المصري، إلا أنها أغفلت عددا من المبادرات التي أظهرت فاعلية دور مصر. شهدت السياسة الخارجية المصرية عدة تحولات هامة من خلال مواقف، تؤكد على الاستقرار الإقليمي والتنويع الدولي أبرزها:
١-الموقف المصري في فبراير 2025 تجاه طروحات إدارة ترامب بشأن غزة. اتسم الموقف المصري بـ”الدبلوماسية الحذرة والثبات على المحددات السيادية”. أكد الموقف المصري على الرفض القاطع لـ”التهجير القسري” أو “توطين النازحين” في سيناء، والتمسك بـ “الحل السياسي الشامل” مقابل “الصفقات الاقتصادية”. تمسكت مصر، بأن إدارة معبر رفح يجب أن تكون فلسطينية- مصرية، ورفضت وجوداً عسكرياً إسرائيلياً دائماً في “محور فيلادلفيا”، معتبرة ذلك خرقاً لملحقات اتفاقية السلام (كامب ديفيد). دعمت مصر عودة السلطة الفلسطينية (بعد إصلاحها أو توافقها مع القوى الوطنية) لإدارة القطاع، لضمان وحدة التمثيل الفلسطيني ومنع تحول غزة إلى كيان منفصل تماماً، تديره قوى غير رسمية.
٢- استعادة الدور الإفريقي: من التجميد إلى القيادة، فبعد تجميد عضوية مصر في الاتحاد الإفريقي (2013)، نجحت الدولة في العودة بقوة وتولت رئاسة الاتحاد الإفريقي عام 2019. لم تكن مجرد رئاسة شرفية، بل ركزت مصر على إطلاق اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA)، وتحولت بوصلة السياسة المصرية نحو العمق الإفريقي بمشاريع تنموية (مثل سد تنزانيا)، مما أعاد لمصر نفوذها في ملفات حيوية مثل أمن حوض النيل.
٣- ريادة ملف المناخ (COP27): نجحت مصر في فرض أجندة “الخسائر والأضرار” لصالح الدول النامية، وهو انتصار دبلوماسي تاريخي لدول القارة الإفريقية في مواجهة الدول الصناعية الكبرى.
الخيط الناظم بين هذه المواقف وغيرها، هو الانتقال من “التبعية” لقطب واحد إلى “الاستقلال الاستراتيجي”، ومن السكون ورد الفعل إلي المبادرة الاستراتيجية.
مصر تستطيع توظيف موقعها الجغرافي وثقلها العسكري وقوتها الرمزية لإجبار القوى الدولية على التنسيق معها في قضايا الأمن، والطاقة، والهجرة غير الشرعية ومكافحة الإرهاب… إلا أنها تفتقد في أحيان كثيرة المبادرة والرغبة في دفع الأثمان. إن السبب الرئيسي- في تقديري- لاستبعاد مصر من تقرير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، هو أنها تفتقر حاليًا “القدرة” و”الحضور” اللازمين لتشكيل النظام العالمي في القرن الحادي والعشرين. لقد أعطى تحويل الدولة المصرية إلى “جمهورية جديدة” الأولوية لبقاء النظام واستمراره ومعالجة الأزمة الاقتصادية الخانقة، مما أضعف المؤسسات المدنية على حساب تنويع الأدوات والمؤسسات اللازمة للدور الإقليمي القائد.
إن “الاتزان الاستراتيجي” في وثيقة الخارجية المصرية هو عقيدة للتكيف بالنسبة لدولة محدودة الموارد، تتمتع بالمرونة الكافية للحفاظ على أهميتها كـ”مثبت إقليمي”، ولكنها هشة للغاية، بحيث لا يمكن اعتبارها “دولة محورية”.
وما دامت خدمة الدين تستنزف 65% من الموازنة، والمصادر الرئيسية للعملات الأجنبية عرضة للصدمات الخارجية، والمؤسسات المدنية في حالة تحلل دائم… فستظل مصر في وضع “مكافحة الحرائق”. وبينما يزعم الكتاب الأبيض، أن مصر ترفض اختيار جانب على حساب آخر من القوى العظمي، بناءً على المصلحة الوطنية، يخلص الباحثون، إلى أن مصر لم تعد قادرة على تحمل تكلفة الانحياز إلى أي طرف أو قيادة أي قضية. بحسب أحد تحليلات السياسات، فإن مصر تمتلك السمات الجغرافية والديموجرافية والثقافية والعسكرية لقوة محورية، لكنها تتصرف كـ”مستثمر متمرس”، يحاول فقط التحوط ضد الانهيار إلى أن يتمكن من الانتقال من “تصفية الأصول” إلى “النمو الصناعي”، ومن “الاستجابة للأزمات” إلى “التوجيه الاستباقي”. وستبقى مصر مهمشة، بينما تحدد ديناميكيات النظام العالمي الجديدة ملامح المستقبل.






