الأطفال والشباب الذين يحفظون الكتاب المجيد، ويتقنون تلاوته بقراءات شتى، ويجمعون بين الإتقان وجمال الصوت، ثم تجمعهم الدولة ممثلة في وزير الأوقاف، ثم تقيم بهم مهرجانات ومسابقات علنية ورسمية، يحتشد لها الإعلام الرسمي ويقف وراءها بكل قوته، هؤلاء الأطفال والشباب لم ينجزوا ما أنجزوا بفضل الدولة، الدولة ليس لها أي فضل في إحراز هذا الترقي السامي الذي أنجزوه، الفضل الأول والأخير يعود للأسرة، يعود للوالدين اللذين نجحا في تكوين أسرة قادرة على تنشئة الأطفال فيها على هذا النحو الذي يُرضيهم، أُسَرٌ هي في الغالب من الطبقات الوسطى غير المكروبة وغير المفرومة في الجري أربع وعشرين ساعة وراء الرغيف ثم وراء غموس الرغيف، أُسَرٌ لديها حصانة ثقافية كافية؛ لتحمي نفسها وأطفالها من تبديد طاقة الروح في تشتت وتيه عوالم السوشيال ميديا المتلفة للوقت والمخربة للأعصاب، والمشتتة لقوى الذكاء والنباهة لدى الكبار قبل الصغار.
الدولة على النقيض من ذلك، منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، وهي تتخلى عن أعز الثروات التي ينتجها أي شعب، وتملكها أي دولة، تتخلى عن رأس المال البشري الذي هو بالدرجة الأولى يتمثل في الأطفال والشباب في مراحل التعليم المختلفة من رياض الأطفال حتى الجامعات. خمسون عاماً والدولة لا تنجح في شيء قدر نجاحها في التخلي المنظم عن رسالتها الاجتماعية، وعن التزامها التربوي وعن مسئوليتها تجاه أغلى رأس مال وهو رأس المال البشري.
تخلت الدولة منذ سبعينيات القرن العشرين عن التمسك بأي مشروع وطني له معنى، فتركت التعليم للمستثمرين، كما تركته للمشاريع الفكرية المضادة للدولة وللحداثة معاً، ثم تركته يضمحل ويذوي، فلم تعد المدرسة مدرسة، ولم تعد الجامعة جامعة، فقد التعليم بوصلته، لأنه فقد موقعه في المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فلم يعد كما كان سبيلاً كريما للحراك الاجتماعي، يتعلم الفقير، ثم يجتهد، ثم يتفوق، ثم يتخرج، فيجد مجتمعاً يعترف به، ويجد عملاً يليق به، والعمل يكفيه ليعيش مادياً، كما يكفيه لينال مركزاً اجتماعياً محترماً. تعليم هو جزء من توافق اجتماعي على منظومة قيم ومعايير وأخلاق، يتوافق عليها الناس طوعاً ويحترمونها ويلتزمون بها من تلقاء أنفسهم. بعد خمسين عاماً 1975- 2025 تم الإجهاز الكامل على مرفق التعليم، تم استنزافه، تشريده، تشديده، شرزمته، احتقاره، إهانته، الحط من شأنه، إنهم يعاملونه كما لو كان عدواً، ويمكرون به كما لو كان خطراً، فلا قيمة لمدرسة، ولا قيمة لجامعة، ولا قيمة لتلميذ، ولا قيمة لبحث علمي، ولا قيمة لأستاذ، ولا وجود لمجتمع علمي، ولا احترام لحريات أكاديمية، فقط أطلال مدارس، فقط هياكل جامعات، فقط أشباح تلامذة وأساتذة، التلميذ لا يرى مستقبلاً في التعليم، والأستاذ لا يرى كرامةً في التعليم. وذلك كله يعود لأمرين:
1 – أولهما، أن المجتمع ابتكر أساليب لنوال المكانة الاجتماعية وتحقيق الثروات والفوز بالسلطة دون اشتراط التعليم ودون أن يكون المرء على قدر من الفكر أو الثقافة والأخلاق أو الذوق أو الاستنارة أو التحضر في الحياة وفي التعامل مع الناس، يمكنك أن تكون من الوجهاء ومن الأغنياء ومن أصحاب النفوذ، دون اشتراط أن تكون على درجة طيبة من التعليم وحسن التفكير وذكاء التعبير ويقظة الضمير.
2 – ثانيهما، أن الدولة ذاتها ترى التعليم عبئاً عليها، ولا ترى له وزناً في صناعة التقدم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، إدراك الدولة هو من الغباء، بحيث لا يرتقي لفهم واستيعاب خطورة التعليم، ومن ثم لا يهتز له ضمير وهي تتخلى عنه، ثم تتركه للمستثمرين المقربين منها أو المتربحين، ثم تنزل هي عن مكانتها كدولة، وتنزل لتنافس المستثمرين والمتربحين في الاسترزاق والتربح والانتفاع من التعليم الذي صار تجارة رائجة. وهذا هو أسوأ دَرَك، وصل إليه حال التعليم في مصر، الدولة أحد المتنافسين على التربح من التعليم والمتاجرة به وبالناس، فمن كان من المصريين صاحب أموال وافرة، فهو يستطيع تعليم أولاده في مدارس وجامعات مميزة، ومن كان لا يملك المال الوافر فليس أمام أولاده إلا المدارس والجامعات الأقل في جودة التعليم، وأغلبية المصريين فقراء أو تم إفقارهم، ومن ثم فلا فرصة أمامهم في تعليم أبنائهم في مدارس وجامعات، تحجز لهم مقاعد مضمونة في سوق العمل وسوق الحياة.
التطور الأخطر هو: الشباب الذي يدرس الآن في الجامعات، هم كانوا أطفالاً ربما في الثالثة أو الرابعة من العمر عندما اندلعت ثورات الربيع العربي 2010 ثم 2011، وهي في جوهرها كانت ثورات شباب، لها روح الشباب، وطموح الشباب، ونقاء الشباب. ثم انقضت عليها الثورات المضادة، تفتك بها، وتفتك بمن شارك فيها من الشباب، وتهدم رمزية الشباب، وتقوض أخلاقية الشباب، وتجرد الربيع العربي وشبابه من كل قيمة وطنية شريفة ومن كل من معيار أخلاقي نظيف. هؤلاء الشباب الذين هم الآن في سنوات تعليمهم الجامعي، عاشوا على الأقل خمسة عشر عاماً من وعيهم المبكر في اضطراب قيمي شامل بين قيم الثورات وقيم الثورات المضادة، كما عاشوا هذه الفترة ذاتها في عُسر اقتصادي، يزداد كل يوم شدة ومشقة على أهليهم وذويهم، كما عاشوا الفترة ذاتها في ظل ديكتاتورية، ما بعد الثورات حيث الانغلاق الكامل لكافة مجالات التعبير والتنفيس، ربما هذا يفسر لي ولك: ما نسمعه من هؤلاء الشباب من لغة بذيئة نابية فظة سافلة، تتدفق على ألسنتهم بصورة عادية وطبيعية، كأنهم يقولون للمجتمع وللدولة: نحن لا نحترمكم ولا نقدركم ولا نهابكم ولا نقيم لكم اعتباراً.






