لم يستغرق هجوم بوندي في سيدني سوى لساعات قليلة بعد حدوثه؛ لتنهال التفسيرات من كل الاتجاهات.
في إسرائيل: إرهاب، معاداة للسامية، خطر الإسلاميين المتجدد، وبالتبعية استدعاء تلقائي لخطاب الأمن والضحية.
وفى الفضاء العربي: جاء التفسير المقابل، مؤامرة صهيونية متكاملة، عملية مدبرة، مسرحية هدفها؛ إنقاذ صورة إسرائيل بعد غزة، وبين الاتهامين عاد شبح الإسلاموفوبيا ليطفو في الغرب كإطار جاهز يربط الهوية بالعنف.
اللافت، أن هذه السرعة في التفسير لم تقابلها سرعة مماثلة في الفهم، فبين يقين إسرائيلي جاهز بالاتهام والمظلومية، ويقين عربي يشكّ قبل أن ينتظر دليلًا، غابت الصورة الأوسع، ماذا حدث فعلًا؟ كيف تشكّل الهجوم؟ ما الثغرات الأمنية؟ وما الذي لم تقله السلطات الأسترالية بعد رغم التحقيقات المعلنة؟
لا نسعى هنا إلى تقديم رواية بديلة جاهزة، ولا إلى ترجيح مؤامرة على أخرى.
بل ننطلق من تساؤلات أبسط: كيف تُدار الصدمات في لحظتها الأولى؟ ولماذا نميل جميعا دولا وجماهير إلى التفسير السريع، حين يكون الفهم هو الغائب الأكبر؟ والأهم كيف ستستفيد إسرائيل من هذا الحادث؟
لحظة التحوّل غير المعلنة
في الأيام التي تلت الحادث، كان منع التصعيد يتقدّم خطاب الأمن الداخلي، وظهر هذا من خلال ضبط الخطاب، حماية الجاليات ومواجهة معاداة السامية بوصفها تهديدًا داخليًا متناميًا.
في هذا السياق، أعلنت سلطات ولاية نيو ساوث ويلز عن تشديدات قانونية، تتعلق بخطاب الكراهية والرموز المتطرفة.
هذه الخطوة بحد ذاتها، ليست استثنائية لكن دلالتها السياسية تكمن في توقيتها وفي الانتقال السريع من منطق التحقيق؛ لكشف إبعاد الحادث إلى منطق الضبط الوقائي أولا.
هكذا تعمل الصدمة، لا تُغيّر القوانين فورًا، لكنها تغيّر أولويات النقاش. يصبح السؤال العاجل هو “كيف نمنع تكرار العنف؟” لا “كيف نقرأ السياق؟”.
إعادة ترتيب الأجندة الغربية: ما الذي تراجع؟.. ولماذا؟
قبل هجوم بونداي بأسابيع قليلة، كانت غزة تحتل موقعًا متقدمًا في النقاش الغربي، ليس فقط بوصفها ساحة حرب، بل بوصفها ملفًا قانونيًا وأخلاقيًا مفتوحًا.
لم يكن الحديث قاصرًا على التغطية الإخبارية اليومية، بل امتد إلى مستويات أعمق، اتهامات صريحة بالإبادة الجماعية، نقاشات قانونية حول جرائم الحرب، مطالبات داخل برلمانات أوروبية بمراجعة العلاقات مع إسرائيل، وضغوط شعبية غير مسبوقة في الشارع، والجامعات ووسائل الإعلام.
الأهم أن صورة إسرائيل داخل الرأي العام الغربي، خصوصا في أوروبا كانت تشهد تآكلًا واضحًا.
لم يعد الدفاع عنها تلقائيًا كما في مراحل سابقة، وبدأت المسافة تتسع بين الموقف الرسمي لبعض الحكومات وبين المزاج العام، خاصة بين الأجيال الشابة. في هذه اللحظة تحديدًا، كان النقاش يدور حول شرعية السلوك الإسرائيلي لا حول أمن المجتمعات الغربية.
بعد بونداي، لم تتغير الوقائع في غزة، ولم تتراجع التقارير الدولية، ولم تُغلق الملفات القانونية، لكن ما تغيّر هو موقع هذه الملفات داخل جدول الأولويات، عادت خطوة إلى الخلف، خطوة كافية؛ لتخفيف حدّتها وتأجيل ذروتها
هذا التراجع لم يكن نتيجة مراجعة سياسية واعية، بل نتيجة انتقال الغرب إلى حالة إدارة أزمة داخلية، ومن المعروف في حوادث مشابهة من قبل أن المجتمعات الغربية، حينما تتعرض لصدمة أمنية، تعيد تعريف الملح والمؤجل، بحيث يصبح السؤال الأول، كيف نحافظ على الاستقرار ونمنع انتقال العنف؟ كيف نضبط الشارع والخطاب؟
في هذه اللحظة، تتحول القضايا الخارجية حتى الأكثر إلحاحًا أخلاقيا إلى ملفات قابلة للانتظار.
وهنا تحديدًا يظهر المكسب الإسرائيلي الأول، والأهم: كسب الوقت فكل فترة يُدار فيها النقاش الغربي حول الاستقرار الداخلي، هي فترة تُؤجَّل فيها مواجهة الأسئلة الصعبة.
هل ما يحدث في غزة يرقى إلى إبادة جماعية؟
ما حدود مسئولية الحكومات الغربية عن دعم إسرائيل؟
وهل ما زال الإطار الأخلاقي والقانوني الذي يحكم العلاقة معها صالحًا؟
إعادة ترتيب الأجندة لا يبرئ إسرائيل، لكنه يمنحها مساحة زمنية ثمينة. لا تحتاج فيها إلى الدفاع المكثف أو تبرير الأفعال، لأن النقاش نفسه لم يعد في الصدارة.
هذا هو جوهر التحول بعد بونداي.
عودة الإسلاموفوبيا
في لحظات ما بعد الصدمات الأمنية الكبرى، لا تعمل المجتمعات الأوروبية فقط على احتواء الخطر، بل على إعادة تنظيم المجال العام نفسه، هنا يتقدّم خطاب معاداة السامية بوصفه أولوية أخلاقية وأمنية لا خلاف على مشروعيتها، مستندًا إلى تاريخ أوروبي مثقل بإرث الاضطهاد والمحرقة. غير أن التجربة المتكررة في أوروبا تُظهر أن هذا الخطاب في مثل هذه اللحظات لا يعمل منفردًا، بل يُستكمل عمليًا بخطاب موازٍ، أقل اعترافًا به وأكثر قابلية للانتشار، ومختبر نجاحه معهم هو ” الإسلاموفوبيا”.
هذا النمط ليس جديدًا ولا استثنائيًا، يمكن تتبّعه بوضوح بعد هجمات باريس عام 2015، ونيس عام 2016، وبرلين في العام نفسه، ثم فيينا عام 2020. في كل مرة، تكرّر المشهد ذاته تقريبًا: صدمة عنيفة، خطاب سياسي عن حماية القيم والنسيج المجتمعي، تشديد أمني واسع، وتوسيع صلاحيات المراقبة، بالتوازي مع إعادة تعريف “الخطر” بوصفه خطرًا داخليًا مرتبطًا بالهوية والانتماء.
في هذا السياق، يُعاد تأكيد حماية اليهود بوصفها التزامًا أخلاقيًا غير قابل للنقاش، وهو تأكيد مشروع في ذاته، بينما يتحول المسلمون بوصفهم جماعة، إلى موضوع اشتباه وقائي دائم.
لا يُقال ذلك صراحة في البيانات الرسمية، لكنه يُمارس عمليًا في السياسات، والتغطيات الإعلامية، وحدود التسامح مع الاحتجاج، وسقف الخطاب المقبول في الفضاء العام.
هكذا تتشكّل، بعد كل صدمة، معادلة غير مكتوبة تحكم المجال العام الأوروبي، اليهود ضحايا يجب حمايتهم بلا نقاش، والمسلمون مصدر قلق محتمل يجب مراقبته.
هذه الثنائية لا تُصاغ بهذه القسوة في الخطاب السياسي، لكنها تعمل ضمنيًا كمنطق إدارة للخوف.
بعد بونداي، أُعيد تنشيط هذا النمط داخل السياق الأوروبي والغربي الأوسع.
الهجوم لم يُقرأ بوصفه واقعة محلية معزولة، بل أُدرج سريعًا ضمن سردية عالمية عن تصاعد معاداة السامية والخطر الداخلي، وهو ما فعّل الآليات نفسها التي خبرتها أوروبا سابقًا، غير أن الفارق هذه المرة كان في التوقيت: جاءت الصدمة في لحظة، كان فيها التضامن مع غزة في ذروته، وكانت إسرائيل تواجه تآكلًا غير مسبوق في صورتها داخل الرأي العام الأوروبي، وضغوطًا سياسية وقانونية متصاعدة.
في هذا السياق، لم تعد الثنائية مجرد انعكاس لخوف أمني، بل تحوّلت إلى أداة سياسية وظيفية.
فبينما يُشدّد الخطاب الرسمي والإعلامي على مواجهة معاداة السامية، تُحاط الاحتجاجات المؤيدة لغزة بسياج من الريبة.
تُعاد صياغتها بوصفها قابلة للتصعيد، أو عرضة للاختراق، أو غير مناسبة لتوقيت حساس. يصبح التضامن نفسه موضع مساءلة، لا بسبب مضمونه، بل بسبب السياق الذي يُطرح فيه.
الخطوة الأخطر في هذا المسار هي انتقال الثنائية من مستوى المناخ الخطابي إلى مستوى الضبط القانوني.
يبدأ خطاب معاداة السامية في التحول من توصيف أخلاقي إلى معيار تنظيمي، يُقاس عليه الخطاب السياسي.
لا يُسأل فقط إن كان الكلام يحضّ على العنف، بل إن كان يمكن، نظريًا أو تأويليًا، تفسيره بوصفه معاديًا للسامية. الاتساع في التعريف، لكنه يخلق غموضًا قانونيًا مقصودًا، يدفع المؤسسات إلى الاحتياط المفرط، ويشجّع الرقابة الذاتية لدى الأفراد، خصوصًا حين يتقاطع الخطاب مع القضية الفلسطينية.
في المقابل، لا تُدوَّن الإسلاموفوبيا في نصوص قانونية، لكنها تُترك لتعمل كمناخ للتبرير.
وبهذا المعنى، لا تعمل معاداة السامية والإسلاموفوبيا كخطابين متناقضين، بل كثنائية متكاملة في إدارة ما بعد الصدمة.
الأولى تحمي جماعة ارتبط تاريخها بالاضطهاد، والثانية توفّر “الآخر” القابل للاشتباه، بما يسمح بإدارة الخوف داخليًا دون تفكيك أسبابه السياسية
النتيجة السياسية لهذا المسار تظهر بوضوح في ما يخص غزة. فكلما ارتفعت كلفة التضامن معها أخلاقيًا وإعلاميًا وأمنيًا، تراجع الضغط الشعبي على الحكومات الغربية، وتأجلت مساءلة السياسات الإسرائيلية. لا يحدث ذلك عبر تغيير المواقف الرسمية أو إعلان انحياز جديد، بل عبر إعادة تعريف إطار النقاش نفسه. يتحول الصراع من مسألة قانون دولي وحقوق جماعية إلى ملف أمن داخلي وصراع هُوياتي، تُدار فيه الأسئلة الثقيلة بوصفها عبئًا على اللحظة.
بهذا المعنى، لا تكون ثنائية معاداة السامية والإسلاموفوبيا مجرد انعكاس لخوف اجتماعي، بل آلية سياسية كاملة الوظيفة. آلية تسمح للغرب بأن يشدد بحق، على مواجهة معاداة السامية، بينما تُدار النتائج عمليًا، بما يخدم إسرائيل: كسب الوقت، وتأجيل المساءلة، ونقل الصراع من ساحة القانون الدولي إلى ساحة الخوف الداخلي.
بعد أقل من عشرة أيام على هجوم بونداي، أوقفت الشرطة البريطانية الناشطة جريتا ثورنبرج خلال احتجاج في لندن، وهي ترفع لافتة “ضد الإبادة” بعدها توالت حوادث مشابهة.
الوقائع قد لا تعني حظر التضامن مع غزة، ولكنها في تتابعها الزمني، تعد مؤشرا زمنيا دقيقا على تضييق الهامش بعد الصدمات الأمنية الكبرى، الدلالة هنا في التزامن فما يحدث في سيدني، يمتد أثره الأمني حتى لندن.
الإعلام الغربي: حياد اللغة، انتقائية الأسئلة
في تغطية الصحافة الغربية لهجوم بونداي، لم يظهر انحياز فجّ أو تبنٍ مباشر للرواية الإسرائيلية، لكن ما بدا واضحًا هو ترتيب انتقائي للأسئلة تقدّم إطار الأمن الداخلي ومعاداة السامية إلى الواجهة، بينما تأخر تفكيك السياقات الأوسع المرتبطة بغزة والسياسات الإسرائيلية. تحوّل السؤال المركزي تدريجيًا من: ماذا تفعل إسرائيل في غزة؟ إلى: كيف نمنع انتقال التوتر إلى شوارعنا؟
هذا التحول لا يحتاج إلى توجيه مباشر أو تعليمات تحريرية صارمة. يكفي أن يُدار الخوف بوصفه أولوية.
وأن تُستدعى الأصوات الأمنية أكثر من الأصوات القانونية أو الحقوقية. هكذا يعمل ما يمكن تسميته حياد الإطار لغة متزنة ظاهريًا، لكنها تُعيد ترتيب النقاش، بما يؤجّل المساءلة دون تعمد اسكاتها.
في هذا المناخ، لم تحتج إسرائيل إلى دعاية صاخبة أو ردود انفعالية. بل كانت الاستراتيجية الناجحة دوما “الغياب المحسوب”.
يتجلى ذك في التحول من خطاب الدفاع الصريح إلى محتوى قصير، عاطفي، يعيد تثبيت صورة “الضحية” من القتلى في العيد، لقطات إنسانية بالطبع، قصص فردية، وتلميحات إلى أن ما جرى “يمكن أن يحدث في أي مكان”.
تلعب الأدوات الرقمية والذكاء الاصطناعي هنا دورًا حاسمًا، لا لصناعة رواية جديدة، بل لـتنعيم الرواية القائمة. تُوحِد النبرة، وتُسرِع وتيرة الانتشار، وتُخفِض كلفة الإنتاج، بحيث يبدو المحتوى عفويًا ومتعدد المصادر.
النتيجة، أن إسرائيل لا تكسب تعاطفًا جديدًا بالضرورة، لكنها تحمي ما تبقى من صورتها من التآكل، وتؤجّل تحوّل النقد المتراكم إلى مساءلة سياسية عاجلة. هذا هو جوهر الغياب المحسوب.
من الخطاب إلى الضبط: إدارة الزمن بوصفها سياسة
مع مرور الأيام، يتحول خطاب معاداة السامية من توصيف أخلاقي مشروع إلى أداة تنظيمية، تُدار بها المساحات العامة.
ما يكشفه مسار ما بعد بونداي، أن المكسب لا يتحقق عبر تغيير الإجابات، بل عبر إدارة الزمن السياسي.
الصدمة تعيد ترتيب الأجندة، الأمن يتقدّم، والسؤال الأخلاقي يتراجع.
الخلاصة، أن الاختبار الحقيقي لا يكون يوم الحدث، بل فيما يليه: هل يعود السؤال المؤجَّل إلى مكانه، أم يصبح التأجيل قاعدة؟ هناك فقط يمكن الحكم إن كان بونداي حادثًا عابرًا، أم لحظة كاشفة لمسار أطول، تُدار فيه السياسة عبر الزمن، لا عبر الحقيقة.






