مع غروب شمسه، يمكن القول إن عام 2022 كان أكثر الأعوام اضطرابا وتحولا في السياسة الدولية منذ عقود تمتد إلى نهاية القرن الماضي. كان عاما مضطربا، بسبب غزو روسيا لأوكرانيا، والأزمة حول تايوان، ولكنه -أيضا- كان عاما تحوليا في الطريقة التي اعترفت بها الولايات المتحدة بالصين كقوة عظمى.
في استراتيجية الأمن القومي الأمريكية، الصادرة في أكتوبر/ تشرين الأول، لم تحدد إدارة بايدن الصين على أنها أهم تحدياتها الأمنية فحسب. بل أعلنت أيضًا، بشكل لا لبس فيه، أن حقبة ما بعد الحرب الباردة قد انتهت.
لذلك، يرى جو إنجي بيكيفولد، زميل الصين في المعهد النرويجي للدراسات الدفاعية، أنه إذا كان موقع القوة أحادية القطب للولايات المتحدة هو السمة المميزة لحقبة ما بعد الحرب الباردة، فإن التحول إلى هيكل قوة ثنائي القطب بين الولايات المتحدة والصين، سيشكل نظامًا عالميًا جديدًا.
يقول في تحليله المنشور في فورين بوليسي/ Foreign Policy: في النهاية، يتخذ القادة قراراتهم بشأن الحرب والسلام. ولكن من أجل فهم أفضل لكيفية تطور العصر ثنائي القطب الجديد، يجب أن ننظر إلى هيكله: توازن القوى، وأصل النظام الجديد، والإعداد الجغرافي.
اقرأ أيضا: المسح الاستراتيجي 2022: الغزو الروسي والانسحاب الأمريكي من أفغانستان.. دروس في غطرسة القوة
ويشير بيكيفولد إلى أن التنافس بين الولايات المتحدة والصين “يعتبر فريدًا من نواحٍ عديدة، وتزودنا طبيعته بمعلومات بارزة عن النظام العالمي الجديد، واستقراره، والدور الذي يمكن أن تلعبه حنكة الدولة”.
أقل استقرارًا
تميز التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي -على الرغم من سباقات التسلح وأحداث التوتر- بدرجة عالية من الاستقرار، وغياب الصراع المسلح المباشر بين القوتين العظميين. لهذا السبب، أطلق المؤرخ جون لويس جاديس على حقبة الحرب الباردة اسم “السلام الطويل”.
هكذا، من حيث توازن القوى، فإن التنافس بين الولايات المتحدة والصين يشبه الحرب الباردة، وهي عداء آخر بين قوتين عظميين.
لهذا السبب، وصف إيفان ميديروس، مستشار إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما السابق لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، اجتماع نوفمبر/ تشرين الثاني، بين الرئيس الأمريكي جو بايدن والرئيس الصيني شي جين بينج في بالي بإندونيسيا، بأنه “أول قمة للقوى العظمى في النسخة الثانية من الحرب الباردة”.
يقول بيكيفولد: أثار ذلك مخاوف، خاصة في أوروبا، بشأن عودة ظهور الكتل المتنافسة، وبين البلدان النامية بشأن الوقوع في الوسط الذي يضرب به المثل. لكن القطبية الثنائية الجديدة بين الولايات المتحدة والصين هي حقيقة هيكلية ولا يمكن التخلص منها. إنها نتيجة لعدة عقود من النمو الاقتصادي والعسكري الصيني، الذي سد الفجوة في وجه الولايات المتحدة.
وأضاف: علاوة على ذلك، تعتبر بنية القوة ثنائية القطب، بشكل عام، أكثر استقرارًا من البنية متعددة الأقطاب. لذلك، يجب على القادة مثل المستشار الألماني أولاف شولتز -الذي تحدث لصالح نظام متعدد الأقطاب- أن يكونوا حذرين فيما يرغبون فيه.
لكنه نبّه إلى أنه مع ذلك، قد لا تكون جميع الأنظمة ثنائية القطب مستقرة بشكل متساوٍ.
أوضح: هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن هيكل التنافس الثنائي القطب بين الولايات المتحدة والصين سيجعل الحقبة الجديدة أقل استقرارًا من الحرب الباردة. وعندما يكون الاستقرار الهيكلي أضعف، تزداد الحاجة إلى الحنكة لإدارة النظام.
الصين أقوى من الاتحاد السوفيتي
هي التي ستجعل عصر القطبين الجديد أقل استقرارًا من الحرب الباردة. كما يرى زميل الصين في المعهد النرويجي للدراسات الدفاعية.
يتميز التنافس بين الولايات المتحدة والصين بديناميكية انتقال غير مستقرة للسلطة. تظهر الأدلة التاريخية أن هناك خطرًا حقيقيًا من اندلاع حرب كبرى، عندما تهدد قوة صاعدة بالتغلب على قوة مهيمنة آخذة في التراجع. مثل الإمبراطورية الألمانية الصاعدة التي كانت تسعى جاهدة للحصول على “مكانها في الشمس” في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى. إلا أنه لم يكن للحرب هذه الديناميكية.
فيما بعد ظهرت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي كقوتين عظميين من رماد الحرب العالمية الثانية، وكانا متنافسين من الناحية العسكرية منذ البداية.
لكن الوضع الحالي مختلف، حيث تلحق الصين بالولايات المتحدة تدريجياً. علاوة على ذلك، من خلال قوتها الاقتصادية، فإن إمكانات الصين كقوة عظمى أكبر مما كان عليه الاتحاد السوفيتي في أي وقت مضى.
بالإضافة إلى ذلك، نظرًا لأن الجيش الصيني لا يزال أقل شأناً في هذه المرحلة. فهناك مجال أقل للحنكة السياسية للتفاوض بشأن اتفاقيات الحد من التسلح. إذ الصين غير مستعدة لوضع حد للتطور العسكري، من شأنه أن يحافظ على مكانتها المتدنية في هذا المجال.
بالفعل، أشارت التصريحات الأخيرة إلى أن الصين ربما تكون قد تجاوزت بالفعل الولايات المتحدة في عدد الرؤوس الحربية النووية على صواريخها الباليستية العابرة للقارات. ولكن فيما يتعلق بالمخزون النووي الكلي. بما في ذلك الرؤوس الحربية المنتشرة على الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، والصواريخ الباليستية التي تطلق من الغواصات، والقاذفات الاستراتيجية، وكذلك الرؤوس الحربية النووية غير النشطة. لا يزال مخزون الصين من الأسلحة النووية صغيرًا نسبيًا، مقارنة بمخزون الولايات المتحدة.
اقرأ أيضا: ألمانيا التي لا تتعلم من تاريخها.. التعلق بالأوهام إزاء روسيا والصين
مجالات جديدة البحر
على عكس الحرب الباردة، فإن المسرح الرئيسي للتنافس العسكري بين الولايات المتحدة والصين هو البحر. والذي هو بطبيعته أقل استقرارًا ومعرض لخطر حرب محدودة.
يقول بيكيفولد: التركيز الرئيسي للحرب الباردة على المسرح الأرضي الأوروبي سمح باستراتيجية الانتقام الهائل بالظهور، مما أدى بقوة إلى ردع أي محاولات لعبور الخط الثابت الذي يقسم أوروبا. من غير المرجح أن يشكل استخدام القوة العسكرية من قبل القوتين العظميين في المياه الآسيوية تهديدًا وجوديًا لأي دولة أو المخاطرة بحرب نووية.
أمّا الصين، فقد تقوم باستخدام الأسلحة النووية إذا تم غزوها، ولكن من غير المرجح أن يخاطر القادة الصينيون بحرب شاملة مع الولايات المتحدة إذا تم تدمير بعض سفنهم. هذا يزيد من خطر اندلاع حرب محدودة في المياه الآسيوية، حيث أن فرص التصعيد الهائل أقل مما كانت عليه في أوروبا.
ولكن، حتى حرب محدودة في البحر بين قوتين عظميين يمكن أن يكون لها عواقب وخيمة على الاستقرار الإقليمي والاقتصاد العالمي.
كذلك، تعد تايوان مصدرًا آخر لعدم الاستقرار في النظام ثنائي القطب الجديد. بينما كانت أقرب مدينة خلال الحرب الباردة هي مدينة برلين المقسمة، حيث وقعت عدة مواجهات متوترة بين القوى العظمى. تمثل تايوان الخطر الأكبر لحرب القوى العظمى في عصر التنافس بين الولايات المتحدة والصين، مع ديناميكيات تصعيد غير مؤكدة من حيث الانتشار الجغرافي واستخدام الأسلحة.
نقطة هامة أخرى هي أن مجالات القتال الجديدة في الفضاء وعالم الإنترنت توفر لواشنطن وبكين سبلًا إضافية للإكراه والتعطيل.
يرى زميل الصين بالمعهد النرويجي أنه قد تتراوح الهجمات الإلكترونية من التخريب والسرقة والتجسس إلى ما يسمى ببيرل هاربور الرقمي: هجوم إلكتروني مفاجئ كبير ومتطور من أجل تشكيل البيئة قبل نشوب صراع عسكري أو تأخير أو ردع رد المنافس.
أضاف: هناك خطر حقيقي من حدوث تصعيد غير مقصود بسبب القدرات الإلكترونية في أزمة صينية- أمريكية مستقبلية. ديناميكية مماثلة ممكنة أيضًا داخل المجال الفضائي، مع ضربات استباقية على الأقمار الصناعية أو بواسطتها، مما يؤدي إلى تصعيد غير مؤكد.
الاعتماد المتبادل يزيد عدم الاستقرار
أخيرا، على عكس النظرية القائلة بأن الاعتماد المتبادل يقلل من مخاطر الحرب، فإن المستوى المرتفع من الترابط الاقتصادي والتكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين من المحتمل أن يكون أكثر عرضة للصراع من الاكتفاء الذاتي النسبي للكتلتين خلال الحرب الباردة.
بل، في الواقع، أشار المؤرخ جاديس إلى الافتقار إلى الاعتماد المتبادل بين القوتين العظميين كعامل مهم لتعزيز استقرار التنافس في الحرب الباردة، ويرجع ذلك أساسًا إلى أن عدم الاعتماد على خصم محتمل معادٍ زاد من إحساس القوة العظمى بالأمن.
ويعد المستوى العالي من الترابط بين الصين والاقتصاد العالمي هو السبب الأساسي الذي يجعل بعض المراقبين يفضلون استخدام تسميات أخرى غير “الحرب الباردة” عند وصف النظام الثنائي القطب بين الولايات المتحدة والصين. مما يشير إلى مصطلحات مثل التعايش التنافسي أو التعايش البارد أو التعايش في النزاعات.
لكن مستوى الاعتماد المتبادل في التنافس بين الولايات المتحدة والصين يترك مساحة أكبر للحرب الاقتصادية مما كان عليه الحال خلال الحرب الباردة. في قوة ثنائي القطب، تنظر القوتان العظميان إلى الترابط المتبادل على أنه ضعف، وبالتالي تسعيان إلى الحد منه.
يرى بيكيفولد أن عملية الفصل هذه، التي تجري الآن، ستخلق احتكاكًا بين القوتين العظميين، وبين الولايات المتحدة وحلفائها، وداخل النظام الاقتصادي الدولي.
على سبيل المثال، تؤدي الحرب التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين بالفعل إلى نوع جديد من الصراع، حيث ردت الصين على عقوبات الرقائق الأمريكية بإطلاق نزاع مع منظمة التجارة العالمية. ستؤدي الحرب الاقتصادية بين البلدين، وفصل الارتباط، إلى تحدي النظام الاقتصادي الدولي بطرق جديدة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن المخاوف التي أعرب عنها المستشار الألماني أولاف شولتز، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بشأن حرب باردة جديدة، توضح تحفظات حلفاء الولايات المتحدة بشأن الانفصال.