وسط اشتعال حروب المعلومات التقليدية والسيبرانية. تأتي مصادر الاستخبارات المفتوحة/ Open source intelligence (OSINT) لتُحدث ثورة في التدفق العالمي للمعلومات خلال أوقات الصراعات. من خلال تجميع المحتوى المتاح للجمهور معًا، مثل صور الأقمار الصناعية، ومقاطع الفيديو للهواتف المحمولة، ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي. حيث يقوم محللو المصادر المفتوحة بكشف ونشر المعلومات الاستخبارية التي كانت تحتكرها سلطات الدولة.
ومع انخفاض الثقة في وسائل الإعلام والمؤسسات الحكومية على نطاق واسع. تصير المعلومات الاستخباراتية مفتوحة المصدر فعالة بشكل خاص، لأنه غالباً ما يثق بها الجمهور كمصدر موضوعي للمعلومات.
من ناحية أخرى، تقدم هذه المصادر المفتوحة للفلسطينيين أدوات منخفضة التكلفة. يمكن الوصول إليها نسبيًا، وجمع ونشر معلومات قيمة حول الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. مما قد يؤدي إلى كشف جرائم الحرب، أو انتهاكات حقوق الإنسان التي قد لا يتم الإبلاغ عنها، أو إسكاتها.
ومع ذلك، يجادل طارق الشوا، زميل سياسة الولايات المتحدة في شبكة السياسة الفلسطينية. بأنه على الرغم من الطبيعة الديمقراطية المتأصلة لهذه التقنيات، فإن فوائد OSINT لا تؤثر على الجميع على قدم المساواة. وأنها، بالنسبة للفلسطينيين على وجه الخصوص، تعتبر سيفًا ذا حدين. بعد أن حوّل المحللون الإسرائيليون هذه الأداة الموضوعية إلى أداة تشويه.
اقرأ أيضا: الصراع على “كاريش”.. جولة خطرة من سياسة حافة الهاوية بين إسرائيل وحزب الله
يقول: من خلال التعتيم على جرائم الحرب الإسرائيلية، وتأجيج الروايات التي تشوه حقيقة الاحتلال الإسرائيلي. حولت إسرائيل المصادر المفتوحة للمعلومات الاستخبارية من أداة موضوعية إلى أداة تشويه.
دعم الروايات الإسرائيلية
يشير الشوا إلى أنه في السنوات الأخيرة، اكتسبت حسابات OSINT مجهولة المصدر. مثل Aurora Intel وIsrael Radar متابعين متنامين، بتغطيتهم الجريئة والسريعة للتطورات الأمنية في جميع أنحاء الأراضي المحتلة، حتى صارت مصدرا للصحفيين والمحللين وصانعي السياسات على حد سواء.
يستدل على ذلك بأنه في الوقت الذي شنت فيه إسرائيل هجومها الأخير على غزة في مايو/ أيار. قامت شركة Aurora Intel بإصدار تحديثات حول التطورات على الأرض لأكثر من 225000 متابع على Twitter وقت حدوثها تقريبًا. معتمدة على مصادر مثل إيمانويل فابيان، الذي كان في السابق محللًا حرا، وهو الآن صحفي في تايمز أوف إسرائيل.
وفي 6 أغسطس/ آب، بالتزامن مع وقوع غارة جوية في حي جباليا في غزة، أسفرت عن مقتل أربعة أطفال. ومع انتشار الأخبار وتزايد الغضب العام، أعلن الجيش الإسرائيلي عن فتح تحقيق وحاول صرف اللوم عن رجاله. دعماً للرواية الإسرائيلية، شارك فابيان وAurora Intel مقاطع فيديو ورسوم بيانية قدمها الجيش الإسرائيلي. يُزعم أنها تُظهر إطلاق صواريخ فاشلة من قبل حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، كدليل على أن إسرائيل لم تكن مسئولة عن الخسائر المدنية.
بعد أيام، وفي حادثة منفصلة. أقر مسئولون عسكريون إسرائيليون بمسئوليتهم عن غارة جوية أخرى بالقرب من جباليا، أسفرت عن مقتل خمسة أطفال فلسطينيين. ومع ذلك، لم تنشر المنصة ولا فابيان القصة، على الرغم من مشاركتهما بشكل لا لبس فيه لمعلومات المخابرات العسكرية الإسرائيلية -غير المؤكدة- التي ألقت باللوم على حركة الجهاد الإسلامي في إطلاق الصواريخ الخاطئة.
يقول الشوا: عندما سُئل -يقصد فابيان- عن سبب عدم ذكر جريمة حرب محتملة ارتكبتها القوات الإسرائيلية. واعترف بها المسئولون العسكريون الإسرائيليون، اعترض وأصر على أنه لا يمكنه نشر الأخبار، لأن القضية “لا تزال قيد التحقيق”.
تبييض وجه إسرائيل
يؤكد الشوا أن هذا النوع من الإغفال -تضخيم بعض القصص التي لم يتم التحقق منها مع تجاهل بعض القصص التي تم التحقق منها- يشير إلى اتجاه أوسع بين محللي OSINT الإسرائيليين، أو المؤيدين للدولة العبرية. للعمل كقنوات غير انتقادية لنقاط الحوار العسكري الإسرائيلي. أو، في الواقع، تبييض جرائم الحرب التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي.
يضيف: يتم ذلك من خلال تعميم تصريحات الجيش الإسرائيلي دون مزيد من التحقق وتجاهل التطورات التي تنعكس بشكل سيء على الجيش الإسرائيلي نفسه. يعمل هؤلاء المحللون كقنوات للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، بشكل بعيد كل البعد عن الموضوعية التي يتوقعها الجمهور من ممارسي المصادر المفتوحة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن مجهولية العديد من الحسابات مفتوحة المصدر، تجعل من المستحيل على أتباعهم التحقق من خبرتهم التقنية أو تحديد التحيزات الأساسية. وبالتالي، لا ينبغي أن يكون مفاجئًا أن هذه المصادر “الموضوعية الظاهرية للمعلومات”، تفشل أيضًا في المساهمة في فهم أوسع للقضية المنهجية. التي تشكل السبب الجذري للعنف في الأراضي الفلسطينية.
وتابع: لذلك، من الناحية النظرية، يجب أن يوازن محللو المصادر المفتوحة الفلسطينيون سوء التصرف الإسرائيلي مفتوح المصدر. مع أكثر من 3.6 مليون مستخدم للإنترنت في عام 2021 – أكثر من 70% من سكانهم- حيث يعتبر الفلسطينيون بالفعل من بين أكثر الأشخاص اتصالًا رقميًا في الشرق الأوسط. لذلك، قد يتوقع المرء منهم أن يكونوا في وضع فريد للمشاركة في مجال المصادر الاستخبارية المفتوحة المزدهر.
اقرأ أيضا: “الوضع أسوأ مما يبدو”.. عن أمواج الضفة الغربية التي لا تهدأ
العزل الرقمي للفلسطينيين
مع سيطرة إسرائيل شبه الكاملة على العمود الفقري المادي للبنية التحتية الرقمية -تكنولوجيا المعلومات والاتصالات- الفلسطينية. والتي تتضمن قيودًا روتينية على الوصول إلى الإنترنت، عبر الضفة الغربية وقطاع غزة. غالبًا ما يجد الفلسطينيون أنفسهم معزولين.
فمنذ عام 1967، منعت السلطات الإسرائيلية الفلسطينيين من إنشاء شبكات مستقلة. عن طريق تقييد الوصول إلى تقنيات التردد الجديدة، ورفض طلبات الاستيراد لمعدات اتصالات جديدة، ومراقبة النشاط عبر الإنترنت عن كثب.
عندما يتصل الفلسطينيون بالإنترنت، تكون الاتصالات بطيئة للغاية، حيث تعمل شبكات الاتصالات الفلسطينية في الضفة الغربية على شبكة الجيل الثالث منذ عام 2018، بينما لا تزال غزة تعتمد على شبكة 2G أقل موثوقية. ومن خلالهما، يتم مراقبة الفلسطينيين عن كثب من قبل أجهزة المخابرات الإسرائيلية.
ونظرًا لأن OSINT تعتمد على الوصول إلى الإنترنت والتدفق الحر للمعلومات. فقد منع هذا الاحتلال الرقمي الفلسطينيين من المشاركة الكاملة في هذا المجال. وبالتالي، جعلهم غير قادرين على كشف المعلومات المضللة، أو الطعن في التقارير المتحيزة.
تستهدف السلطات الإسرائيلية بانتظام المحللين الفلسطينيين مفتوحي المصدر، الذين يعملون لتبادل المعلومات التي قد تورط القوات الإسرائيلية في جرائم حرب أو انتهاكات لحقوق الإنسان. وفي العام الماضي وحده، اعتقلت القوات الإسرائيلية ما لا يقل عن 390 فلسطينيًا بتهمة “التحريض على العنف” على وسائل التواصل الاجتماعي.
ووفقًا لمركز الأسرى الفلسطينيين للدراسات، أفاد الكثيرون باحتجازهم واستجوابهم بسبب منشورات غير مؤذية. مثل مشاركة صور لفلسطينيين قتلتهم القوات الإسرائيلية على فيسبوك.
يقول الشوا: هذا الاعتماد على إسرائيل للوصول إلى الإنترنت. تعني أن المحللين الفلسطينيين مفتوحي المصدر يعملون بناءً على إرادة المحتل. وبالتالي، فهم في وضع ضعيف لفضح جرائمه.
تقييد الفلسطينيين على الإنترنت
تتعرض مبادرات OSINT التي يقودها الفلسطينيون للتهديد بسبب الحملة الإسرائيلية المكثفة على المجتمع المدني الفلسطيني ومنظمات حقوق الإنسان. فخلال صيف عام 2021، أعلنت “مؤسسة الحق” -منظمة حقوقية فلسطينية- عن إنشاء وحدة تحقيقات معمارية جنائية، تستفيد من تقنيات المصادر المفتوحة لرصد انتهاكات حقوق الإنسان الإسرائيلية.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه 2021، صنّف وزير الدفاع الإسرائيلي بيني جانتس “مؤسسة الحق”، إلى جانب خمس منظمات حقوقية فلسطينية أخرى، على أنها منظمات إرهابية.
يلفت المحلل الفلسطيني إلى أن “حقيقة أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وخبراء الأمم المتحدة، وعشرات من منظمات حقوق الإنسان. رفضت صراحةً، أو فشلت، في إثبات الأدلة المفترضة التي ذكرتها إسرائيل لتبرير التصنيف. لم تردع القوات الإسرائيلية عن مداهمة مكاتب مؤسسة الحق وتهديد موظفيها.
أيضا، ليست السلطات الإسرائيلية وحدها التي تفرض رقابة على نشاط الفلسطينيين على الإنترنت. في الأسبوع الماضي، توصل تحقيق مستقل إلى أن Facebook وInstagram، حظروا، أو قيدوا، المنشورات والحسابات التي نشرت لقطات من الغارات الجوية الإسرائيلية في غزة. والهجمات على الفلسطينيين في الضفة الغربية، أثناء الهجوم الإسرائيلي في مايو/ أيار 2021.
وبينما ألقت شركات التواصل الاجتماعي باللوم في الرقابة الجماعية على مواطن الخلل في برمجيات الذكاء الاصطناعي. أشار نشطاء إلى ممارسة Facebook في تعديل المحتوى بناءً على طلب الحكومات باعتبارها مدعاة للقلق.
يؤكد الشوا أن وحدة الإنترنت الرسمية في إسرائيل -والتي تعمل من مكتب المدعي العام- تقوم بالإعلان عن طلبات الرقابة وتقديمها لشركات التواصل الاجتماعي. وتُظهر بياناتها الخاصة أن 90% من هذه الطلبات يتم منحها عبر جميع منصات وسائل التواصل الاجتماعي.
يقول: حث جانتس -وزير الدفاع الإسرائيلي- بشكل شخصي المسئولين التنفيذيين في Facebook وTikTokعلى تعديل ومراقبة المحتوى الذي ينتقد إسرائيل على وسائل التواصل الاجتماعي.
نتيجة لذلك، يجد محللو المصادر المفتوحة الفلسطينيون أنفسهم في مواجهة. ليس فقط مع الحكومة الإسرائيلية، ولكن أيضًا ضد عمالقة وسائل التواصل الاجتماعي.