في عالمنا العربي هناك من يبحث عن النظام القوي أو ينتظر البطل المخلص الذي سينجز بعيدا عن ثرثرة السياسيين وبعيدا عن دور الشعب الذي يعتبره “معطلا” للتنمية؛ لأنه يحب الكلام والتدخل فيما لا يعرفه.
والحقيقة، أن هذا التصور تعاطف مع الجوانب الشمولية لنظم سياسية مثل الصين، ونسي أو تناسى أنها تبنت منطلقات عكسية لما يقول، وخاصة فيما يتعلق بدور الشعب وحضور السياسة. فالشعب أو الفلاحين كانوا في أدبيات الزعيم الصيني ماوتسي تونج هم القادة ولم يكونوا مثار سخرية أو إهانة. كما أن الشعب قام بثورة كبرى سقط فيها ملايين الضحايا، وبنى حزب سياسي عقائدي وثوري هو: الحزب الشيوعي الصيني، قاد هذه الثورة ووصل إلى حكم البلاد عام 1949.
وهنا، سيصبح السؤال المطروح على أي مجتمع ونظام سياسي يريد أن يكون قويا ويتشبه بالصين: هل عرف مسار الصين ودفع الثمن الذي دفعته؟ وهل امتلك ولو جانب من المشروع السياسي الذي تبناه الحزب الشيوعي الصيني على مدار 73 عاما قضاها في السلطة وعرف تحولات ومراجعات غيرت توجهاته دون أن تؤدي إلي انهياره أو تفككه كما جري في بلدن أخري حكمتها أحزاب شيوعية؟
بعض من يكره الديمقراطية والتعددية السياسية يتصور أن الطريق لتكرار النموذج الصيني هو أن تأخذ حصيلة الـ 73 عاما في جانبها الشمولي دون مسارها ورحلة الدم والتضحيات التي عرفتها، مثل الذي يريد أن يكون فائزا في مباراة دون أن يلعبها، فمن يسعده أن في الصين حزب واحد ولا توجد تعددية سياسية ويرغب في تكرارها في بلاده ليصل إلى نفس النتائج في الإنجاز الاقتصادي والنهضة الصناعية ومحاربة الفقر، فإنه مخطأ لأن كل من أعجب بشمولية الصين وتجاهل مقومات تقدمها وإنجازها فشل سياسيا واقتصاديا.
إن النظام السياسي الصيني القائم على الحزب الواحد له قواعد وأصول حتى في الترويج للشمولية وغياب التنوع والمعارضة، فهي ليست نظم عشوائية ولا يديرها هواة إنما هي دائما ما تعرف قواعد أيديولوجية أو سياسية أو قانونية تنظمها، وتحمل فكرة عقائدية لها بريق سياسي قادر على دمج غالبية الراغبين في العمل السياسي داخل حزب النظام الواحد، وإقصاء القلة المعارضة بأدوات خشنة أو ناعمة.
إن الصين، التي يعيش فيها حوالي مليار ونصف المليار نسمة، عرفت ثورة كبرى عام 1949 نقلتها من البؤس والفقر والتخلف والحروب الأهلية إلى واحدة من أقوى دول العالم اقتصاديا وعسكريا وسياسيا. ويحكمها حزب يضم ما يقرب من 100 مليون عضو، أي حوالي 6% من السكان، وهو بذلك يعد أكبر حزب سياسي في العالم.
ولدى الحزب الشيوعي الصيني عقيدة سياسية يختلف أو يتفق معها، ولكن يحكمها منطق سياسي بعيدا عن الكلام الفارغ والعداء للعلم، وتقول إن الحزب يتبنى الاشتراكية بطبعة صينية تقوم على أربعة مبادئ أساسية؛ أولها التمسك بخط الحزب الشيوعي، والثانية “تحرير الأفكار وطلب الحقيقة من الواقع”، والثالثة التمسك بخدمة الشعب بكل أمانة وإخلاص (لا إهانته صباحا ومساء باعتباره جاهل وقاصر)، وأخيرا التمسك بنظام المركزية الديمقراطية أي بعد الاستماع لمختلف الآراء وإجراء نقاش حقيقي داخل كل وحدة حزبية صغير ولو في قرية نائية، وبعدها يتم الالتزام بالقرار النهائي لقيادة الحزب.
رحلة النظام السياسي الصيني لم تكن نزهه ولا انقلاب قصر، إنما رحلة جهد وعرق ودماء انتقلت من مرحلة الثورة من أجل الحكم إلى الثورة وهي في الحكم حين قرر زعيم الصين وقائد ثورتها ماوتسي تونج القيام بثورة ثقافية في 1966، سماها “ثورة الثقافية البروليتارية العظيمة” وطلب من الشعب، وخاصة الشباب بالانقلاب على الزعامات الشيوعية في البلاد “المتخذين الطريق الرأسمالي”. ورفع شعار دوى في كل أنحاء الصين: “إنه حق أن نثور”.
ضحايا الثورة الثقافية كانوا بالملايين مثل كل تجارب الاجتثاث في العالم، ولكنها فرضت نظاما سياسية ثوريا وشموليا وضع قاعدة صناعية عظمي وحزب سياسي قوي، وسمحت بعد ذلك في مرحلة ما بعد ما وتسي تونج إلى الانتقال نحو نظام سوق مخطط.
وقد أصبحت الصين أكبر دولة مصدرة للسلع في العالم منذ عام 2005 وحتى الآن، حيث بلغت قيمة الصادرات السلعية الصينية نحو 2.4 تريليون دولار أمريكي عام 2014، مقارنة بصادرات سلعية أمريكية قيمتها نحو 1.5 تريليون دولار في العام نفسه.
كما أشارت بيانات صندوق النقد الدولي إلى أن معدل النمو للناتج المحلي الإجمالي في الصين قد بلغ 6.7% في عام 2016، مقارنة بنحو 1.6% للولايات المتحدة الأمريكية. وجاء مشروع “الحزام والطريق” كإعلان عن قوة الصين وحضورها الدولي، صحيح أن علاقتها بالدول الإفريقية لم تخلو من كثير من المشاكل، خاصة بعد أن قدمت لكثير منها “مغريات الإقراض”، والتي سرعان ما تحولت إلى قيد على عدد منها.
مسار التجربة الصينية يقول إنه لا يمكن استنساخها حتى لو أعجب البعض بوجهها الشمولي والاستبدادي وقرروا نقله إلى بلادهم، فإنهم حتما لن يحققوا وجهها الثاني أي التقدم والانجاز والعلم، لأنها تطلبت شروط وسياق يخص الصين ولم تعرفه باقي “ديكتاتوريات” العالم.
ومن هنا، علينا ألا نندهش أن كل الديكتاتوريات العسكرية في أمريكا الجنوبية فشلت في تحقيق التقدم الصيني رغم استبدادها ومركزية صنع القرار فيها، فهي لم تصل إلى السلطة عبر ثورة شعبية ولم يغرس فيها حزب عقائدي ثوري مثل الحزب الشيوعي الصيني، ولم يدفع الشعب ثمنا باهظا لهذه التغيرات الثورية حتى بعد الوصول إلى السلطة.
خصوصية الصين في تفرد سياقها التاريخي وأنها تجربة لن تتكرر إلا في الصين، وكل تجارب النجاح النسبي في الشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية وأسيا هي نظم إما ديمقراطية أو ديمقراطية مقيدة أما النظم الشمولية فهي لم تنجح سياسيا واقتصاديا ولا يمكن أن تكون الصين.