قبل عقد ونصف العقد، تحدث الدكتور أحمد نظيف، رئيس الحكومة الأسبق، عن انسداد في شرايين الاقتصاد يحجب ثمار النمو في الطبقة العليا ويجعل القليل منه يسقط على غالبية الطبقات الأخرى، في تبرير حينها لعدم شعور المواطن البسيط بالنجاح الاقتصادي. وفي العام 2010، كانت المؤشرات الاقتصادية قوية، فكان معدل النمو 5% والناتج الإجمالي يربو على 187.3 مليار دولار، بدين خارجي لا يتجاوز 33.6 مليار دولار، ودين عام يعادل 80% من الناتج المحلي. ورغم ذلك لم تتحسن مستويات معيشة المواطنين.
يتكرر الأمر ذاته، حاليًا، فحجم الاقتصاد المصري -بحسب وزير المالية الدكتور محمد معيط- تضاعف 3 مرات خلال 6 سنوات. ما فسره على أنه نجاح للحكومة في توجيه التمويلات التنموية إلى استثمارات حقيقية ومشروعات ومبادرات ذات جدوى، أسهمت في تحسين مؤشرات الأداء خلال العام المالي المنتهي في يونيو/ حزيران 2022.
بحسب بيانات وزارة المالية، حقق الاقتصاد أعلى معدل نمو منذ عام 2008 بنسبة 6.6% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بمتوسط عالمي 3.2% للاقتصادات الناشئة. وقد حقق فائضًا أوليًا للعام الخامس على التوالي بقيمة 100 مليار جنيه، ونسبة 1.3% من الناتج المحلي.
وتؤكد وزارة المالية تراجع عجز الموازنة من 13% في العام المالي 2012/ 2013 إلى 6.1% في العام المالي الماضي. ذلك رغم التحديات العالمية الراهنة وما تفرضه من تداعيات بالغة القسوة على مختلف الاقتصادات الدولية.
التفاوت والثورات
تظهر دراسة أعدها مركز مالكوم كير- كارنيجي أن معدلات النمو الاقتصادي لطالما أسهمت في إخفاء عيوب النظام الرأسمالي الذي تتبناه مصر ومسارات السوق المحلي وأداء القطاع الخاص، ضاربًا المثل بمعدلات استهلاك الأسرة المصرية على مستوى الجمهورية التي انخفضت بنسبة مقدارها 9.7% بينما تبلغ في المناطق الحضرية 13.7% في الفترة ما بين 2015 و2018.
بحسب الدراسة رافق انخفاض الاستهلاك ارتفاعًا بمعدلات الفقر التي تزايدت من 27.8% في 2015، لتصل إلى 32.5% في 2018، قبل أن تتراجع في تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2021 من 32.5٪ إلى 29.7%. وهو انخفاض كان حريا به أن يعزز الطلب المحلي خاصة في ظل انخفاض معدلات البطالة، ولكن تقريراً تفصيلياً صدر في كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه أظهر انخفاضًا إضافيًا بمعدل 1.8% في مستوى الاستهلاك المحلي للأسرة.
تشير النتائج المتناقضة إلى أن الأجور التي تقدمها الوظائف المستحدثة في سوق العمل المصري لا تتناسب مع معدلات التضخم. وبالتالي فهي غير قادرة على مواكبة تكاليف المعيشة. إذ تتحمل الطبقتان الوسطى والفقيرة تكاليف الإنفاق الحكومي الذي انخفض من 11.35% من إجمالي الناتج المحلي في 2013، إلى 7.92% في 2020، ما أدى إلى ضعف الطلب المحلي.
اقرأ أيضًا: فورين بوليسي: توقفوا عن تمويل مشروعات مصر “المظهرية” الشعب في معاناة
للنمو الذي لا يتسرب للطبقات الفقيرة، أو بمعنى آخر العلاقة بين التفاوت في الدخل والنمو الاقتصادي، مضار كبيرة على الاقتصاد المحلي. فالتفاوت في الدخل يتعارض في جوهره مع فكرة العدالة، ويعد القناة الأساسية لعدم الاستقرار الاجتماعي والاضطرابات السياسية. کما أنه السبب الرئيسي وراء الثورات العربية.
تحتل مصر المركز الثاني بين الدول التي ستشهد أعلى نمو في عدد الأثرياء بحلول عام 2024. وكان يعيش بها 740 شخصًا يمتلكون أكثر من 30 مليون دولار عام 2014، وهو رقم ارتفع إلى 764 شخصًا في 2019. ومن المتوقع أن يصل العدد إلى 1269 شخصًا في 2024.
وقد زاد عدد من يمتلكون أكثر من مليون دولار من نحو 45 ألف شخصًا سنة 2014 إلى أكثر من 57 ألفًا في 2019. ومن المتوقع أن يصبح العدد 96 ألفًا في 2024، بحسب مؤسسة نايت فرانك للاستشارات العقارية.
التفاوت في الدخل يقترن بزيادة معدل الفقر، وتخفيض الرفاهية الاقتصادية لأفراد المجتمع، وعدم القدرة على تحقيق التنمية المستدامة في الأجل الطويل من خلال تخفيض الحافز على العمل والإنتاجية لدى الفقراء، وكان وراء أزمات اقتصادية بسبب انخفاض الاستهلاك الكلي والطلب المحلي، بسبب انخفاض متوسط نصيب أغلبية السكان من الدخل، إذ يحمل آثارًا سلبية واضحة على الادخار والاستثمار والائتمان ورأس المال البشري.
نظرة على النمو المصري
الدكتور محمود الجمل، أستاذ الاقتصاد والإحصاء بجامعة رايس في الولايات المتحدة، يقول إن مصر تحاول تقليد نموذج الرأسمالية. وهو خليط ما بين النموذجين الصيني والإماراتي ويعتمد في الأساس على الاستثمارات الأجنبية المباشرة والتحول إلى الرأسمالية النفطية.
وفق الجمل، تشهد مصر منذ التسعينيات تفاوتًا كبيرًا في معدل توزيع الثروات. وقد زادت الهوة بين طبقة النخبة التي لا تمثل إلا 10% من مجموع الشعب المصري وطبقة الكادحين وهي أغلب الشعب. ففي عهد الرئيس الأسبق عبد الناصر نجد أن الفرق بين الطبقة المتوسطة وطبقة النخبة قد تقلص إلى حد كبير، إلا أن الفروق عادت من جديد بحلول التسعينيات عندما بدأت الحكومة في تطبيق سياسات الاقتصاد الحر الجديد، التي لم يتقبلها مواطنون ينظرون إلى ما هو أبعد من النمو الاقتصادي، يريدون مزيدًا من العدالة في توزيع الثروات.
لقد انخفض معدل البطالة في مصر إلى 7.2% في الربع الأول من عام 2022، مقارنة بـ 7.4% في الربع الأخير من 2021، وبتراجع قدره 0.2% عن كل من السابق والربع المماثل من العام الماضي، بسبب استمرار الدولة في تنفيذ المشروعات القومية التي استوعبت أعدادًا من العمالة البسيطة. وهو ما يفسر هذا الانخفاض رغم الأزمة الاقتصادية العالمية.
لكن المشكلة تبدو جليةً في قطاعات المتعلمين تعليمًا عاليًا. فبحسب دراسة للجامعة الأمريكية تتبعت نمو الاقتصاد المصري خلال الفترة من 2005 وحتى 2018، يتبين أن السياسات المعززة للنمو الاقتصادي وخلق فرص العمل بمصر لم توفر فرص عمل كافية. خاصة للشباب والمتعلمين تعليًما عاليًا.
اقرأ أيضًا: الفقراء لا يذهبون إلى شرم الشيخ ولا يأكلون السوشي!
بحسب الدراسة، أي استراتيجية نمو يقودها التشغيل يجب أن تتضمن الشمول المالي “إدخال ذوي الدخل المالي المنخفض إلى التعامل مع الجهاز المصرفي” وتحديث المهارات وتطويرها والاستثمارات المباشرة في القطاعات المُحدَدة باعتبارها أساسية في التشغيل خاصة للشباب والنساء.
تبدو تلك المشكلة مزمنة خلال العقدين الأخيرين؛ فقبل 2011 لم توفر معدلات النمو رغم ارتفاعها فرصًا للتشغيل، ومتوسط معدل البطالة بلغ نحو 12% في الفترة من 2009 وحتى 2016، مع ارتباط النمو بأنشطة غير كثيفة العمل. ما يعني أن انعكاس النمو على معدلات الفقر والبطالة وغيرهما يتطلب استدامة النمو فترة طويلة.
قبل أشهر، أكد صندوق النقد الدولي أن برنامج الإصلاح الاقتصادي ترك آثارًا على شرائح الشعب المصري، وخاصة الطبقة المتوسطة، وأن الأمر يتطلب خلال الفترة القادمة التركيز على إطلاق طاقات الاقتصاد لصالح تلك الطبقات.
لكن مصدر بوزارة المالية يخالف هذه الرؤية، ويقول في حديثه لـ”مصر 360″، إن الدولة تبنت مشروعات تنموية لتحسين معيشة المواطنين، ولتوفير فرص العمل، مثل المبادرة الرئاسية لتنمية الريف المصرى وإرساء دعائم الحياة الكريمة بكل مفرداتها، تعد المشروع الأضخم تمويلًا، والأكثر تأثيرًا، وشمولاً، الذى يؤكد استفادة جميع المواطنين على مستوى الجمهورية بثمار النمو الاقتصادي.
يشير المصدر أيضًا إلى برنامج “تكافل وكرامة” الذي يستهدف الفئات الأكثر احتياجًا والأولى بالرعاية، تعزيزًا لمظلة الحماية الاجتماعية، جنبًا إلى جنب مع توصيل مياه الشرب والصرف الصحى والغاز الطبيعى للارتقاء بجودة حياة المواطنين.
حلول مقترحة
ترى الأدبيات الاقتصادية والدراسات الاقتصادية أن تحقيق النمو يجب أن يكون احتوائيًا وشاملًا، والنمو الاحتوائي يرتكز على مبدأ مشاركة أطياف المجتمع كافة في جهود التنمية وفى جني ثمارها، دون تمييز أو إقصاء. هذا التوجه ناتج عن حقيقة أن فوائد النمو أصبحت مركزة في أيدي قلة من الأثرياء، بينما انخفضت حصة الدخل التي تذهب إلى العمال الحقيقيين في معظم الدول. وهو ما زاد في توسع الفجوة بين طبقات المجتمع، وانعكس على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للدول، خاصة النامية منها.
لحل تلك المشكلة يجب اتباع سياسات مالية تعيد توزيع الدخل؛ للحد من التفاوت بين الطبقات الغنية والفقيرة، ولخفض الأثر المحتمل لهذا المتغير على النمو الاقتصادي. مع الالتزام بالمعدلات المثلى للضرائب، بما لا يخل بهدف النمو الاقتصادي، والترکيز على توجيه إنفاق عام أعلى لقطاع التعليم الجامعي، والعمل على تحقيق التوازن بين الطلب على العمل وعرض العمل لزيادة کفاءة رأس المال البشري.
تطالب الدراسات أيضًا باتباع سياسات ائتمانية تسهم في توزيع الائتمان المحلي للقطاع الخاص على عدد کبير من المشروعات مع الترکيز على المشروعات الصغيرة بتقديم القروض اللازمة بمعدل فائدة متميز، وفترات أطول لسداد القروض وتقديم حوافز وامتيازات للمشروعات التي يسهم فيها صغار المستثمرين، للحد من أثر التفاوت في الدخل على دعم قناة التراکم الرأسمالي، الذي يعتبر جزءا مهما من مكونات الطلب الكلي، إذ تعمل الزيادة في التراكم على زيادة معدل الطاقة الإنتاجية، وبالتالي زيادة معدل النمو الاقتصادي.