عشر سنوات من عدم الاستقرار والحرب الأهلية والتدخلات الأجنبية لدعم طرف محلي دون طرف آخر كانت كفيلة بتحويل ليبيا إلى اقتصاد منهار ومواطنين فقراء. وهي الدولة التي تملك أكبر احتياطات نفطية في إفريقيا.
ثمة تحديات وعقبات عديدة تلف مصير اقتصاد ليبيا. سواء تلك المرتبطة بتداعيات الصراع السياسي وانعكاساته السلبية على جميع القطاعات وعلى البنى الأساسية. أو تلك المرتبطة بجوهر الاقتصاد نفسه القائم على العائدات النفطية بالأساس. في الوقت الذي تؤكد فيه المؤسسات الدولية أن القدرة المالية الحكومية في ليبيا ستظل معتمدة بشكل كامل على الإيرادات النفطية إلى أن تنجح ليبيا في تنويع أنشطة اقتصادها. وهي مهمة وصفها البنك الدولي في أحد تقاريره بـ”الضخمة”.
وتمر ليبيا بتراجع اقتصادي غير مسبوق. خاصة مع الأضرار التي لحقت ولا تزال بقطاع النفط الذي يعد المورد الوحيد للبلاد. جراء الإغلاقات المتكررة التي أثرت سلبا على إيرادات الحكومة.
كما يعد النشاط الاقتصادي في ليبيا اليوم رهينة الانقسامات السياسية العميقة بين سلطتين متنافستين تتنازعان السيطرة على “الهلال النفطي”. الواقع في منتصف الطريق بين طرابلس العاصمة في شمال غرب البلاد وبين بنغازي في الشمال الشرقي التي تسيطر عليها قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر.
وبين هذا وذاك يعجز الليبيون عن تصريف أمورهم الحياتية اليومية في ظل نقص حاد في السيولة والبنزين والكهرباء والتضخم المتسارع.
مسكنات مؤقتة
اهتمام الحكومات المتعاقبة على قيادة السلطة التنفيذية في ليبيا بالبحث عن الشعبية السريعة في إطار المعارك السياسية التي لا تتوقف جعلها تلهث دائما وراء المسكنات المؤقتة. التي لا تبني اقتصادا قويا. وهو الأمر نفسه الذي تبناه عبد الحميد الدبيبة -رئيس حكومة الوحدة الوطنية- التي انتهت صلاحية الاتفاق السياسي الذي جاءت بموجبه في يونيو/حزيران الماضي.
ووفقا لمؤسس سوق المال الليبي سليمان الشحومي فإن حكومة الوحدة الوطنية الحالية تتخبط ولا تلتفت إلا للحلول الشعبوية. في ظل بحثها عن شعبية زائفة وعدم القدرة على إدارة البلاد وإصرارها على الاستمرار.
وقال “الشحومي” إن المشروعات القصيرة الأجل ومحدودة التأثير التي تتبناها الحكومة قد تكون مجرد مسكنات مؤقتة. مثل منحة الزوجة والبنات ومنحة الزواج ومنحة الحج ومشروعها المعلن أخيرا بمنح قروض عقارية. برغم تعطل كل أجزاء النظام المصرفي والمؤسسات المساندة كالتنظيم العمراني والسجل العقاري وغيرها.
ويستفيد نحو مليون و330 ألف مواطنة من منحة الزوجة والبنات. حيث تستحق نحو 410 آلاف فتاة من منحة البنات فوق سن 18 عامًا. وقيمتها الشهرية تبلغ 100 دينار بإجمالي 41 مليون دينار. بينما تحصل 920 ألفًا و567 مواطنة على منحة الزوجة التي تستحقها الأرملة والمطلقة أيضًا بقيمة 150 دينارًا شهريًا بإجمالي 138 مليونًا و85 ألفًا و50 دينارًا.
على المنوال أعلن “الدبيبة” في أغسطس/آب الماضي تخصيص مليار و700 مليون دينار قروضا سكنية عبر المصرف العقاري.
كما كشف عن اتجاه للتوسع في برنامج القروض عبر المصارف لكل الليبيين وليس فقط للشباب ودون “ربا”. بالإضافة إلى برنامج الإيجار التمويلي بضمان الحكومة. والذي يتمثل في تقديم أفكار لمشروعات صغيرة ومتوسطة للجهات الحكومية المعنية لدراسته والموافقة على تمويل تلك المشروعات لأصحابها.
يعود “الشحومي” ليؤكد أن حكومة “الدبيبة” لا تعمل بمستهدفات محددة لمعالجة الأزمات الاقتصادية القائمة. ولا تشترك في مشروع إنقاذ اقتصادي مع السلطات الأخرى في البلاد.
إصلاحات اقتصادية مرهونة بوحدة المؤسسات
بدلا من المضي نحو البحث عن حل للأزمة السياسية في البلاد والتي تعد السبب الرئيسي لكل ما تعانيه ليبيا حاليا زادت الأوضاع السياسية سوءا. في ظل وجود حكومتين تتنازعان السلطة في البلد الذي يعيش فيه نحو 7 ملايين مواطن. إحداهما برئاسة الدبيبة وتتخذ من طرابلس مقرا لها. والأخرى برئاسة وزير الداخلية السابق في حكومة الوفاق الوطني فتحي باشاغا وتتخذ من مدينة سرت مقرا مؤقتا لها.
الوضع الاقتصادي الهش دفع المؤسسات الدولية إلى حث الليبيين على ضرورة توحيد المؤسسات في أسرع وقت. وذلك لضمان الوصول إلى إدارة جيدة لمقدرات الدولة ومواردها. وهو الأمر الذي أكده المدير الإقليمي للبنك الدولي لمنطقة المغرب العربي ومالطا -جيسكو هنتشل- الذي شدد على حاجة ليبيا إلى مؤسسات موحدة وإرادة سياسية وإدارة جيدة لاتخاذ قرارات بإصلاحات عاجلة.
وأشار تقرير صادر عن البنك الدولي في إبريل/نيسان الماضي إلى حاجة ليبيا إلى استثمارات عاجلة في مجال البنية التحتية. في ظل ضعف النمو في القطاعات غير النفطية. خاصة أمام اعتياد الاقتصاد الليبي على الاستيراد فقط والاستهلاك دون إدخال الصناعات الصغيرة والمتوسطة والزراعة والسياحة للبلاد.
وفي تقريره الأخير عن “آفاق الاقتصاد العالمي” سلط صندوق النقد الدولي الضوء على الأوضاع المتردية للاقتصاد الليبي. محذرا من “كارثة” مع ارتفاع معدل الضخم بسبب الغلاء الناجم عن الاضطرابات التي يشهدها الاقتصاد العالمي. إضافة إلى انهيار القوة الشرائية للدينار والإغلاقات المتكررة للآبار النفطية.
الأموال المجمدة.. طوق نجاة معطل
منذ تولي عبد الحميد الدبيبة رئاسة حكومة الوحدة الوطنية اتجهت عيناه كغيره ممن تولوا قيادة السلطة التنفيذية إلى أموال ليبيا المجمدة في البنوك الأوروبية منذ سقوط الرئيس معمر القذافي.
ودخل الدبيبة بالفعل في مفاوضات مكثفة مع بعض الدول الأوروبية التي تحوي بنوكها أموالا ليبية مجمدة منذ 2011 للإفراج عنها والاستفادة منها في إنقاذ الوضع الاقتصادي المتردي في بلاده كحل عاجل وسريع في توفير السيولة.
وعندما يتعلق الأمر بالأموال الليبية المجمدة في الخارج فإن القضية تعني استثمارات في شركات وبنوك أوروبية كبيرة. بالإضافة إلى ودائع وأسهم وسندات تشمل مئات البنوك والشركات الأوروبية.
كما يتعلق الأمر بشكل رئيسي بأموال “صندوق الاستثمارات الليبي” الذي تأسس عام 2006 لإدارة واستثمار فوائض العوائد النفطية الليبية. وقد استثمر هذا الصندوق في عهد القذافي أكثر من 100 مليار دولار غالبيتها في شركات وبنوك إيطالية وبريطانية وبلجيكية وألمانية.
وبحسب إحصائيات رسمية فإن الأموال المجمدة داخل البنوك الأوروبية شاملة الأصول والسندات بلغت ما قيمته 200 مليار دولار.
وجمدت هذه الأموال بموجب القرار الصادر عن مجلس الأمن الدولي في مارس 2011. ويتضمن فرض عقوبات على نظام القذافي بعد اتهامه بقمع ثورة فبراير/شباط. ومن بينها تجميد الأصول الليبية شاملة كل الأصول المالية والأموال والموارد الاقتصادية التي يملكها النظام السابق بصورة مباشرة أو غير مباشرة في الخارج.
توحيد سعر الدولار لمواجهة تهريبه
حتى مطلع عام 2021 كان في ليبيا سعرا صرف رسميان. الأول 1.40 دينار في مقابل الدولار الواحد. وكان مخصصا حصراً للأغراض الحكومية. والثاني حدد بـ3.9 دينار للأغراض التجارية والشخصية قبل أن يتم إدخال تعديل سعر صرف الدينار في أول اجتماع موحد لمجلس إدارة البنك المركزي الليبي.
واتخذ القرار بعد ضغوط محلية ودولية على البنك المركزي بضرورة توحيد السعر للحد من عمليات الفساد المالي وغسل الأموال من أطراف ليبية تهرب الدولار للخارج. مستغلة الفارق بين السعر الرسمي وسعر السوق السوداء. والذي تخطى قبل اتخاذ القرار السبعة دنانير.
الخلاصة يمكن القول إنه حال استطاع الليبيون إنهاء الأزمة السياسية سريعا والذهاب للانتخابات عقب الاستقرار على القاعدة الدستورية فإن الأوضاع ستكون مهيأة لقفزة كبيرة. من شأنها تصحيح مسار الاقتصاد الليبي المتردي. خاصة في ظل تزايد معدلات إنتاج النفط مؤخرا. والذي عاد ليكسر حاجز المليون برميل يوميا. والأهم من ذلك أيضا هو الارتفاع الكبير في سعر النفط عالميا. ما يجعل الاقتصاد الليبي أمام فرصة ذهبية للتعافي.
ولكن أيضا يجب الإشارة إلى تحد مهم أمام الليبيين خلال الفترة المقبلة مرتبط بمدى إمكانية تطوير البنية التحتية لقطاع النفط. والذي يمثل قاطرة الاقتصاد الليبي. خاصة في ظل التهالك الشديد الذي أصاب تلك البنية خلال السنوات العشر الماضية.