ما بين بناء نظم صحية تستجيب لخطط مواجهة الأمراض والأوبئة وبين طرق وآليات السيطرة عليها يكشف بيتر ساندس رئيس الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا الطريقة التي يعمل بها الصندوق في أكثر من 120 دولة. خاصة بعد أن فرض وباء كورونا نفسه ولفت الأنظار عن عدد من الأمراض القاتلة.
“ساندس” أوضح في حوار خاص لـ”مصر 360″ على هامش مؤتمر القمة العالمي للابتكار في الرعاية الصحية “ويش” الذي تنظمه مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، في العاصمة الدوحة، أن الاستجابة والتحرك كرد فعل للتعامل مع مرض معدي تتطلب في البداية بعض المكونات الأساسية في النظام الصحي لأي دولة. كما أوضح: “الاستجابة للأمراض تتم عبر نظام صحي يتمتع ببعض الإمكانات الأساسية مثل سلاسل التوريد والرعاية الصحية الأولية وتوافر أماكن للفحص والكشف. كما أضاف أن تلك المتطلبات عامة سواء كان المرض جديد أم موجود بالفعل، وبناء على نوع المرض نحدد ما الذي نحتاجه لمواجهته. هل لقاحات واختبارات مثل كورونا أم أمصال وخطة علاج طويلة، أم الاثنين معا”.
اقرأ أيضا.. بعد اتفاق التصنيع.. هل مصر قادرة على سد احتياجات السوق المحلية للقاح كورونا؟
خلق التوازن بين مكافحة الأوبئة وبناء النظام الصحي
ووفق “ساندس”: “هناك من يفضل أن ننفق على لقاحات مثل كورونا والبعض يفضل دعم النظام الصحي نفسه. ومن ثم علينا خلق توازن بين الاثنين فلا معنى لوجود نظام صحي دون عقار أو أدوية لتلقي العلاج. وكذلك مثلما علمتنا أزمة كورونا لا يمكن أن نستفيد من اللقاحات في ظل غياب النظام الصحي اللازم للتلقيح والتوزيع والكشف”. مؤكدا: “من أهم التحديات العملية التي نواجهها كصندوق دولي هي إيجاد هذا النوع من التوازن بين العلاج والاستثمار في بناء النظم الصحية نفسها. ومن ثم لا يوجد إجابة مثالية لأن كل دولة لها ظروف مختلفة وتحديات متباينة”.
وضرب رئيس الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا مثالا بباكستان التي تواجه حاليا موجة من الفيضانات غير المسبوقة ما يجعلها بيئة مثالية لتفشي الأوبئة. إذ قال: “لو نظرنا إلى دولة مثل باكستان حاليا، يكون السؤال هل نتعامل مع الأوبئة المتفشية كنتيجة للفيضان أم نتدخل لبناء بنية تحتية تصمد أمام ذلك؟. هو أمر قد يستغرق سنوات طويلة نخسر خلالها أرواح البشر. ومن ثم فحالة باكستان تحتم علينا التعامل مع الأمراض للحد منها بسرعة ويتبقى الاستثمار في النظام الصحي مستقبلا”.
“ساندس” أشار أيضا إلى التحديات التي فرضتها أزمة كورونا العامين الماضيين على باقي الأمراض. إذ استحوذت على الاهتمام العالمي كجائحة. يقول: “نحاول مساعدة الدول للاستجابة للكوفيد بل وإدارة الأزمة بالتوازي مع ذلك للحد من خطورة بقية الأمراض مثل الملاريا والإيدز لأنهما يقتلان ضحايا أكثر من كوفيد في الدول الأكثر فقرا”. مضيفا: “حين تستجيب لتهديد مثل كورونا فلا يمكننا أن نقيس النجاح بتقليل وفيات الوباء بينما نتجاهل بقية الأمراض. بل المفتاح هو العمل على إيقاف تفشي جميع الأمراض في نفس الوقت. ومن ثم فإنه لا يمكننا أن نضع السيطرة على وباء كورونا كمقياس للنجاح لأننا لو وضعنا كافة الموارد في مواجهة وباء واحد وهو كورونا فلن ننجو من ارتفاع الوفيات في باقي الأمراض وهو ما لا يعتبر نجاحًا بأي حال”.
بين السل وكورونا.. كيف يستجيب العالم؟
وقارن “ساندس” بين السل والكورونا وهما مرضين متقاربين في الأعراض والأثار التي تضرب الجهاز التنفسي. مشيرا إلى أن الموارد تتوزع بين المرضين لأنهما يستعملان نفس المعامل ونفس الأطباء ونفس المستشفيات. مضيفا: “ننفق 4 مليارات دولار على الملاريا والإيدز وأنفقنا فوق ذلك خلال العامين الماضيين 4 مليارات ونصف دولار لمساعدة الدول على الاستجابة للأوبئة. ونشدد على أن أحد أهم الدروس هو ألا نركز على وباء أو فيروس كورونا وننسى باقي الأوبئة والأمراض لأنها ستجعل الأمر أسوأ”.
لقاح جديد للملاريا في 2023
واعتبر “ساندس” أن العالم محظوظ بوباء كورونا لأنه استجاب للقاحات. لأنه من الناحية العلمية لا تستجيب كل الأمراض للقاحات. ولذلك ما حدث مع كوفيد 19 من إنتاج وتجريب للقاحات يعتبر كشفا علميا كبيرا. مضيفا: “نستثمر منذ سنوات وسنوات ولم نستطع التوصل للقاح لعلاج الإيدز. أما الملاريا فهي ليست مرضا فيروسيا بل طفيلي ومن ثم فأن التحدي التقني هو التوصل إلى لقاح للملاريا، وهو أمر مختلف تماما عن تجربة كورونا”.
وأوضح ساندس: “لدينا بالفعل أول لقاح للملاريا ولكنه لن يغير طريقة مكافحة المرض لأنه مرتفع الثمن وينتج بكميات قليلة وغير فعّال بدرجة كبيرة. أما الآن فهناك لقاحات للملاريا قيد التطوير ونتمنى أن تطلق عام 2023 وتصبح أكثر فعالية. لكن علينا أن ننظر بحذر لتجربة الكوفيد وننتظر توقعات مختلفة. مضيفا: “على سبيل المثال ليس لدينا مصل للإيدز ومن ثم حالة كورونا لا تنطبق على جميع الحالات ولا أعني بذلك ألا نفعل شيء ونتوقف عن العمل. بل أؤمن أن لدينا الكثير لأن هناك دول تخلصت بالفعل من السل والملاريا ومن ثم علينا أن نعمل بجد لنصل لنتائج أفضل”.
وفرّق رئيس الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا بين الأوبئة المختلفة. إذ قال إن السل يؤثر على الفقراء في الدول متوسطة الدخل أما الملاريا والإيدز فيتنوعون بين الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل. حتى إنهم مازالوا في الهند والصين وباكستان وبنجلاديش وهي دول متوسطة الدخل. لذلك نحن نعمل في 120 دولة حول العالم لنتأكد من أن الموارد تصل لمستحقيها سواء لاجئين أو نازحين أو يعيشون في معسكرات اللاجئين أو مناطق للمهمشين. نعمل مع الحكومات ومنظمات المجتمع المدني في نفس الوقت.
السل وباء الفقراء وكورونا أصابت الأغنياء
ووصف “ساندس” السل بوباء الفقراء مؤكدا أنه يقتل أرواحا أكثر من الكوفيد 19. لكنه فرق بينهما بأن الأول يقتل من يعيشون في الدول الفقيرة. بينما كورونا قتل الناس في الدول الغنية.
واستكمل ساندس: “لا يعني ذلك أن نجلس في جينيف لنقرر ما الذي سيحدث في باكستان أو مصر أو الهند بل نعمل على المستوى المحلي. بل أرى أن قمة الابتكار في الرعاية الصحية تساعد الناس على بناء الأفكار والقناعات ونتأكد من انفتاحهم على الأفكار الجديدة. فالعالم يستغرق وقتا طويلا لتبني أفكار جديدة لاسيما في قطاع الصحة ومن هنا تأتي أهمية التركيز على الابتكار خاصة بعدما علمتنا كورونا دروس جديدة حول الابتكار في عالم الصحة.
وعن تمويل النظم الصحية في الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل من أموال الضرائب قال ساندس: “من المهم أن نبني نظام مستديم لتمويل النظم الصحية في كافة الدول. والصندوق لديه التزامات في التمويل ناحية الكثير من الدول. لكننا نطلب من كل دولة أن تساهم في أي تمويل نقدمه بنسبة معينة ونقدم لهم الدعم الفني والتقني لكي يتم تطوير نظام صحي مستدام”.
إنقاذ 50 مليون إنسان من السل والإيدز والملاريا
كما أضاف: “بالفعل النظام الصحي العالمي يحتاج لمصادر تمويل مستدامة وقد يصبح جمع الضرائب أو نظام تأمين صحي شامل أحد الحلول. فالمفتاح هو بناء نظام صحي واسع الانتشار ويعمل بشكل مستدام. لكن مع ذلك فأن الدعم الخارجي مهم في ظل ظروف مثل كورونا والحرب الأوكرانية والتغيّر المناخي.
كان الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا خلص في تقريره لعام 2022، إلى أن الجهود المبذولة للتصدي لأمراض نقص المناعة “الإيدز”، والسل، والملاريا، شهدت تحسنا ملحوظا منذ العام الماضي. خاصة بعد أن تضررت بشدة من تسليط الضوء على جائحة (كوفيد-19) في عام 2020 باعتبارها أولوية صحية.
شدد التقرير على أن الحرب ضد فيروس “الإيدز” والسل والملاريا أنقذت حياة 50 مليون شخص على مدى السنوات العشرين الماضية. كما أشار: “أحرزنا تقدما هائلا”. إذ انخفضت معدلات الوفيات إلى النصف منذ ذلك الحين. لكن التقرير حذر في الوقت نفسه من أن “العالم لا يزال بعيدا عن المسار الصحيح لهزيمة هذه الأمراض الفتاكة”.