بدأ الأمر بسوء تفاهم بسيط، ذهبنا إلى فعالية دولية على أطراف مدينة آيوا الأمريكية بعد أن عرفنا أننا سنلتقي هناك عددا من الكتاب (الأجانب مثلنا) ممن يزورون الولايات المتحدة أو يقيمون فيها. كجزء من فعاليات مشاركتنا في البرنامج الدولي للكتابة الذي تستضيفه جامعة آيوا. لكن الأمر لم يكن كذلك، هل كان الخطأ من منظمي البرنامج أم أننا نحن الذين فهمنا خطأ؟ لم يكن هناك أي كتّاب. بل صالة واسعة مزينة بالأعلام، يتوزع داخلها عدد من الموائد يمثّل كل منها بلدا، ويقدم تذكارات وأطعمة ومشروبات وطنية، كانت الصالة مبهجة رغم سوء التفاهم، والقائمون على الموائد فرحون يرتدون الأزياء الوطنية ويقدمون بفخر منتجات بلدانهم، من اليابان إلى كولومبيا، ومن البرازيل وشيلي إلى الصين. كانت فرصة لطيفة لا للتعرف على ثقافات متعددة فحسب، بل كذلك لتناول الكثير من المشروبات والمأكولات المعدة بإتقان.
اقرأ أيضا.. ثقافة غير افتراضية في العالم الحر (رسالة آيوا)
الوجود العربي كان حاضرا أيضا، كانت طاولة السودان كبيرة حافلة بالمشروبات والمأكولات السودانية –معظمها قريب من الأطعمة المصرية- بالإضافة إلى عدد من الشعارات المؤيدة للثورة السودانية.
المائدة اللبنانية كانت تنافس التركية في الأطعمة اللذيذة والكرم، مع زحام أكبر حول مائدة بلاد الأرز. ولسبب غامض، حين اقتربت من المائدة، بادرتني السيدة القائمة عليها بسؤال عن بلدي (ربما بعد أن سمعت لكنتي العربية)، ثم حاولت الاستنتاج بنفسها وافترضت أنني من السودان.
“كلا”. أجبتها وقد داخلني شعور غريب بالضيق. صحيح أنه من الجميل أن يُخلط بين المصري والسوداني، أن يُعتبر السوداني مصريا أو المصري سودانيا. لكني مع ذلك شعرت بامتعاض حاولت تفسير سببه، وسرعان ما أدركت أن مبعث ضيقي أنها حاولت استنتاج جنسيتي اعتمادا على لون بشرتي فحسب، وأن هذا مهما كان حسن النوايا فيه، يحمل حكما فيه لمسة ولو غير مقصودة من العنصرية. هل كنت سأحس نفس الشعور لو كنت أبيض البشرة؟ لو أخطأ أحدهم فافترض أنني من السويد؟ لا أعرف. غير أن مما تعلمته هنا أن البشر –أيا كانت جنسيتهم– يصبحون حساسين لدى الخطأ في هويتهم، وأن هذه الحساسية تزيد –لأسباب غامضة- بين أهل البلدان المتجاورة.
على كل حال تجاوزت الموقف سريعا، مستعينا بـتناول “المناقيش” و”العثملية”، ثم بالقهوة الكولومبية اللذيذة الموضوع بجوار صور عملات تذكارية تحمل صور أديب كولومبيا الأعظم جابرييل جارسيا ماركيز، قبل أن أنتبه بعد قليل إلى وجود طاولة خالية عليها العلم المصري.
التقطت صورة للطاولة الخالية إلا من العلم للاحتفاظ بذكرى “كوميدية” عن الرحلة، ربما لمشاركتها مع أصدقائي على فيسبوك. لكن بعد قليل، لفتت إحدى القائمات على المعرض انتباهي إلى أن “المصريون وصلوا”.
أسرة مصرية عادية، تقليدية إن جاز التعبير، أم وأب – لحق بالأسرة بعد قليل، ربما كان يصفّ السيارة وأطفال، ارتدى الولدان الجلباب المصري التقليدي، كجزء من المشاركة في الفعالية، أما أختهما، الطفلة بدورها، التي لا يبدو أنها وصلت إلى سن المراهقة، فكانت ترتدي الحجاب.
إذا كان الناس يختلفون حول الحجاب من الناحية الدينية والحقوقية، فإن حجاب الأطفال، هو بلا شك أحد أشكال إساءة المعاملة، وفرض قيد كبير على إنسان لا يزال في مرحلة ما قبل الإدراك واتخاذ القرار، فضلا عن ما قد يهدده إذا قرر –حتى في هذه السن المبكرة– اتخاذ قراره الخاص برفض هذا القيد.
لكن اللافت أن الأسرة لم تبدُ أسرة متطرفة، بل أسرة مصرية عادية لها لكنة ريفية، أخبرتني السيدة أنهم وصلوا متأخرين لأنهم عرفوا عن المعرض في آخر لحظة، هكذا ارتجلوا مشاركة محدودة، بعض البلح الأمهات (لا أعرف من أين حصلوا عليه)، وجهاز كمبيوتر أخذوا يعرضون عليه صورا لمعالم مصرية، وآثار فرعونية. حاولت الطفلة البريئة، المبتسمة، أن تعرض لي بعض الصور حتى بعد أن تحدثت معهم بالمصرية، أخبرتها والدتها أنني لا أحتاج إلى ذلك. استعراضهم للصور الفرعونية يخبرك أنهم ليسوا أسرة متشددة دينيا، وهو ما يثير الحزن أكثر، إذ أن حجاب الطفلة في هذه الحال، صار جزءا من هوية مصرية عامة، لا تشترط تبني أفكار متشددة.
لم أجد لديّ الحق، ولا الفرصة لأسألهم لماذا يحجبون طفلتهم؟ شعرت بالأسى تجاهها وتمنيت أن تمنحها حياتها في أمريكا، يوما ما، حرية الاختيار. لم أتمكن من تفادي التفكير في المفارقة، إذ في هذه الأيام، التي تثور فيها بنات إيران –مجددا– ضد الحجاب الإجباري، الذي فرضه القانون بعد الثورة الإسلامية، لا يزال الحجاب يلاحق المصريات في بلدهم وفي الخارج، كجزء من أزمة حضارية أشمل.