لا أظن أنه مهما اختلفنا حول الإدارة السياسية المرتبكة لحرب أكتوبر ونتائجها السياسية اللاحقة المخيبة للآمال، أن هناك من يختلف على أن بطولة الأداء العسكري للقوات المسلحة في الحرب ولحظة العبور وأيامه الثمانية الأولى “6 – 13 أكتوبر” حتى بدء الجسر الجوي الأمريكي الفاجر لإنقاذ إسرائيل نفسها وليس فقط جيشها من الانهيار.. كانت وبجدارة من أكثر لحظات التاريخ القومي مجدا وفخارا في تاريخنا الحديث.
اقرأ أيضا.. هل تعمق وفاة الشيخ القرضاوي جراح الإخوان؟
وعندما نتحدث عن أبطال الحرب سواء من مهدوا لها بإعادة بناء القوات المسلحة بعد عدوان 1967 وشن حرب الاستنزاف عادة ما نتحدث عن الأبطال من الرجال (الجنرال محمد فوزي والجنرال عبد المنعم رياض) أو القادة الثلاثة الرئيسيين لحرب أكتوبر المشير أحمد إسماعيل، والفريق سعد الدين الشاذلي، والمشير محمد عبد الغني الجمسي.
لكن هناك جنرالا آخر من غير البشر قدر له أن يلعب دورا حاسما في نصر أكتوبر وبالتحديد في حل معضلة العبور لقناة السويس أكبر مانع مائي في تاريخ الحروب. هذا الجنرال المدني غير العسكري، المعنوي وليس البشري، كان هو السد العالي الذي كانت مصر منهمكة في معركة -لا تقل ضراوة عن معركة محو عار الهزيمة- وهي معركة استكمال بنائه فيما وصف دوليا لاحقا بأنه أعظم مشروع هندسي نافع أنجز في القرن العشرين حيث أعلن انتهائه يوم 23 يوليو 1970 وافتتح رسميا في 1971.
ولا أظن أنه كتب ما يكفي لإنصاف دور السد العالي في جعل لحظة العبور ممكنة بل ومذهلة حتى لقادتنا الذين خططوا للحرب أنفسهم قبل الآخرين، إذ قال لي الفريق الشاذلي في فيلم وثائقي صنعته عن الحرب في أكتوبر 1997، أي بعد ربع قرن على انتهاء الحرب: (كان أداؤنا أفضل بكثير مما توقعنا، وكان أداء الإسرائيليين أصحاب أكذوبة الجيش الذي لا يقهر أسوأ بكثير مما توقعنا.. كانت حساباتنا أن نخسر عشرة آلاف من قواتنا في موجة العبور الأولى فلم نخسر سوى 200 مقاتل فقط).
واجهت القوات المسلحة المصرية بعد الهزيمة عقبتين عسكريتين كان من الممكن أن تصيب أي جيش بالإحباط.
العقبة الأولى: هي التفوق النوعي لسلاح الطيران الإسرائيلي على سلاح الجو المصري بحيث يستحيل تحريك الحشود الرئيسية للقوة البرية لتعبر قناة السويس تحت رحمة هذا الطيران دون توفير حائط دفاع جوي رادع قادر على حماية هذه القوات وإسقاط الطائرات الإسرائيلية التي تغير على المشاة والمدرعات أو على الأقل تحييدها ودفعها إلقاء قنابلها بعيدا عن جنودنا او دفعها للهرب من مرمى صواريخ هذا الحائط.
في الأول من فبراير 1968 وافق القائد الأعلى آنذاك جمال عبد الناصر على توصيتين أو خطوتين استراتيجيتين من الناحية العسكرية الأولى هي إنشاء سلاح للدفاع الجوي كقوة رابعة مع القوات المعروفة البرية والبحرية والجوية وكان أول قائد للسلاح الجديد هو الفريق -لاحقا- المشير محمد علي فهمي. والخطوة الثانية هي بناء حائط لصواريخ الدفاع الجوي يصل مداها إلى الضفة الشرقية للقناة بعمق عشرة كيلومترات كمظلة حماية للجيشين الثاني والثالث. وتكفلت مهاراته في المناورة السياسية بتوفير غطاء سياسي لغطاء الدفاع الجوي المطلوب بناؤه تحت بصر العدو وتحت مرمى نيران تفوقه الجوي فقبل مبادرة روجرز بما أوحى للقادة الإسرائيليين أن مصر ربما تكون مستعدة للتوجه نحو خيار تسوية سياسية وليس خيار الحرب بالضرورة.
هنا كان الظهور الأول للجنرال السد العالي في الحرب، إذ إن هذه المهمة الشاقة كانت تستدعي خبرات هندسية وإنشائية معقدة ومختلفة عن التجارب المعروفة. وهنا حضرت الخبرة المتراكمة لشركات المقاولات المدنية المصرية التي اكتسبت خبرات هائلة من نحو 5 آلاف فني وخبير سوفييتي شاركوا في بناء السد ونقلوا كي يُعد المستوى الثاني مباشرة من التكنولوجيا الحديثة بعد التكنولوجيا الغربية التي منعت عن مصر.
لإنجاز هذا الحائط خلال وقت قياسي في 40 يوما (20 مايو إلى 30 يونيو 1970) ظهرت الحاجة إلى حشد هائل من شركات المقاولات والمعدات والعمال والمهندسين المصريين وهو ما لم يكن متوافرا إلا في مشروع السد العالي كما كان يحتاج إلى تجهيزات هندسية حصينة كان المصريون قد طوروها وتعودوا عليها في معركة بناء السد العالي وكانت هناك الحاجة المطلقة للسرية المطلقة وهنا كانت أيضا خبرات الانضباط التي راكمها المصريون في بناء السد والاحتفاظ بأسرار مراحل تطوره.
واختلطت دماء مئات من الشهداء المدنيين من مهندسين وعمال مع دماء الجنود والضباط العسكريين في غارات الجو الإسرائيلية التي سعت لمنع إقامة الحائط بشكل جنوني ولكنها أخفقت وكان ما سمى بـ”أسبوع تساقط الفانتوم” لـ17 طائرة إسرائيلية لأول مرة ليس فقط إعلانا عن كفاءة واكتمال حائط الصواريخ، وإنما كان بروفة عملية لدوره في حرب أكتوبر إذ حما هذا الحائط عملية العبور والقوات البرية كما حما رؤوس الكباري والمعابر التي أقامها الجنود بين الضفتين الغربية والشرقية للقناة، موغلين في سيناء ورافعين علم مصر لأول مرة منذ 1967.
أما الظهور الثاني للجنرال السد العالي فكان في مواجهة العقبة الثانية التي لا تقل خطورة ألا وهي إقامة الإسرائيليين الساتر الترابي المخيف بطول خط بارليف الحصين والذي كان من شأنه تحويل أي عملية لعبور القناة إلى عملية بطيئة للغاية تصبح فيها القوات المصرية بالتالي فريسة سهلة سواء للطيران أو مدفعية العدو وتمنع عمليا إتمام العبور أو جعله يتم ولكن بخسائر فادحة في البشر والمعدات.
فقد ألهمت تجربة انتدابه في بناء السد العالي المقدم (اللواء لاحقا) مهندس باقي زكي يوسف الفكرة العبقرية التي سمحت بتفتيت هذا السد الترابي. إذ كان قد شهد عن قرب عملية تجريف عدة جبال من الأتربة والرمال داخل مشروع السد العالي بأسوان عن طريق استخدام مياه مضغوطة بقوة وتفتيت هذه الجبال وأعادة شفطها في مواسير من خلال مضخات لاستغلال هذا الخليط في بناء جسم السد.
بعد تسلسل الموافقات على فكرة الضابط الشاب التي استقاها من خبرة السد العالي تم في لحظة العبور التاريخية استخدام طلمبات الضغط العالي التي تم تصنيعها والتي وضعت على عائمات في مياه القناة ومنها انطلقت بواسطة المدافع المائية مصوبة نحو الساتر الترابي ففتحوا 73 ثغرة في زمن قياسي لا يزيد عن 3 ساعات عبرت منه قوات المشاة لاحتلال وتدمير خط بارليف.
السد العالي هذا الجنرال المدني المجهول في نصر أكتوبر درج كثيرون على وصفه بالمشروع القومي لمصر وأن دوره في هذا النصر كان حاسما كما كان في الصناعة والزراعة وتحديث الريف. لكن الحقيقة تقول إن السد العالي لم يكن في حد ذاته المشروع القومي لمصر وإنما كان درة التاج فيه، أما المشروع نفسه فهو مشروع التنمية المستقلة الذي عرفته مصر بين 1956/1970.
يقول الكاتب والدبلوماسي الشهير إيريك رولو إن جمال عبد الناصر كان همه الأساسي هو نهضة وتنمية مصر وتحسين أحوال المصريين المعيشية ويدلل على ذلك بأنه عندما استقرت له السلطة عام 1954 بعد إزاحة اللواء نجيب قال لمجلة فورين أفيرز الشهيرة “إن برنامجي هو الإصلاح الزراعي وإنشاء بنك صناعي لنبدأ في تصنيع مصر” ويستنتج رولو من هذا أن الحروب مع إسرائيل كانت كلها عدوانية من طرف الإسرائيليين ومفروضة عليه، وأن ناصر الذي اعتبر الصراع العربي الصهيوني صراعا وجوديا ممتدا ربما كان يعتبر أن تنمية مصر هي الخطوة الأولى لتوازن قوى حضاري يسمح باسترداد الحقوق الفلسطينية المشروعة.
هذا المشروع شمل أكبر عملية للتعليم والتصنيع في التاريخ المصري مقترنة بعملية إصلاح زراعي غير مسبوق، والأهم من ذلك كله بأكبر حراك اجتماعي وتقريب الفجوة الطبقية منذ عشرات القرون.
أعود هنا إلى التعليم والتصنيع كمفاتيح للنصر في أكتوبر كانوا من نتاج المشروع القومي. لقد رفد التعليم الواسع الجيش المصري المختلف كليا عن جيش 1967 بنحو مليون متعلم مصري كانوا قادرين على استيعاب الأسلحة الحديثة ومجاراة بل والتفوق أحيانا كثيرة في معظم المواجهات المباشرة على أسطورة الجندي الإسرائيلي. أما التصنيع الذي وفر أكثر من ألف مصنع من مصانع القطاع العام في كل التخصصات فقد كان العمود الفقري للمجهود الحربي الذي وفر تمويل تكلفة إعادة بناء الجيش وتسليحه وإعاشته وفي الوقت نفسه توفير احتياجات الجبهة الداخلية دون أزمة أو معاناة لا يمكن تحملها.
المشروع القومي لأي بلد هو القادر على حشد قواها المادية والبشرية ورفع مستوى الادخار والاستثمار وتحقيق معدلات عالية من الاعتماد الذاتي والتصدير وتوازن الموازنة العام والاستغناء أو في الحد الأدنى تقليل الاعتماد على القروض الأجنبية والديون والقادر على منع الخضوع في الغذاء والصناعة لابتزاز القوى الكبرى ومؤسساتها المالية الدولية. لعلها لم تكن رمية من غير رام عندما قال السادات “إن حرب أكتوبر هي آخر الحروب”، فمن فكك المشروع القومي بنفسه بادئا حملة تدمير التعليم والصناعة يعلم أكثر من غيره أنه لا يمكن لبلد أن يحارب حربا كبرى ويحقق فيها نصرا على عدو متفوق إلا في ظل وجود مشروع قومي.
ولهذا لم يكن غريبا أيضا أن يرد خلفه على مفكرين طالبوا بوجود مشروع قومي لكي تخرج مصر من أزمتها فقال في مناسبة نحن لدينا فعلا مشروع قومي هو المشروع القومي لبناء شبكة مجاري القاهرة الكبرى!! وقال في مناسبة أخرى لا مشروع ولا تاريخ ولا جغرافيا أريد فقط أن أوفر الطعام للشعب المصري وكأن الأخير عالة لا ينتج الثروة التي نهبتها مرة بعد الأخرى رأسمالية طفيلية ونزحتها إلى الخارج في عملية نهب ترقى إلى مستوى النهب الاستعماري القديم لمصر.