(إهداء إلى زياد العليمي)
بالتأكيد لا أريد الزج بشاب يؤدي ما يراه معبرا عنه وعن جيله من غناء وأداء وموسيقى في قضايا وموضوعات سياسية قد لا يكون له علاقة بها، لكن دلالات ورسائل الشعبية الجارفة التي حصدها “ويجز” بالذات في أوساط الأجيال الجديدة والشابة تستحق الكثير من التوقف أمامها.
هذه الظاهرة التي تستحق بحثا اجتماعيا وعلميا دقيقا بالتأكيد لا يقدمه هذا المقال، هي تعبير عن مزاج مختلف ومغاير، ربما يراه البعض على صعيد نوع الموسيقى والكلمات والأداء، لكنه وهو الأهم فهو مغاير أيضا في الرسائل والمعاني التي يحملها، وقد كان لدي دائما -ولا يزال- موقف سلبى من هذا النوع من الغناء والأداء، وربما كان هذا محل نقاش واختلاف مع عدد من الأصدقاء والزملاء سواء فيما سبق –بخصوص حالات أخرى مشابهة– أو مع بعض شركاء تجربة السجن مثل زياد العليمي وأصدقاء آخرين، الذين كان لديهم منطق أن هذه تجربة جيل مختلف حتى وإن كانت لدينا ملاحظات بخصوصها فعلينا احترامها وتفهمها ومحاولة المشاركة في تطويرها وتصويبها إن أمكن لا الاكتفاء برفضها ونقدها، وكنت ولا زلت أيضا ضد المنع والحظر والحجب وما شابه من إجراءات لا تفيد بل تجعل الممنوع مرغوبا أكثر فأكثر، لكنني لم أكن أرى في ذلك النوع من الموسيقى والغناء فنا، بل تعبيرا عن حالة سنية أو جيلية يتزايد فيها مقدار الذاتية والعنف اللفظي والبحث عن حلول فردية وخلاص شخصي دون اشتباك حقيقي مع قضايا المجتمع والوطن، وهو بالتأكيد ليس لزاما على أي فنان أو نوع من أنواع الفن، لكن هذا في تقديري ما اعتبره فنا جادا وهادفا، وكنت أظن أن هذا المزاج العام المنجرف والمحتفى بظواهر مثل ويجز وغيره هو تعبير عن فراغ حقيقي وعن تدهور حاد في الذوق العام وعن معانى ودلالات أخرى سلبية.
لكن بعد كثير من التفكير المبني على هذه النقاشات وغيرها، ومحاولات الاستماع لهذه التجارب، وملاحظة بعض الأداءات الشخصية لويجز وغيره من الشباب الجدد الذين يقدمون هذا اللون من الغناء والموسيقى، والتدقيق في المعاني التي يحاولون التعبير عنها، فإنني لا استطيع أن أدعي تغير وجهة نظري بشكل كامل، ولا أن أعبر عن إعجابي، لكن بالتأكيد هناك رسائل ودلالات حتى لو لم تكن مقصودة أو مباشرة، لشكل ولون ومحتوى ما يقدمه هؤلاء، وهو بالتأكيد مختلف عن غيره مما يسمى مهرجانات، أو أنواع أخرى من الفن والغناء والموسيقى تمثله شخصيات أخرى أكثر فجاجة وسوقية.
أول الدلالات التي أرغب في التوقف أمامها، أن هناك فجوة حقيقية تتسع بين الأجيال الجديدة وسابقتها، وهى فجوة لا تقتصر على نوع الغناء والموسيقى، بل تمتد لطريقة التفكير نفسها، وبالتأكيد طرق التعبير، التي قد نراها أحيانا عنيفة أو فجة أو مبالغة، لكنها في جانب آخر منها تعبير عن حالة مجتمعية نشأت فيها تلك الأجيال، شهدت تزايدا لظواهر العنف، وتقليص لمساحات التعبير والحريات العامة والشخصية، وتزايد مساحات الانقسام المجتمعي والقبضة السلطوية على مجالات مختلفة ومتعددة، بما فيها الفن والثقافة والأدب، فضلا عن تضييق المساحات المتاحة في المجال العام إجمالا وبالتالي تراجع الاهتمام بالعمل العام بمختلف أشكاله سواء على صعيد المشاركة السياسية أو المبادرات المجتمعية والأهلية وغيره.
في ظل هذا المناخ من الطبيعي أن تظهر وتتسع وتنتشر ظواهر مماثلة، لا في الفن والغناء وحده وإنما في غيره، وبالتالي فظاهرة ويجز وما تمثله تعبير طبيعي بل وحقيقي عن مزاج سائد لدى الأجيال الجديدة، بما في ذلك المعاني التي يعبر عنها، والمصطلحات التي يستخدمها، فضلا عن نوع وطريقة ولون الغناء والموسيقى.
الدلالة الثانية الهامة هي أنه كلما أحكمت السيطرة على كافة المجالات، بالذات تلك التي يفترض أن تترك مساحات للإبداع والموهبة فسوف تظهر مساحات أخرى بديلة تكتسب جمهورها وشرعيتها وربما تجنح لما هو غير سائد أو مقبول من قطاعات مجتمعية لتستطيع اكتساب شعبية وشهرة وتواجد وحضور، ومحاولات حصارها أو مطاردتها سواء من السلطة أو المجتمع لن تجدي، لأنه سيظل هناك من يراها تعبيرا عنه أو مناسبة لذوقه أو غيره، ولأنه في هذا العصر فإن فكرة المنع والحجب صارت فكرة بالية وغير ممكنة عمليا.
الدلالة الثالثة هي طبيعة اللغة التي نجحت في اكتساب كل هذا القدر من الجماهيرية بالذات في أوساط أجيال جديدة، لغة مباشرة وبمصطلحات مستخدمة في الحوار اليومي وبتركيز واضح على معانى يمكن النظر لها بمعنى الطموح الشخصي والاعتزاز بالذات والبحث عن النجاح، حتى لو حملت في كثير منها عنف لفظي وأشكال من الانتقاص من الآخر وغيرها من المعاني السلبية المتعددة التي لا أريد أن أطيل في الحديث عنها لأنها قد تأخذ الكثير من مساحة المقال، لكن المهم هنا أن هذه اللغة نجحت في جذب كل هذا القدر من الاحتفاء والاحتفال والمتابعة من الأجيال الشابة.
الدلالة الرابعة هي إمكانية التطور التي بدأت ملامحها تتضح مؤخرا، فمتابعة الأغاني الأخيرة لويجز على سبيل المثال تشير لتطور واضح في الشكل الموسيقي بل وحتى في طبيعة الكلمات والمعاني المعبر عنها، وهو ما يعني أنه رغم كل النقد الجائز والصحيح لما سبق في سياق هذه التجربة إلا أن هناك تطورا ملحوظا حتى لو كانت هناك ملاحظات وانتقادات له أيضا، ثم إن متابعة أيضا أداءات مثل أغنية في أحد الأفلام عن مخيم لاجئين أو مشهد ارتدائه لعلم فلسطين في أحد حفلاته، مثل هذه الملاحظات تشير لأن ما في هذه التجربة وشبيهاتها ما قد يبدو أكثر عمقا مما يظهر على السطح.
هل أحمل الأمور أكثر مما تحتمل؟ ربما، لكنني في الحقيقة استعدت تلك الأفكار في تلك التجارب الغنائية الجديدة التي كانت ولا تزال لا تناسب ذوقي الشخصي لكنني أصبحت أرى فيها ما يستحق التوقف أمامه وتأمله، على الأقل من باب احترام وتفهم من تعبر عنهم وتعجبهم، بمناسبة انتشار بعض الصور لمظاهرات إيران الأخيرة عقب واقعة مقتل شابة بسبب عدم رضا السلطة الدينية عن حجابها، وبعيدا عن كل الملابسات والظروف والتحليلات السياسية وطبيعة تلك المظاهرات ودوافعها وتوظيفها وهل هي مدفوعة من الخارج أم تعبير عن مزاج مختلف ومغاير لدى قطاعات في المجتمع الإيراني، المهم واللافت هنا هو أن ما جرى ويجري وسيجري، في إيران وغير إيران، أن الأجيال الجديدة بالذات في المجتمعات التي تشهد تضييقا سلطويا على مساحات التعبير والحريات العامة والشخصية، لديها مزاج مختلف، ويعبر عن نفسه بأشكال مختلفة، قد يكون منها إشارات الأصابع التي قامت بها طالبات إيرانيات، وقد يكون منها التجارب الغنائية التي تشهد نوعا من العنف اللفظي، وقد يكون هناك غيرها الكثير مما نراه أو سوف نراه، وهذا كله يقدم لنا إشارات مهمة، على ضرورة إتاحة الفرص لهذه الأجيال في التعبير عن نفسها، لا كبتها وقمعها، أو حتى رفض ما تقدمه أو ما يعبر عنها لمجرد عدم ملاءمته لنا أو لتقاليد وقيم المجتمع، نحتاج -سلطة ومعارضة ومجتمع- لتواصل حقيقي مع هذه الأجيال، وإتاحة الفرصة لها، والاستماع لأفكارهم وآرائهم، ونحتاج لعلاقة صحية معهم لا تقوم على التوجيه والنصح والإرشاد، بل على النقاش والحوار والتفهم.
كنا، وكان من قبلنا من أجيال، نرى السابقين علينا دائما غير مواكبين للعصر، وغير مدركين للتغيرات، وغير مستوعبين للآراء والأفكار والأذواق المختلفة، وأظن أن جيلنا تحديدا، بكل ما مر به من تجارب، وكل ما تعرض له من خبرات إيجابية وسلبية، يحتاج ألا يكرر نفس الأداء مع الأجيال الجديدة، ومن هنا فهذه دعوة لا للإعجاب بويجز وأقرانه وما يقدموه، ولا حتى لنقدهم أو إبداء الملاحظات بخصوص تجربتهم، وإنما لأن نستوعب أن هناك جيلا جديدا بمزاج مختلف وأداء مختلف وأفكار مختلفة وربما قيم مختلفة، وهذا لا يعنى أبدا أنه ليس لديه قيم أو معانى نبيلة يسعى لها ويؤمن بها، لكنه يشير بوضوح أيضا أن أولويات الحل الفردي صارت أولى في ظل عدم وجود رؤى وتصورات عن الحلول الجماعية لتطور المجتمع والدولة، ويشير لفجوة تتزايد مع هذه الأجيال حتى في إدراك معانى مصطلحاتهم ولغتهم التي يستخدمونها، ويشير لأن مساحات العنف اللفظي فضلا عما نشهده من عنف فعلي تتزايد في أجواء الانغلاق والكبت والتضييق. وهذه كلها رسائل أساسية ومهم أن نلتفت إليها ونحاول إدراكها وفهمها، وبحث سبل التعامل معها، وربما تكون رسالة ويجز وأقرانه -التجربة لا الأشخاص- للسلطة أن أجواء الكبت والتضييق لن تخلق سوى المزيد من الحدة والعنف حتى على المستوى اللفظي أو تجارب قد لا ترضي قطاعات واسعة لكنها ستحوز وتنال رضا قطاعات أخرى، وللمعارضة أن استخدام لغة حديثة معاصرة مباشرة واضحة بعيدة عن الشعارات التقليدية هي الطريق القصير للوصول لأذهان ووجدان الأجيال الجديدة. ولكلاهما معا أن أحدا لن يستطيع فرض تصوراته ورؤاه التقليدية على الأجيال الجديدة التي تمتلك المستقبل وبالتالي ضرورة أن يكون هؤلاء طرفا وشريكا في صياغة أي تصورات بخصوص هذا المستقبل.
(هذا المقال إهداء للصديق والرفيق وشريك تجربة السجن ونقاشاتها حول هذا الموضوع وغيره: زياد العليمي، الذي أدعو الله أن يكون قد اقترب بالفعل الإفراج عنه وعودته إلى حياته وأهله وأصدقائه ومحبيه قريبا جدا واسترداده لحريته التي يستحقها وتليق به).