أثارت الاتفاقية الأخيرة التي وقعتها حكومة الوحدة الوطنية الليبية، المنتهية ولايتها والتي يرأسها عبد الحميد الدبيبة، مع تركيا، في العاصمة طرابلس قبل أيام، للتنقيب عن النفط والغاز، استياء عدد من الأطراف الدولية المؤثرة في المشهد، أو تلك التي لها مصالح في منطقة شرق البحر المتوسط. وزيرا الخارجية المصري سامح شكري، واليوناني نيكوس دندياس، نددا من ناحيتهما، في مؤتمر صحفي مشترك الأحد 9 أكتوبر/تشرين الأول، بالاتفاقية. كما أكدا أن حكومة “الدبيبة” لا يحق لها التوقيع على أي اتفاقيات دولية، لكونها حكومة “منتهية الصلاحية”.
ليبيا التي تمتلك ثروات نفطية كبيرة جعلت لها وزنا مهما في شرق البحر المتوسط، تشهد ومنذ سقوط نظام الرئيس السابق معمر القذافي في عام 2011، تنافسا كبيرا من القوى الإقليمية لترسيخ حضورها في الداخل الليبي. من ناحية أخرى وعلى مستوى السياسة الخارجية التركية، تقع ليبيا على رأس الأولويات، حيث تتبع أنقرة نموذجا انتهازيا للحفاظ على مصالحها، حتى لو أدى ذلك لتهديد الأمن الإقليمي.
المشهد الممزق في ليبيا بين حكومتين “حكومة الدبيبة وحكومة فتحي باشاغا المكلف من البرلمان” استغله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حيث وقعت حكومته منذ أيام اتفاقية للطاقة مع حكومة “الدبيبة” ما أثار استياء واسعا، ظهر أمس في اجتماع الخارجية المصرية. حيث أعلنت مصر واليونان رفضهما سياسات أنقرة في ليبيا وإصرارهما على ما قالوا إنه إثارة للنزاعات في البحر المتوسط عموما.
اقرأ أيضا.. كيف تغيرت موازين الصراع في ليبيا بعد مغامرة باشاغا؟
طاقة شرق المتوسط
استكشافات الطاقة في شرق المتوسط المقدرة بحوالي 122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي صعدت وتيرة المنافسة الإقليمية في المنطقة، ما دفع تركيا في عام 2019، لتوقيع اتفاقيتي ترسيم الحدود البحرية والتنقيب عن الغاز والنفط في المياه الليبية. بالإضافة إلى إقامة منطقة اقتصادية خالصة تمتد من الساحل الجنوبي لتركيا إلى الساحل الشمالي الشرقي لليبيا. كما سارعت بإصدار العديد من التراخيص لشراكات التنقيب في شرق المتوسط.
وفي ظل أزمة الطاقة الأوروبية الحالية نتيجة الحرب الأوكرانية، تحاول تركيا توسيع نفوذها دوليا من خلال لعب دور فعّال في معادلة أمن الطاقة. الأمر دفعها لاستكمال اتفاقيتي 2019 بتوقيع الاتفاقية الأخيرة مع حكومة “الدبيبة”، والتي أعلن عنها منذ أيام.
تتضمن الاتفاقية تعزيز وتطوير التعاون الثنائي على المستوى العلمي والتقني والتكنولوجي والقانوني والإداري والتجاري بين الطرفين في مجال الهيدروكربونات. كذلك تبادل المعلومات والخبرات المتعلقة بتنمية قطاعات الهيدروكربون، وتدريب الكوادر البشرية. كما تقضي المادة الثانية من الاتفاقية بتعاون الطرفين في المشروعات المتعلقة بتطوير واستخدام الموارد الهيدروكربونية، ومشروعات استكشاف وإنتاج ونقل وتكرير وتوزيع وتجارة الهيدروكربونات. إضافة إلى إنتاج وتجارة النفط والغاز والبتروكيماويات والمنتجات البترولية المتنوعة.
وردًا على الاتفاقية، جدد الاتحاد الأوروبي معارضته للاتفاق التركي الليبي الموقع في عام 2019، واعتبر الاتفاقية انتهاكا للحقوق السيادية. كما أنها لا تمتثل لقانون البحار ولا يمكن أن يترتب عليها أي أثر قانوني.
وكانت نجلاء المنقوش، وزيرة الخارجية والتعاون الدولي بحكومة الوحدة الوطنية في ليبيا برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وقعت الاثنين الماضي، مع نظيرها التركي، مولود جاويش أوغلو مذكرة تفاهم للتنقيب عن النفط والغاز في المياه الليبية.
دلالات الاتفاقية
تأتي الاتفاقية في ظل الظروف الراهنة على المستوى الداخلي الليبي والأوضاع الإقليمية لتحمل العديد من الدلالات:
أولها الانتهازية التركية، حيث يشكل الانسداد السياسي الليبي ظرفا مواتيا لتركيا لاستكمال طموحاتها في المتوسط. حيث ينقسم المشهد بين حكومة منتهية ولايتها، وأخرى تعجز عن دخول المقار الرسمية لممارسة مهامها اليومية “اي حكومة باشاغا”. ورغم أن أردوغان أعلن إبقاء الباب مفتوحا في البداية مع حكومة “فتحي باشاغا”فور حصولها على الثقة من البرلمان. لكن تحالف “باشاغا” مع قوات الجيش الليبي في الشرق بقيادة “خليفة حفتر” دفع تركيا إلى التعاون مع الجانب الآخر. وهو ما تبين خلال زيارة الدبيبة الشهر الماضي لأنقرة الأمر الذي يؤكد سياسة الأخيرة من حيث انتهاز كافة الفرص لتحقيق أكبر قدر من المنفعة.
وتأكيدا لمبدأ الانتهازية، يرى دكتور وليد مؤمن الفارسي، المحلل السياسي في الشأن الليبي، أن تركيا منذ سقوط نظام القذافي تستمر في توقيع الاتفاقيات مع الحكومات المتعاقبة استغلالا للمشهد المنقسم. ونظرا لتغلغلها في الغرب الليبي حيث يتمركز “الدبيبة” تحرص أنقرة دائما على توقيع الاتفاقيات مع الحكومات المنتهية ولايتها، في محاولة لإطالة أجل الانقسام السياسي هناك.ومساومة الدبيبة.
الدلالة الثانية للإتفاقية هي تهميش البرلمان.
إذ ترسخ خطوة إبرام الاتفاقية إصرارا واضحا من جانب الطرفين -أردوغان والدبيبة- على تجاوز المؤسسات الشرعية وانتهاك المقررات الدستورية. حيث لا يحمل الدبيبة أي سلطة تخوله لإبرام اتفاقيات دولية، كذلك يمثل تعاون تركيا مع “الدبيبة” إصرارا واضحا على تهميش البرلمان الليبي، الذي عارض سابقا الاتفاق البحري في 2019. كما اعتبر مذكرة التفاهم الأخيرة غير قانونية. “وإن كان هناك من يرى أن البرلمان هو أيضا انقضت مدته، وبالتالي شأنه شأن كافة الأجسام السياسية في ليبيا يعتبر غير شرعي”.
كذلك رفض المجلس الرئاسي الليبي الاتفاقية باعتبارها تتطلب التشاور مع المجلس، كما عبر 73 عضوا من المجلس الأعلى للدولة عن رفضهم للاتفاقية. كذلك بعث البرلمان برسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو جوتيريش” يطالبه بعدم الاعتراف بأي مذكرات تفاهم تبرمها حكومة الوحدة الوطنية ورئيسها “الدبيبة”.
الدلالة الثالثة للإتفاقية هي ترسيخ حضور تركيا العسكري في ليبيا، إذ أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان منذ أيام، بإرسال تركيا دفعة جديدة من المرتزقة السوريين إلى مصراتة الليبية، في خطوة تمثل انتهاكا قاطعا لمخرجات مؤتمري برلين1 و2 وقرارات مجلس الأمن فيما يخص حل الميليشيات وإخراج المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا. كما أقر البرلمان التركي في يونيو/ حزيران قرارا بمد وجود القوات التركية في ليبيا لمدة 18 شهرا إضافيا اعتبارا من 2 يوليو/ تموز.
ومن الناحية السياسية، حاولت أنقرة لعب دور الوسيط من خلال استضافة طرفي الأزمة -باشاغا والدبيبة- في زيارات متتالية لمحاولة التوصل إلى حل سياسي للأزمة. كما استقبلت رئيس البرلمان “عقيلة صالح” في أغسطس/ آب الماضي في زيارة اعتبرها البعض محاولة تركية لنقل العلاقات بين البلدين إلى مستوى أعلى.
يمكن تفسير الاتفاقية الأخيرة بين تركيا وحكومة الدبيبة، في إطار صفقة غير معلنة للحكومة الليبية منتهية الولاية للحصول على “شرعية فرض الأمر الواقع” من القوى الخارجية، من خلال عودة تركيا لممارسة دور فعّال في دعم “الدبيبة” كما دعمت “حكومة السراج” في مواجهة قوات “حفتر”.
خطوة في مواجهة مصر
على المستوى الإقليمي والمصري على وجه الخصوص يعتبر الملف الليبي أحد المعوقات الرئيسية أمام تعزيز العلاقات بين مصر وتركيا باعتباره مسألة تمس الأمن القومي المصري. ورغم حدوث انفراجة في بعض الملفات العالقة بين البلدين، تتمسك مصر بموقفها في ملف ليبيا من حيث ضرورة وقف التدخل التركي في الشأن الداخلي الليبي. وفي المقابل تستمر تركيا في التدخل السياسي والعسكري، وهو ما يكشف عدم جدية الأخيرة في تحسين العلاقات مع مصر.
ويشير كرم سعيد الباحث المتخصص في الشأن التركي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، إلى أن الاتفاق الأخير بين تركيا وحكومة “الدبيبة” يحمل إصرارا واضحا من جانب الحكومة التركية على الذهاب إلى حكومة غير شرعية، وما يتضمنه ذلك من تعقيد في العلاقات المصرية التركية ونسف للجهود المتواصلة منذ عام 2021 لحلحلة الملفات الشائكة بين البلدين.
كما أكد أن تلك الاتفاقية يمكن أن تعمل على جعل القاهرة أكثر انجذابا للمحاور المضادة لتركيا في دول شرق المتوسط لاسيما اليونان وقبرص لمواجهة الطموحات التركية. كما حدث خلال زيارة وزير الخارجية اليوناني العاجلة إلى مصر.
وطبقا للباحث في الشأن التركي، فرغم التكهنات باحتمالية رفع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين -مصر وتركيا- إلى مستوى سفير. لكن تأتي تلك الاتفاقية لتبقي الوضع على ما هو عليه من حيث قائم بالأعمال، مع الأخذ في الاعتبار أن العلاقات بين البلدين لن تصل إلى حد القطيعة في ظل رغبة البلدين على تطوير العلاقات الاقتصادية.
تداعيات محتملة
في ظل التوترات الحالية داخل ليبيا، من المتوقع أن تشهد البلاد المضطربة أصلا عودة للاشتباكات بين المكونات الليبية المختلفة، بالإضافة إلى تجدد الصراع على المستوى الإقليمي، وقتها سيكون للمشهد عدة تداعيات.
من أهم هذه التداعيات المحتملة زعزعة الاستقرار في المتوسط. ففي إطار لقاء وزيري الخارجية اليوناني والمصري، جدد الطرفان رفضهما للاتفاقية البحرية بين ليبيا وتركيا. وأكد بيان الخارجية اليونانية أن هذا الاتفاق “غير قانوني”. كما طعنت في شرعية حكومة الوحدة الوطنية الليبية في التوقيع على مذكرة التفاهم. بالإضافة إلى أنها تعهدت “برد فعل على المستوى الثنائي وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي”.
ومن المتوقع أن تتصاعد التوترات في شرق البحر المتوسط بعد الاتفاق، ويحذر محللون ودبلوماسيون من أن الاتفاق يهدد بإشعال بيئة قابلة للاشتعال.
مؤخرا، اتهم الرئيس التركي أردوغان أثينا بـ”احتلال” جزر بحر إيجة. كما وجه تهديدات مبطنة بغزو اليونان. كذلك عبر عن استيائه نتيجة رفع الحظر الأمريكي عن توريد السلاح إلى قبرص.
ويرى “يوانيس جريجورياديس“، رئيس برنامج تركيا في المؤسسة اليونانية للسياسة الأوروبية والخارجية، أن أول صفقة بحرية تركية مع ليبيا في عام 2019 هي المصدر الأول للتوتر في شرق البحر الأبيض المتوسط. حيث تجاهلت الاتفاقية تماما مطالبات اليونان بالمناطق الاقتصادية الخالصة، التي تقول إنها ملكها.
ويرى عبد الهادي ربيع، المحلل المتخصص في الشأن الليبي، أن الاتفاقية تضر بمصالح مصر واليونان لكونهما المتضررين المباشرين من الاتفاقية، حيث تقع المنطقة الاقتصادية الخالصة بين تركيا وليبيا ضمن المياه الإقليمية للقاهرة وأثينا.
وأكد أنه على مصر واليونان مخاطبة مجلس الأمن والأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي والناتو لرفض الاتفاقية واعتبارها باطلة كأن لم تكن. كما يجب أن يكون هناك تحرك دولي سريع لإنهاء الصراع السياسي في ليبيا والإتيان بحكومة شرعية جديدة يمكن التفاوض معها بشكل قانوني. إذ أن التفاوض مع “الدبيبة” غير مجد حيث يعد بمثابة اعتراف ضمني بشرعيته.