مع نهاية فترة الجمهوريين في البيت الأبيض والإدارة السيئة للرئيس دونالد ترامب، جاءت إدارة الرئيس جو بايدن حاملة الكثير من التغييرات بشأن التحركات الأمريكية في سوريا. بعد سنوات من التخبط، هدفت فيها واشنطن إلى تأمين منشآت النفط السورية، وتملكتها رغبة غير عملية في طرد القوات الإيرانية من دولة تربطها علاقات طويلة الأمد مع طهران.

قررت إدارة بايدن الابتعاد عن سياسة كانت منفصلة عن الواقع. كما أعادت ضبط أهداف الولايات المتحدة بشأن النزاع السوري. حيث أدركت الإدارة الحالية أنه قد حان الوقت للتركيز على المهمة الأصلية، وهي هزيمة تنظيم الدولة “داعش”.

على الرغم من سيطرة القوات المدعومة من الولايات المتحدة على مساحات كبيرة من الأراضي السورية إلا أن النفوذ السياسي والدبلوماسي لواشنطن لا يزال محدودًا

أيضا، عملت إدارة بايدن على استئناف تقديم المساعدة الهادفة لتحقيق الاستقرار لاستعادة الخدمات الأساسية، مثل المياه والكهرباء، في المناطق التي تسيطر عليها القوات المدعومة من الولايات المتحدة. وقد كانت الخطة هي القيام بذلك حتى تصبح الظروف أكثر ملاءمة لتسوية سياسية تفاوضية للحرب الأهلية السورية.

مع هذا، أشار فريق الرئيس، أولًا بشكل خاص مع وفد رفيع المستوى إلى سوريا في مايو/ أيار 2021. ثم علنًا، في تصريحات غير رسمية للصحافة، في يوليو/ تموز 2021، إلى أن الولايات المتحدة “ستحتفظ بوجود عسكري محدود”، يبلغ قرابة 900 جندي في سوريا.

اقرأ أيضا: مصائب الاقتصاد السوري.. انهيار لليرة وارتفاع بالتضخم والفقر

في تحليله لسياسة الخروج الأمريكية من سوريا، يلفت كريستوفر الخوري، الذي عمل مستشارًا لسياسة العراق وسوريا مع مكتب المبعوث الرئاسي للتحالف العالمي لهزيمة داعش من 2017 إلى 2019، أن هذا التعديل جاء مدفوعًا بالاعتراف بأنه على الرغم من سيطرة القوات المدعومة من الولايات المتحدة على مساحات كبيرة من الأراضي السورية. إلا أن النفوذ السياسي والدبلوماسي لواشنطن لا يزال محدودًا.

خيارات بديلة قاتمة

لا يزال الوضع الراهن مصحوبًا بمخاطره الخاصة. فساحة المعركة في سوريا معقدة، وتعمل القوات الروسية والسورية والأمريكية على مسافة قريبة بشكل متزايد.

في الوقت نفسه، كان هناك ارتفاع كبير في هجمات الميليشيات المدعومة من إيران، والتي تستهدف المواقع الأمريكية. مع تهديد متجدد بتوغل عسكري تركي، موجه ضد القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة.

يؤكد الخوري أن واشنطن أدركت أن “استثمار المزيد من الموارد المالية والعسكرية بشكل كبير، على أمل تأمين نتيجة سياسية غير محددة ليس الوسيلة للتغلب على التحدي الأساسي في سوريا. وهو أن نظام الرئيس بشار الأسد قد انتصر في الحرب”.

يضيف: “هو أمر ليس مستحسنا من الناحية الاستراتيجية، ولا يمكن الدفاع عنه سياسيًا. ومع ذلك، فإن قرار سحب القوات الأمريكية في سوريا -بعد وقت قصير من الانسحاب الأمريكي من أفغانستان- سيكون مكلفًا سياسيًا. ويزيد من زعزعة الثقة الإقليمية في التزام الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط”.

وبينما يتصاعد التساؤل حول ضرورة أو جدوى استمرار الوجود العسكري الأمريكي في سوريا، يبدو أن إدارة بايدن تتمسك بالأمل في أن الظروف ستتغير أو تتحسن، وأن تسوية تفاوضية أفضل، أو الخروج من المنحدر، سيصبح واضحًا.

مع ذلك، وفق الخوري، فإن كل يوم يمر يزيد من المخاطر التي تتعرض لها القوات الأمريكية ويضعف -لا يقوي- الموقف التفاوضي للولايات المتحدة فيما يتعلق بما يمكن الحصول عليه من الأسد وروسيا مقابل الرحيل.

يؤكد: “بدلاً من الخوض في الفوضى، يجب على الولايات المتحدة التركيز على التفاوض على خروج يؤمن -في أسرع وقت ممكن- مصلحتها الأساسية في سوريا”.

المهمة القديمة

أصبحت سوريا بيئة خطرة بشكل متزايد للعمل فيها، لكن داعش ليست مسئولة في المقام الأول عن تصاعد العنف. إذ ارتفعت الأحداث العنيفة في سوريا -مثل القصف وهجمات المدفعية- بأكثر من 20% هذا العام، ارتكب معظمها جهات حكومية، بما في ذلك نظام الأسد وتركيا، وفقًا لمشروع بيانات الأحداث وموقع النزاع المسلح. وهو مشروع غير ربحي لجمع البيانات وتحليلها ورسم خرائط الأزمات.

على النقيض من ذلك، فإن نشاط داعش يسير في مسار تنازلي، وفقًا لآخر تقرير صادر عن المفتش العام بوزارة الدفاع الأمريكية، حيث تبنى تنظيم الدولة 201 هجمة في الفترة ما بين 1 إبريل/ نيسان، و30 يونيو/ حزيران. بانخفاض أكثر من 60% على أساس سنوي.

هكذا يبدو أنه على الرغم من أن التنظيم لا يزال يمثل تهديدًا مستمرًا في العراق وسوريا. إلا أنه غير قادر -إلى حد كبير- على إجراء عمليات هجومية منسقة في هذين البلدين، أو التخطيط لهجمات وتوجيهها في الخارج.

يؤكد الخوري أن تلك البيانات “تعني أن نشاط ما يقرب من 900 فرد عسكري أمريكي يتمركزون في سوريا قد انخفض أيضًا بشكل كبير عن ذروته”. بينما لا تزال القوات الأمريكية تقدم الدعم التمكيني، للميليشيات المتحالفة -بما في ذلك قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد- وعلى الأخص، قدرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع والخدمات اللوجستية.

في يناير/ كانون الثاني، كان الدعم العسكري الأمريكي محوريًا في مساعدة قوات سوريا الديمقراطية على تأمين سجن في الحسكة -مدينة في شمال شرق سوريا- بعد أن شن تنظيم داعش هجومًا لتحرير أعضائه المحتجزين هناك. قتل في المعركة أكثر من 500 شخص بينهم 121 مقاتلا من قوات سوريا الديمقراطية.

مع ذلك، وبشكل عام، لا تقوم القوات الأمريكية بتنفيذ العديد من المهام المشتركة مع قوات سوريا الديمقراطية. بل كانت هناك عمليتان فقط حيث كانت قوات سوريا الديمقراطية والقوات الأمريكية تقاتل جنبًا إلى جنب حتى الآن هذا العام، وفقًا لتقارير عامة صادرة عن وزارة الدفاع الأمريكية وقوات سوريا الديمقراطية.

يجب على الولايات المتحدة التركيز على التفاوض على خروج يؤمن -في أسرع وقت ممكن- مصلحتها الأساسية في سوريا

اقرأ أيضا: سوريا.. تحولات إقليمية تقود لتعويم الأسد وتهيئ لدور مصري

مخاطر متعددة

رغم انخفاض عنف داعش، تتزايد المخاطر على القوات الأمريكية في الأراضي السورية.

بعض هذه المخاطر منبعه العلاقات المتوترة بشكل متزايد بين الولايات المتحدة وروسيا، والتي تعرضت للخطر، ما اعتبره المحللون في السابق “خط اتصال احترافي نسبيًا”، بين القوات الأمريكية والروسية العاملة في سوريا.

وبينما تحوّل روسيا الموارد إلى حربها مع جارتها أوكرانيا، ملأت إيران الفراغ في سوريا، وأصبحت أكثر نفوذًا وأقل نفورًا من المخاطرة. حيث تهدد القوات المدعومة من إيران بشكل متزايد العمليات الأمريكية بنيران مباشرة وغير مباشرة. وقد شنت القوات الإيرانية ما لا يقل عن 19 هجومًا صاروخيًا وطائرات مسيرة على مواقع أمريكية في العراق وسوريا هذا العام حتى الآن.

ويلفت الخوري إلى أنه “مع استمرار تعثر المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة وإيران، من المرجح أن تستخدم إيران ميليشياتها في سوريا لممارسة ضغط إضافي على الولايات المتحدة، في محاولة لتأمين ما لا يزال بعيد المنال في ساحة المعركة، على طاولة المفاوضات”.

في الوقت نفسه، تزيد تركيا -عضو الناتو وحليف الولايات المتحدة- من الضغط على القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة. حيث هدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بتجديد الدفع العسكري لتحقيق هدفه الطويل الأمد. المتمثل في إنشاء منطقة عازلة بطول 19 ميلًا في سوريا، لتأمين الحدود التركية، وتمكين اللاجئين السوريين الذين يعيشون في تركيا من العودة إلى ديارهم.

ومنذ أن أجرت إيران وروسيا وتركيا محادثات ثلاثية في يونيو/ حزيران، استهدفت تركيا بالطائرات بدون طيار، والمدفعية، والضربات الجوية -في المجال الجوي الذي تسيطر عليه روسيا- شركاء الولايات المتحدة. حيث نفذت أنقرة ما لا يقل عن 56 غارة بطائرات بدون طيار حتى الآن هذا العام. ما أسفر عن مقتل حوالي 50 من مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية، بما في ذلك عناصر من خارج وحدات حماية الشعب، وعشرة مدنيين.

نحو الخروج: الغارات الاستهدافية

يؤكد الخوري أن تنظيم داعش لا يزال يمثل تهديدًا مستمرًا. ولكن على عكس الفترة من 2015 إلى 2019، عندما سيطر التنظيم على أجزاء كبيرة من سوريا والعراق، لم يعد لديه ملاذًا آمنًا، حيث يمكنه التخطيط وتنفيذ هجمات إرهابية تستهدف الغرب.

يقول: “هذا يعني أن القوات الأمريكية قد أنجزت مهمتها الأصلية. ويمكن احتواء تهديد داعش -الذي لا يزال قائما حتى اليوم- دون تعريض القوات الأمريكية للأذى.. على الجيش الأمريكي أن يواصل استهداف عناصر التنظيم رفيعي المستوى. بالطائرات دون طيار، والغارات الجوية، بالإضافة إلى الغارات المستهدفة، لمواصلة الضغط المستمر لمكافحة الإرهاب على ما تبقى من التنظيم”.

وأوضح أن هذا النموذج أثبت فعاليته بالفعل في مناطق من سوريا. حيث لم تكن القوات الأمريكية موجودة فعليًا خلال السنوات العديدة الماضية.

ولفت إلى أنه “من العوامل الأساسية لهذا النهج أيضًا الانسحاب بشكل ودي بما يكفي للحفاظ على العلاقات مع الشركاء السوريين. حتى تتمكن الولايات المتحدة من الاستمرار في استخدام المعلومات الاستخباراتية البشرية، وتأمين الوصول إلى المجال الجوي السوري”.

وأكد أنه “على الرغم من التوترات الجيوسياسية الحالية، فإن رحيل الولايات المتحدة المنسق بشكل فضفاض مع روسيا. هو السبيل الوحيد لتحقيق هذه الأهداف. إذا غادرت القوات الأمريكية بطريقة غير منسقة، فإن النتيجة الأكثر ترجيحًا ستكون هجومًا عسكريًا تركيًا لتحقيق أهداف أردوغان المعلنة. وهو تدخل من المرجح جدًا أن يؤدي إلى نزوح مئات الآلاف من السوريين. وإلحاق الضرر بعلاقات الولايات المتحدة مع قوات سوريا الديمقراطية بشكل لا يمكن إصلاحه”.

في الوقت نفسه، فإن نظام الأسد غير قادر عسكريًا على احتلال جميع الأراضي الخاضعة حاليًا لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية. لذلك، إذا غادرت القوات الأمريكية غدًا من خلال تسوية تفاوضية مع روسيا. فإن وجود النظام الاسمي -وليس احتلالًا واسع النطاق- هو النتيجة الأكثر ترجيحًا في المناطق التي كانت تسيطر عليها الولايات المتحدة من قبل.