مع بزوغ أشعة الشمس، يبدأ محمد جمعة رحلة عمله اليومية في حديقة الأزهر، التي تبعد كيلومترات قليلة عن حوشه بمقابر المجاورين، الواقعة بين شارع صلاح سالم ومنشأة ناصر. تنتهي ورديته في الظهيرة، وفي المساء يستأنف نشاطه في بيع السلع الأساسية والحلوى لسكان المقابر.
نظام حياة اعتاد “جمعة” منذ سنوات طويلة، فهو يسكن حوشه منذ أن صبيا صغيرا حتى تشكلت أسرته ولم يغادرها قط، فالحياة وأكل العيش مرتبطان بهذا المكان الذي يتقاسمه الأحياء والأموات.
انتقلت أسرة “جمعة” للعيش في المقابر وامتلاك حوش يخصها منذ خمسينيات القرن الماضي، بعدما ضاقت بهم الظروف وفشلهم في إيجاد سكن رخيص للأسرة الكبيرة التي تضم 8 أشخاص، ومنذ هذا التاريخ لم يخرج الابن، فمات الأبوان وانتقل أشقاؤه بأسرهم وأحفادهم إلى مناطق متفرقة، ولم يبق إلا هو وشقيقه يسكنان حوشين كبيرين.
تفاوت الأرقام
وتتفاوت الأرقام حول عدد ساكني المقابر في مصر، فالتقارير تشير إلى أن هناك 5 ملايين مصري يقطنون الجبانات على مستوى محافظات الجمهورية، لكن تقارير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تقول إن مليوني فقط يعيشون بالقرافة.
وبحسب الجهاز نفسه، بلغ أول إحصاء لعدد سكان المقابر قرابة 35 ألف نسمة عام 1898، ومنذ ذلك الوقت وتعدادات السكان المختلفة تشير لزيادة العدد، وشهدت أيضا قفزة كبيرة في فترات السبعينات والثمانينات مع تزايد أزمة السكن. وبلغ سكان المقابر في تعداد 1947 نحو 69 ألفا وفي عام 1966 نحو 97 ألفا وفي عام 1986 وصلت 180 ألفا.
لا يتخيل “جمعة” مغادرة مكانه في حياة عيشته، فكلما زاد الحديث عن رغبة الدولة في إخلاء المقابر واستثمارها في توسعات الطرق أو بناء مجتمعات سكنية جديدة ينتابه القلق، حيث إنه رفض عروضا كثيرة لمغادرة المقابر في وقت سابق في أوج شبابه، أما الآن فلا يملك الطاقة لاكتشاف مدينة جديدة في عمق الصحراء على حدود أكتوبر أو مايو أو مساكن بدر، كما أن هذا يعني أنه سيفقد وظيفته في حديقة الأزهر التي لا يتخطى السير لها الـ10 دقائق من حوشه.
ومؤخرا بدأ الجهاز المركزي للتعمير المرحلة الأولى من مشروع محور الفردوس بمحافظة القاهرة، التي تبدأ من ميدان تاكي بشارع الفردوس، متقاطعاً مع طريق صلاح سالم عند ميدان الفردوس وأسفل كوبري الفردوس، ما تسبب في إزالة بعض الجبانات لتوسعة طريق صلاح سالم.
يسمع “جمعة” عن رغبة الحكومة في إخلاء مقابر المجاورين منذ زمن طويل، وتحديدا خلال السنوات الأولى في الألفية الجديدة في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، يقول: “مش أول ولا آخر مرة هيقولوا خلاص المقابر هتتهد وينقلونه أماكن تانية، طبعا نفسي أكمل باقي حياتي وأدفن هنا جنب أبويا وأمي”.
إلا أن الحديث الفعلي عن إزالة المقابر كان ضمن رؤية القاهرة 2050 باعتبار ساكنيها جزء من المحسوبين على سكان العشوائيات والمناطق غير الآمنة، وتضمنت الرؤية التي خرجت إلى النور بين عامي 2007 و2008 على يد الدكتور مصطفى مدبولي الذي كان رئيسا للهيئة العامة للتخطيط العمراني حيذاك، خريطة تظهر فيها عبارة منتجع للإسكان السياحي (منشية ناصر سابقاً)، وهو الحي الذي يطل مباشرة على مقابر المجاورين والغفير.
وسبق أن أقترح الدكتور عبد الرحيم شحاتة، محافظ القاهرة الأسبق، فكرة نقل المقابر من القاهرة فى مطلع عام 2000، لاستخدام الأرض فى حدائق عامة ومنشآت خدمية لسكان المناطق المجاورة، من خلال دراسة تم إعدادها لنقل رفات الموتى بطريقة علمية، ولكن الاقتراح قوبل بمعارضة شديدة إلى أن ظهر مجددا في رؤية 2050 التي تهدف إلى إخلاء المقابر غير الأثرية وتحويلها إلى مناطق سياحية، خصوصا أنها تقع في وسط العاصمة.
مجتمع المقابر
يعيش سكان المقابر حياة كاملة لا يشعرون بداخلها بالغربة، فالمولود هناك أو الوافد إليها يعتبرها البيئة المواتية له منذ أن تطأ أقدامه المكان، فالحوش يسع من يعيش فى الأعلى والأسفل، خاصة أن المكان قريب من منطقة وسط البلد وحي العتبة الذي يعمل فيه قطاع كبير من سكانها.
“أعيش في المجاورين منذ الحرب خلال عملية تهجير السوايسة وأهالي القناة ولم أعود إلى مدينتي لغاية دلوقتي” يقول العم إسماعيل عن حياته التي امتدت الـ50 عاما في مقابر المجاورين. تحصل إسماعيل على حوش من قبل الحكومة المصرية التي قررت فتح المقابر لأهالي القناة بعد العدوان الثلاثي وما قبل حرب 1973، وهناك عاش حياته الجديدة.
تمتلك أسرة إسماعيل محلا بمنشأة ناصر المطلة على المقابر مباشرة، وهو ما جعله يرتبط بالمكان، لذا لا يرغب في مغادرته: “لا أتخيل حياتي بعيدا عن المكان ده، الحكومة تفكر في مصلحة البلد وتطوير وسط البلد لكن احنا حياتنا وعمرنا هنا”.
وبحسب دراسة قديمة للباحث الاجتماعي محمد الجوهري، تعود دوافع السكن في المقابر إلى مشكلات المساكن الآيلة للسقوط والانهيارات الفعلية إلى جانب الاكتظاظ السكاني في القاهرة مع ارتفاع أسعار المساكن، فضلا عن جانب الهجرة باتجاه القاهرة من الريف.
وتشير الدراسة إلى أن أهم الشخصيات داخل هذا المجتمع تتمثل في صاحب الحوش الذي يقوم بتأجير حوشه مباشرة لبعض أقاربه أو معارفه أو لمعدومي الدخل دون مقابل مادي وذلك بدون توقيع عقود لأن هذه الأماكن غير مخصصة للسكن، والآخر هو الذي يسيطر سيطرة شبه كاملة على كل ما يقع بالمنطقة من دفن وإسكان وجريمة وتأدية خدمات اتصال بالمسئولين.
“لن نقدر على دفع إيجار شهري وكهرباء وغاز ومياه زي الناس، في الترب نعيش حياة بسيطة وأكيد عايزين نرتقي ونشم هوا تاني غير ريحة الموتى بس الظروف صعبة”، يقول عبدالغني محمود، عامل، عن مخاوف إخلاء المقابر التي تراود كل من يعيش في الأماكن غير الآمنة. قضى عبدالغني 30 عاما في المجاورين اعتاد خلالها على مخالطة الموتى ومشاهد النعوش والجنائز بشكل يومي، لكنه يقنع نفسه أن مصاعب الحياة خارج المقابر تفوق بكثير الرائحة التي تملأ أنوفهم.