الحراك السوداني يمثل حالة تستحق الدراسة، إذ أنه بعد سنوات من سيطرة الإسلام السياسي على حكم السودان، يسقط حكمه تحت الضغط الشعبي، هنا تبدو قيم الإسلام السياسي محل تساؤلات، هل سقطت منظومة هذه القيم بفعل الزمن أم بفعل إغراء ممارسة السلطة؟.
في حقيقة الأمر السقوط أتى بعد فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي جعلت الشعب ينفر من السلطة الحاكمة، ويبقى التحدي أمام مستقبل السودان هو التعامل مع المتغيرات التي أحدثتها جبهة الإنقاذ في البنية السياسية، فلأول مرة منذ استقلال السودان عام 1956 تتحول القبيلة في ولايات السودان إلى فاعل سياسي، في وقت لم تكن الأنظمة السابقة تعير فيه القبيلة أي اهتمام، بل كانت النخبة السودانية في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات تدرك أن الكفاءة وليس القبيلة هي مستقبل السودان، لنرى عبدالرحمن علي طه أول وزير معارف سوداني بعد الاستقلال يحصل على 25% من موازنة الدولة للتعليم، الذي بناه على معايير سليمة، حيث اتجه حينئذ للكيف وليس للكم، في حين أن نظام جبهة الإنقاذ توسع في إنشاء جامعات دون مستوى تعليمي يرقى إلى أدنى المعايير، هذا ما جعل المواطن السوداني يدرك أن هناك أزمة مصداقية تنعكس عليه سلبا، ما جعل الشباب يعانون من البطالة بل وانخفضت فرص حصولهم على العمل خارج البلاد.
اقرأ أيضا.. كتب القرن من منظور أمريكي.. الشرق الأوسط نموذجًا
الثورات ليست غريبة على السودان والانقلابات في السودان عادة ما تأخذ ثوبا ثوريا، لكن الثورات الشعبية بدأت مبكرا في هذا البلد على نحو ثورة 1964 ضد نظام عبود، في 2019 الثورة ضد “البشير” أتت لتردي الأوضاع الاقتصادية وانهيار البنية التحتية، وهو أمر يدركه أي زائر لمدن السودان الرئيسية، وتردي حالة مطار الخرطوم دليل على ذلك.
لكن من أين حدث التحول في الحراك السوادني؟
هذا الحراك بدأ مع ارتفاع أسعار الخبز، لكن في حقيقة الأمر كان هناك غليان تحت السطح، فالعقوبات الاقتصادية الأمريكية على الخرطوم أضعفت وأرهقت الاقتصاد، والحروب الأهلية في دارفور وجبال النوبة وشرق السودان استنزفت البلاد. انفصال الجنوب كان عنوانا بارزا لفشل النظام، لكن الأهم كان فقدان السودانيين مؤشرات الأمل في المستقبل، خاصة في ظل إدمان الفشل من نظام “البشير”، ما دفع فتيات كن يدردشن على صفحة “فيسبوك” minbar chat لتحويل منتدى للدردشة حول العنوسة والزواج والحياة الاجتماعية إلى منتدى يكشف عجز النظام عن حل مشكلات المجتمع، ليواجه عبر “فيسبوك” من النظام السوداني مواجهة صريحة، بل استخدم لنشر عناوين ممارسي القمع ضد الحراك السوداني، كما ساهمت شبكات التواصل في بناء تجمع المهنين السودانيين وتقوية دوره، كما صارت أحياء الخرطوم تتنافس في الحشد الثوري، وسنقرأ خلال السنوات المقبلة، روايات حول تللك الآليات.
إن صعوبة الوضع في السودان تبعث على القلق، بل إن النزاعات الداخلية تزيد الوضع صعوبة، وهو ما قد يشير إلى انفصال دارفور أو اندماجه، وهو أقرب الحالات التي تحتاج إلى معالجة حكيمة، ولذا لا مفر من الحديث عن طبيعة ممارسة الحكم في الولايات السودانية، ومن المشكلات العميقة أيضا افتقاد السودان للخبرات الاقتصادية الوطنية التي هاجر معظمها في ظل نظام البشير، بل رفض بعضهم العودة أو التعاون بأي صورة من الصور مع ذلك النظام، تبقى علاقات السودان مع الجيران موضع تساؤلات، خاصة مع مصر وجنوب السودان وتشاد وإثيوبيا وهم رمانة الميزان في مستقبل السودان.
إن المشهد السوداني يبلور أزمة عجز نظم ما بعد مرحلة الاستقلال عن بناء آليات لتداول السلطة واستيعاب المتغيرات السياسية والاقتصادية، ثم جاء الفشل الزريع للإسلام السياسي الذي بشر بمعالجة مشكلات السودان ليدخله في دوامة من المشكلات، بدءا من استضافة قيادات بارزة من الإسلام السياسي (عمر عبد الرحمن، وأسامة بن لادن) لم يكن هذا بعيدا عن عين الولايات المتحدة وأوروبا فقد كانت أطروحات حسن الترابي محل اهتمامهم، لذا كان صعود عمر البشير فرصة لاختبار هذه الإطروحات ومدى قدرتها على إيجاد إسلام جديد يتوافق مع الحداثة الغربية ويروض المنهج في شكل جديد، لكن سرعان ما جنحت مجموعات “الترابي” نحو خطاب أكثر تشددا بحثا عن الشعبوية السياسية، مع افتقاد القدرة على إدارة الملف الاقتصادي، وتصعيد غير متوقع للنزاعات العرقية والقبلية، ليبقى السودان الآن على المحك في مرحلة تغيير عسير وصعب لمستقبل يولد من رحم المعاناة السودانية المعقدة.