في الوقت الذي يدعو فيه البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية إلى الانفتاح على باقي الطوائف المسيحية المختلفة فإن وقائع تظهر هنا وهناك توحي أن الطريق نحو الانفتاح المأمول مازال طويلا. ففي الغردقة انتشرت شهادة لأحد المقيمين هناك عن قصة وفاة سيدة ألمانية يتجاوز عمرها 100 عام حين أراد زوج ابنتها المسيحي الصلاة عليها في أي كنيسة محلية قبل دفنها. لكن كاهن كنيسة الغردقة سأله على طائفتها وحين نفى الشاب معرفته بطائفة السيدة المتوفية، رفض القس الأرثوذكسي الصلاة عليها بينما وافقت الكنيسة الإنجيلية وتمت المراسم هناك.
اقرأ أيضا.. دور عبادة الأقباط.. إرث “مبارك” الذي أحرق كنيسة المنيرة
واقعة سيدة الغردقة الألمانية ليست الأولى ففي عام 2016 حدثت واقعة مشابهة في المنيا حين توفى زوجين من رعايا الكنيسة الرسولية الإنجيلية اختناقا بالغاز في شقتيهما وطلبت الأسرة من قس أرثوذكسي الصلاة عليهما لأن راعي كنيستهما كان مسافرا. إلا أن الكنيسة الأرثوذكسية رفضت ما فسره خدام جماعة “حماة الإيمان” الأرثوذكسية آنذاك بالقول: “صلاة أوشية الراقدين التي تصلى على الموتى جزء أصيل من طقوس الكنيسة الأرثوذكسية. وحسب قوانين الأرثوذكس لا تصلى إلا على من تعمدوا وتزوجوا بالطقس الأرثوذكسي. وهو أمر طقسي بحت ويخص قوانين الكنيسة ولا علاقة له بالمحبة من قريب أو بعيد. كما لا يمكن اعتبار عدم ممارسة طقس معين يخص أبناء الكنيسة، عملا ضد المحبة بين الطوائف المسيحية”.
لماذا ترفض الكنيسة الأرثوذكسية الصلاة على موتى بقية الطوائف؟
وفق التقليد الكنسي الأرثوذكسي تصلى “أوشية الراقدين” أو الصلاة على المتوفي على المنتقلين أو المتوفين ويتم فيها قراءة هذا النص: “الذين رقدوا وتنيحوا فى الإيمان بالمسيح منذ البدء”، ” … فأنت كصالح ومحب البشر اللهم تفضل عبيدك المسيحيين الأرثوذكسيين الذين في المسكونة كلها من مشارق الشمس إلى مغاربها ومن الشمال إلى الجنوب وكل واحد باسمه وكل واحدة باسمها يارب نيحهم واغفر لهم”.
يشرح موقع “تكلا هيومنت” المختص بأرشفة الكتب التقليدية الأرثوذكسية أوشية الراقدين التي تصلى على الموتى بالكنيسة القبطية. كما أكد أنها تخص الكنيسة القبطية وحدها وضمت عدة مبادئ تخص إيمان الكنيسة أولها مبدأ المحاماة وكأن تلك الصلاة تعمل كمحامي للمتوفي أمام الله. كذلك فهي لغفران الخطايا وكأنها تحل محل سر الاعتراف فيصلي المؤمنون لأجله وهي أيضًا تؤكد الإيمان بالقيامة كعقيدة أساسية في الكنيسة بالإضافة إلى دور تلك الصلاة في تأكيد عضوية المتوفي بالكنيسة الأرثوذكسية وفي تعزية أحبائه.
يقدم الباحث في الشئون القبطية، مارك فلبس، رؤية مغايرة لصلوات الموتى عند الأرثوذكس فيقول: “في الصلاة السابقة يختلف معنى كلمة أرثوذكسية عما فهمه القس الذي رفض الصلاة على السيدة الألمانية التزاما بالنص. فالمقصود بالأرثوذكسية هنا ليس الطائفة نفسها بل هو الإيمان القويم مقابل الهرطقات والضلالات التي كانت سائدة ومنتشرة في عصر كتابة هذا النص الديني حيث عصر التدوين الأول”. كما أوضح: “في هذا التوقيت لم يكن الانشقاق بين الطوائف قد حدث ولم تكن الكنيسة قد انقسمت إلى أرثوذكس وكاثوليك ثم بروتستانت لاحقا. إنما المقصود هنا هو الاعتراف بقانون الإيمان النيقوي -نسبة إلى مجمع نيقيا الأول عام 325 ميلادي- وهو ما تعترف به جميع الكنائس أيا كانت طوائفها”.
كيف تنظر الكنيسة الإنجيلية للصلاة على الموتى؟
القس رفعت فكري الأمين العام المشارك في مجلس كنائس الشرق الأوسط، يشير إلى رؤية الكنيسة الإنجيلية إلى الصلاة على الموتى وهي ما تختلف عن الطقس الأرثوذكسي. فيقول: “الكنيسة الإنجيلية ترى أن الصلاة لطلب التعزية لأهل المتوفي لأن الأسرة متألمة والتوقيت صعب. لكن الكنيسة الإنجيلية لا تؤمن أن هذه الصلاة المعزية تتحكم في المصير الأبدي للمتوفي”.
يشرح “فلبس” فكرة الصلاة على المتوفين كنسيًا فيقول: “تؤمن الكنيسة أن الراقدين يشعرون بالصلاة ويستجيبون لها بفعل الروح القدس. ومن ثم فالكنيسة تداوي كمستشفى ولا تحاكم البشر كمحكمة. فلا تدين أحدا ولا تشفي ولا تجرح. ولا تعقد محاكم التفتيش الغيابية لمن رحلوا عن عالمنا لتساءلهم عما يعتقدون وعن طوائفهم مثلما حدث مع سيدة الغردقة”.
يضيف “فلبس”: “كان من الممكن للكاهن أن يأخذ جسد السيدة إلى كنيسة أخرى ليصلوا عليها إذا شك في أمر إيمانها. كان من الممكن أن يساعد بأي شيء إذا خاف من رفض رؤسائه الدينيين للأمر. لكنه مر على هذا الجسد وتركه مُلقى بلا تحنن، ككلمات الإنجيل”. وأضاف: “الإيمان كفعل يتجاوز الطائفية نحو المحبة وقد ضيّعه الكاهن لصالح الانتماء الطائفي الأضيق. الخسارة للكنيسة وإيمانها، والخسارة لنا”.
القس إبراهيم عبد السيد
لم يقتصر منع الصلاة على المتوفين بسبب الخلاف المسيحي المسيحي بين الكنيسة الأرثوذكسية وباقي الطوائف المسيحية فقط، بل أن أشهر تلك الوقائع حدث عند وفاة القس إبراهيم عبد السيد الذي كان قد تعرض للمحاكمة الكنسية وقت البابا شنودة. بعد أن أصدر كتابا طرح فيه ضرورة الرقابة المالية على الإكليروس وأموال الكنائس فتم إيقافه عن الخدمة بلا محاكمة. وحين جاءت ساعة وفاته رفضت كافة الكنائس الصلاة على جثمانه. ابنته سوسن عبد السيد قالت إن الكاهن أبلغ الأسرة إنها تعليمات القيادة الكنسية وظلت الأسرة تبحث عمن يصلي على جثمان فقيدها حتى وافق أحد الكهنة ثم ترك الخدمة في الكنيسة بعد ذلك. الأمر ظهر وكأن الصلاة على المتوفين مرتبطة بالمصير الأبدي للمتوفي.
أزمة عروسي المنيا الإنجيليين عام 2016، أثارت غضب قطاع غير قليل من القساوسة الإنجيليين على خلفية اتهامات شائعة في الأوساط الكنسية وكتابات وإصدارات كثيرة قدمها أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية للطعن في عقائد البروتستانت مثل كتابات الأنبا بيشوي مطران كفرالشيخ الراحل. وبحسب متابعين للشأن القبطي فإن التراشق الطائفي الذي ظهر في رفض الصلاة على السيدة الألمانية بالغردقة يشكل جزءا من المشهد “المسيحي/المسيحي” بين قيادات كنسية عليا تربطها علاقات وطيدة وكهنة ورعاة لا يتمتعون بالقدر نفسه من المرونة والتواصل على مستوى القاعدة.