على “درب الدموع”، مهجرين قسرًا إلى مصير مجهول، مات الآلاف من سكان أمريكا الأصليين من البرد والجوع والقهر، بعدما أَقر “قانون الإزالة الهندي” الذي سنه المستعمرون البيض، عام 1830، نقل من تبقى من قبائل السكان الأصليين إلى محمياتٍ غرب نهر المسيسبي، تاركين أرضهم وأنماط حياتهم وثرواتهم.
يحفظ تاريخ السكان الأصليين لأمريكا، الكثير من قصص معاناتهم على هذا الطريق والذي أطلقوا عليه أيضًا “طريق الآلام”، طريق قطعوه مرغمين تنفيذًا لهذا القانون القاتل، الذي شرعه المستعمرون البيض، بسبب إيواء القبائل للعبيد الهاربين، خوفًا من تحالفهم ضد عنصرية الدولة الناشئة، ورغبةٍ في زيادة المدن التي يسكنها الغربيون، إلى جانب اكتشاف الذهب في بعض الأراضي التي كانت تسكنها تلك القبائل.
تاريخ من القتل والنهب
قبل “قانون الإزالة الهندي” بسنوات طويلة، لجأ الآلاف من سكان قبيلة “تايينو”، إلى الانتحار الجماعي، هربًا من جحيم المستعمرين البيض، عن طريق التوقف عن الأكل وقتل أطفالهم ثم شنق أنفسهم على الأشجار أو إلقاء أنفسهم من أعلى الجبال.
اضطهاد السكان الأصليين لأمريكا، من قِبل السلطات المتعاقبة، منذ وصول “كولومبوس” تاريخ من القتل والنهب، عن طريق القتل بالسلاح والأمراض البيولوجية التي دسها المستعمرون البيض في أغطية أعطوها للسكان الأصليين، أو تركهم فريسة للأمراض التي نقلها المستعمرون البيض من بلدانهم، أو خطط القضاء عليهم بتجريدهم من أرضهم وأنماط حياتهم وثقافاتهم ودياناتهم، بالتهجير ومحاولات الدمج القسري داخل المجتمع الأمريكي، بإلحاقهم أدنى طبقات هذا المجتمع.
دعاية المستعمر
احتاج مؤسسو الولايات المتحدة إلى إرساء دعايات ضد السكان الأصليين، قالت عنهم إنهم بدائيون متوحشون، ليسوا أذكياء، وأن “الغزاة” البيض يحاولون تطوير مهاراتهم المحدودة وتحسين أحوالهم ومستقبلهم، فهم من اكتشفوهم ويعملون على “تمدينهم”، بينما كانوا يقتلونهم ويسلبون أرضهم وثرواتهم ويطمسون ثقافاتهم، لخدمة نظامهم الجديد.
وحتى الآن يدافع الأمريكيون البيض الأكثر تشددًا عن هذه الدعايات، فيرد السكان الأصليون: “عندما بدأ “كولومبوس” رحلته كان يظن نفسه ذاهبًا لمكان آخر، وعندما وصل إلى أمريكا كان تائهًا ولم يعرف أين هو، وعندما عاد إلى أوروبا لم يعرف أين كان، فمن الذي اكتشف من!”.
اغتيال المعرفة
عندما وصل الأوربيون إلى أمريكا للمرة الأولى، عام 1492، كان عدد السكان الأصليين من 12 إلى 18 مليونًا، ينتمون إلى مئات القبائل، يتكلمون ما يزيد عن 400 لغة، ولهم مئات الديانات، ويتمتعون بتنوع ثقافي وفلسفي ومعرفي واسع.
هذه المعرفة التي أبهرت عالم الأنثروبولوجيا آدم كوبر، عندما اصطحب “ايشي” آخر أفراد قبيلة “ايهي” إلى أرض الياهي، التي اجتاحها البيض وأبادوا شعبها بحثًا عن الذهب في أراضيهم، مطلع القرن العشرين، هذا الشعب الذي لم يبقى منه سوى “ايشي” والذي سلم نفسه إلى السلطات الأمريكية عام 1911 بعد سنوات من الهرب، بعدما قتلوا أمه وأخته، أخبر “ايشي” “كوبر” بأسماء مائتي حيوان، ومائة نبات، يُستخدم في العلاج والطعام، كان “المتحضرون” البيض يجهلونها تمامًا، ويقفون كالبلهاء أمام تلك المعرفة الجبارة.
ايشي” آخر أفراد قبيلة “ايهي” تلك القبيلة التي كانت أحد الشواهد على المجتمع “الأمومي” الذي ينتسب فيه الأفراد إلى الأم صاحبة المكانة الأسمى، قبل أن يغتصب ما سمي بـ”الحق الذكوري” هذه المكانة التي احتفظت بها الأم لمئات الآلاف من السنيين”.
الموت قهرًا
مات “ايشي” عام 1916، بعد إصابته بأمراض رجال أوروبا البيض التي لم يكن محصنًا ضدها، وربما لم يقتله المرض ربما مات حزنًا وقهرًا وهو أسيرًا بين يدي رواد الحضارة السافحون، والذين أجبروه على تقديم عروض لزوار المتاحف “اللطفاء” عن بقايا السكان الأصليين وهو عملًا كان منتشرًا في متاحف أمريكا وأوروبا أوائل القرن العشرين، ليس من باب التعرف على ثقافاتهم، لكن ليعرفوا طريقة عيش الشعوب الأخرى المحرومة من “الحضارة”!.
محاولات المحو الثقافي
خلال عقود طويلة كانت سياسات الحكومات الأمريكية ضد السكان الأصليين تتسم بالعنصرية والنهب والوصاية، إذ تعرض السكان الأصليون، لمحاولات المحو الثقافي، إذ تم إنشاء المدارس الهندية الداخلية، لتعليم أطفالهم الثقافة الأمريكية البيضاء، بهدف القضاء على أيديولوجياتهم وتقاليدهم وثقافاتهم الأصلية، وتم عزلهم عن قبائلهم ومنعهم من التحدث بلغاتهم وإلزامهم بارتداء ملابس، وقصات شعر على الطراز الأمريكي.
مفاوضات لم تعطِ شيئًا
إلى جانب والقتل والتهجير القسري للسكان الأصليين، وتحت وطأة مقاومة السكان الأصليين لمحو ثقافاتهم ونهب ثرواتهم، التي لم تهدأ خلال قرون، وفي محاولات للاحتواء، استمرت حكومات الولايات المتحدة الأمريكية في المفاوضات مع ممثلي تلك القبائل، لكن هذه المفاوضات لم تمنحهم سوى القليل، يقول ريد كلاود، أحد قادة “لاكوتا” قبيل وفاته: “لقد قدموا لنا وعودًا كثيرة، أكثر مما يمكنني أن أتذكره، لكنهم لم يفوا سوى بوعد واحد، وعدوا بأخذ أرضنا، وأخذوها”.
استمرار نهب الثروات
وخلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، شجعت الإجراءات الأمريكية السيادة من قبل القبائل التي لا زالت تعيش في مناطقها القديمة، على الأراضي وإدارتها، وحدد القانون حقوقًا جديدة للأمريكيين الأصليين، وقلص من خصخصة ممتلكاتهم الجماعية، ولكنها لا تزال حتى الآن إجراءات شكلية، فقد استمرت عمليات نهب ثروات السكان الأصليين ومحو ثقافاتهم.
في عام 2014، بدأت إحدى شركات البترول في مد أنابيب للنفط على مسافة ألفي كيلو متر داخل محمية “الصخرة الثابتة” التي يعيش عليها قبائل من السكان الأصليين لأمريكا، والذين اعتصموا لمدة عامين شمال “داكوتا”، احتجاجًا على المشروع، وفي عام 2015 حاولت الحكومة الأمريكية بيع مكان يقدسه السكان الأصليين ومسجل ضمن الأماكن الأثرية لشركة تنقيب عن معادن، داخل حدود قبلية سان كارلوس أباتشي، في ولاية “أريزونا” ما أثار موجة من الاحتجاجات.
وأجبرت حملة حقوقية واسعة شنتها حركات الحقوق المدنية للسكان الأصليين، الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما على إجراء تسوية مع “النافاجو” في 2014، حيث دفع 554 مليون دولار لإسقاط دعوى قضائية رفعتها قبيلة لـ”الهنود الحمر” ضد الحكومة الفيدرالية لإساءتها إدارة موارد القبيلة ما نتج عنه زيادة في تلوث البيئة وارتفاع نسب الإصابات بالسرطان من آثار استخراج اليورانيوم.
الوضع الحالي للسكان الأصليين
يتراوح عدد السكان الأصليين في أمريكا اليوم ما بين 4 إلى 5 مليون شخص ينقسمون إلى 556 قبيلة معترفًا بها فيدراليًا، ويعيش نحو نصف مليون شخص منهم، في محميات مستقلة أرغمت السلطات الأمريكية بعض هذه القبائل إلى الانتقال إليها وترك أرضيهم قبل عقود طويلة.
وبحسب تقارير أمريكية، فإن غالبية السكان الأصليين لأمريكا، يعانون من تدني مستويات معيشتهم، ويعانون من أمراض نفسية كثيرة، تؤدي بهم إلى الانتحار أحيانًا، وتقطز العيادات “الحقيرة” التي خُصصت للسكان الأصليين بولاية أوكلاهوما أسبوعيًا بمئات المرضى، وهو ما يخبرنا به مدير الهيئة الصحية للسكان الأصليين، هذه الهيئة التي يمثل مجرد اسمها نموذجًا حيًا على التمييز ضدهم.
كورونا والسكان الأصليين
كما واجهت النافاجو، وهي من القبائل المعترف بها فيدارليًا، وتتمتع بهيئة مستقلة تدير شؤونها الخاصة، لتمييز شديد خلال أزمة كورونا، حيث شن مواطنون أمريكيون بيض، حملات عنصرية ضد سكانها، مدعين أن نسبة إصابة شعب النافاجو بـ”كورونا” تصل لـ 100% بسبب عرقهم.
وكشفت “الجارديان”، في تقرير لها أن الإدارات الصحية بالولايات المتحدة، نشرت بيانات ديمغرافية عرقية، بينت تفاوت صارخ في تأثير كورونا في مجتمعات السود واللاتنيين، لكن معظم تقارير الولايات لم تدرج صراحة الأمريكيين الأصليين في بياناتها، بل صنفتهم تحت فئة “آخرون”.
وردًا على هذا التصنيف العنصري قالت مدير “مجلس الصحة الهندي الحضري”، أبيغيل ايكو هوك: “بإدماجنا في فئة آخرين، فإن الحكومة تقضي بشكل فعال على بياناتنا”
وبرر متحدث باسم وزارة الخدمات الصحية بولاية تكساس تصنيف الأميركيين الأصليين على أنهم “آخرون”: “لأن عدد حالاتهم كانت صغيرة مقارنة بالمجموعات الأخرى”
لترد عليه ثانية “هوك”: “نحن مجموعة صغيرة بسبب الإبادة الجماعية، ولا يوجد سبب آخر” مستكملة: “إذا استبعدتمونا من البيانات، فلن نكون موجودين، بل نحن في الأصل غير موجودون فيما يتعلق بتخصيص الموارد”.
مستقبل غير مبشر
بعد ثلاثة عشر عامًا من إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية البالغ عددهم أكثر من 370 مليون نسمة يعيشون في 70 بلدًا، في 13 سبتمبر 2007، والذي نص على حق السكان الأصليين في ثرواتهم الطبيعية وإدارتها، وعلى احترام ثقافاتهم والحفاظ على قيمهم التراثية والمعرفية، لا تزال الشعوب الأصلية تتعرض للنهب والطمس الثقافي في أمريكا كما في كل مكان آخر من العالم، وفيما تستعد الأمم المتحدة لليوم العالمي للسكان الأصليين في التاسع من أغسطس، لا زالت تعاني الشعوب الأصلية، من التمييز والتهميش في الصحة والتعليم، ومن الفقر المدقع، فهم بحسب منظمة العفو الدولية يتقاسمون واقعًا غير سار، من انتزاع أراضيهم، وإنكار ثقافاتهم، وتعرضهم للاعتداءات البدنية، ومستقبل غير مبشر.