مع الارتفاع المستمر في أسعار اللحوم الحمراء كان الاعتماد على اللحوم البيضاء -الدواجن- كبديل اتجهت إليه الدولة فوطّنت صناعتها. وتوسعت في استيراد مدخلات صناعتها كالأعلاف. كما زادت نسبة الاستثمارات فيها إلى 65 مليار جنيه عام 2020 وبلغ حجم الإنتاج 5 ملايين دجاجة يوميا.
لكن صناعة الدواجن ظلت تعاني من عدة اختلالات هيكلية. نتيجة تعرضها لتقلبات الأسعار العالمية وسعر الدولار. وتأثرها بمصالح الشركات الدولية والمستوردين والوكلاء المحليين.
ويأتي فتح باب استيراد الدواجن المجمدة من الخارج لتغطية احتياجات المجمعات الاستهلاكية والتموين وأجهزة التوزيع المحلي. وارتفاع أسعار الأدوية البيطرية والمقويات المستوردة وتذبذبها وخضوعها لنفوذ المستوردين والشركات المنتجة على رأس التحديات التي تواجه الصناعة.
وقد زادت حدة الأزمة خلال الشهور الأخيرة بسبب نقص إمداد الأعلاف. متأثرة بتراجع الإفراج الجمركي عن خامات التصنيع. بسبب نقص العملة الصعبة. ما دفع معامل تفريخ الكتاكيت لإعدام عشرات آلاف من “الفراخ” يوميا خلال الأسبوعين الأخيرين.
اكتفاء ذاتي “مؤقت”
وقد استطاعت صناعة الدواجن تحقيق الاكتفاء الذاتي بنسبة 99.8% في اللحوم و100% في البيض عام 2020. حيث ارتفع متوسط إنتاج البيض من 6.3 مليار بيضة سنة 2008 إلى 13.5 مليار بيضة عام 2020 -وفقا لدراسة للباحث الاقتصادي إلهامي الميرغني.
وأشارت الدراسة إلى أن صناعة الدواجن رفعت متوسط الاستهلاك الفردي من اللحوم البيضاء من 93.7 كجم عام 2016 إلى 99.8 كجم عام 2020. وفي بيض المائدة ارتفع متوسط استهلاك الفرد خلال الفترة نفسها إلى 100 بيضة في العام.
ووجّه اتحاد منتجي الدواجن خطابا رسميا إلى رئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي في شهري يناير/كانون الثاني وأغسطس/آب الماضيين حصل “مصر 360” على نسخة منه توضح خطورة فتح الاستيراد على تدمير الإنتاج المحلي.
وأورد الاتحاد في خطابه لرئيس الوزراء تجاهل الشركة القابضة للصناعات الغذائية طلب الاتحاد أن يحل بديلا عن المستورد لإمداد الشركة ومنافذها بالدجاج المجمد بالأوزان التي يحتاجون إليها بأسعار مناسبة.
وأوضح الاتحاد في خطابه خطورة الاستمرار في استيراد الدجاج المجمد لأنه يهدد بغلق المجازر والمزارع التي تستوعب 3.5 مليون عامل ويبلغ حجم استثماراتها 100 مليار جنيه.
أزمة الأعلاف
لم تكن أزمة نقص الأعلاف وارتفاع سعرها وليدة الأسابيع الأخيرة فقط. بل ممتدة قبل أربعة أشهر مضت دفعت 80% من أصحاب المجازر لتجميد النشاط وفقا للمهندس محمد الداغر -أحد مُربي الدواجن بمحافظة البحيرة. حيث ارتفع سعر الطن خلال هذه الأشهر من 13 ألفا إلى 16800 جنيه.
“داغر” لجأ إلى تصفية النشاط بسبب الخسارة المتكررة. فتكلفة إيجار مزرعته 60 ألف جنيه في السنة. مبينا أن تكلفة إنتاج كيلو اللحوم من الدواجن تبلغ 37 جنيها. ويحتاج هذا الكيلو في إنتاجه من 3.5 إلى 4 كيلو أعلاف. بينما يباع كيلو اللحم هذا بسعر 32 جنيها من المزرعة ويصل إلى المستهلك بين 39 و40 جنيها. ويذهب هامش الربح -البالغ 18 جنيها- إلى الحلقات الوسيطة.
وألقى “داغر” بالمسؤولية على وزارة التموين في غياب الرقابة عبر تعدد الحلقات الوسيطة. حيث تضيف كل حلقة من (السمسار-التاجر -صاحب المحل)هامش ربح خاصا بها. و يذهب إليهم إجمالي هامش الربح على حساب المنتج والمستهلك.
واتهم أيضا وزارة الزراعة بغياب رقابتها على الأدوية البيطرية منتهية الصلاحية والمغشوشة. التي يستخدمها المنتجون. فالمضادات الحيوية قليلة الكفاءة ولا تخصع للرقابة أو التسعير. ما يضطرهم لمضاعفة الجرعات. موضحا أن تكلفة الدورة الواحدة من علاج المضادات الحيوية فقط من 16 إلى 18 ألف جنيه.
أزمة التوقف وحلقات الإنتاج
تصنف الشركات العاملة في إنتاج الدواجن حسب العوامل الوراثية إلى شركات (جدود). وهي أصناف مستوردة تختص بإنتاج كتاكيت غير مخصصة للذبح تربى لإنتاج الأمهات “البياضة”. وهي الحلقة الوسيطة بين الجيل الأول “الجدود”و الجيل الثالث الذي يدخل مزارع التسمين للذبح.
مؤخرا طالت أزمة الأعلاف الحلقة الوسيطة “الجيل الثاني”. حيث عجزت الشركات عن تصريف إنتاجها بعد توقف أغلب مزارع التسمين ولجوئها للتخلص من “الأمهات” بعمليات بيع واسعة وإعدام الكتاكيت تفاديا للخسائر -وفق “داغر”.
يقول “داغر” لـ”مصر 360″: “عندما تبلغ نسب التوقف عن الإنتاج بمزارع التسمين 30% إلى 40% تستطيع شركات التفريغ استيعاب فارق إنتاج الكتاكيت داخل معامل التسمين التابعة لها. لكن عندما تخطت نسبة التوقف مؤخرا 80% بالمزارع الصغيرة دفعت الشركات للتخلص من الكتاكيت تفاديا للخسائر مبكرا عن طريق الإعدام”.
وأضاف أن حجم إنتاجنا المحلي من الدجاج الحي وصل قبل الأزمة إلى 5 ملايين دجاجة يوميا. لكنه اضطر لتجميد الإنتاج كغيره من آلاف المربين تفاديا للخسائر. حيث بلغت خسائره في آخر دورتين من 4 أشهر إلى 120 ألف جنيه.
وأشارت الدراسة إلى أن أزمة صناعة الدواجن هي انعكاس لأوضاع سوق تابعة وخاضعة لسعر الدولار وتقلبات الأسعار العالمية ومصالح الشركات الدولية والمستوردين. وأن صناعة الأعلاف مؤثر مباشر في تذبذب الإنتاج والارتدادات الهيكلية. التى تتعرض لها. لأنها تعتمد على استيراد الذرة الصفراء وفول الصويا. فيما الإنتاج المحلي لا يغطي احتياجات السوق من الخامات. لذلك يصبح المستورد هو المتحكم في المنتج ويصبح المنتج خاضعا لتقلبات سعر الدولار والسوق العالمي مثل أزمة الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
ومن بين مشكلات الدواجن المثرة -بحسب “ميرغني”- تقلب أسعار الأدوية والمقويات البيطرية لأنها مستوردة أيضا. وكذا تغيير الأصول الوراثية للدواجن المصرية مثل الدجاج “الفيومي” “والبيجاوي” وغيره من السلالات المميزة وإحلال أصناف مستوردة مكانها وتوطينها لتكون السائدة في السوق.
صناعة الأعلاف
وتعتمد صناعة الأعلاف في 90% من مدخلاتها على الاستيراد. ويستمر أصحاب المصانع في الإنتاج حاليا “بطلوع الروح وبالزق”. حيث يشترون مواد التصنيع “يوم بيوم”. بعد أن تضاعفت خامات الإنتاج إلى 300% وندرت بالسوق -بحسب وصف المهندس أحمد عابد -صاحب مصنع أعلاف بمحافظة الغربية. فمنذ العام الماضي حتى الآن ارتفع سعر طن العلف من 7 آلاف جنيه إلى 17 ألف جنيه.
وقال “عابد” لـ”مصر 360″: “نحارب حتى آخر نفس للاستمرار حتى لا تضيع مستحقاتنا المالية عند العملاء. لكن أغلب المصانع الصغيرة توقفت بعد أن وصل سعر طن فول الصويا إلى 25 ألف جنيه والذرة الصفراء 11 ألف جنيه والجيلاتين 27 ألف جنيه والزيت 33 ألف جنيه للطن”.
وأوضح أنه لا توجد بدائل خامات صناعية مصرية. لذا يضطر المصنعون إلى الشراء من السوق السوداء عبر وسطاء لديهم توكيلات من الشركات المستوردة الكبيرة بأسعار باهظة بسبب زيادة الطلب عن المعروض.
تعطيش السوق من الذرة وفول الصويا عبر المحتكرين
تمثل الأعلاف 70% من تكلفة إنتاج صناعة الدواجن في مصر -وفق رئيس شعبة الدواجن بالغرفة التجارية المهندس محمد عبد السلام. فعند حدوث الأزمة يتأثر القطاع بالمقدار نفسه. بمعنى أن حجم الإنتاج يقل بالنسبة ذاتها.
وقال “عبد السلام” لـ”مصر 360″: “30% من منتجي الدواجن خرجوا من المنظومة لأن الأزمة وصلت إلى حد الشح. نتمنى أن يتبع قرار رئيس الوزراء الأخير بالإفراج عن جزء من الخامات الاستمرار بصفة دائمة في إفراج كبير عن المواد المكدسة داخل الميناء بكميات مناسبة تسمح بعودة مصانع الأعلاف المتوقفة والمربين إلى المنظومة لإنقاذ الصناعة التي حققت طفرة في مصر”.
وأضاف أن القضية ليست في الإفراج فقط إنما في متابعة توزيع الخامات على المصانع وليس المحتركين الذين يقومون بتخزينها لتعطيش السوق. حيث نحتاج إلى مليون و 100 ألف طن ذرة صفراء و 500 ألف طن صويا شهريا.
وللحفاظ على الاكتفاء الذاتي لصناعة الدواجن في مصر يرى “عبد السلام” ضرورة العودة إلى ما كانت عليه الصناعة قبل الأزمة بتوفير الخامات. ووضع سعر عادل للمنتج عن طريق عمل بورصة تابعة للدولة تحدد التكلفة الفعلية لكل حلقة بداية من إنتاج الكتكوت وأسعار الأعلاف والأدوية. حتى وصول الدجاجة إلى المستهلك. حيث يلتزم بها الجميع وتكون حدا فاصلا لتحديد هامش الربح.
علاج الأزمة
ويرى “داغر” أن إنقاذ صناعة الدواجن يتطلب أن تتوقف الدولة عن استيراد الدواجن الأمريكية والبرازيلية. لأنها تدعم المنتجين الأجانب. بالإضافة إلى أن عليها التوسع في عمل مجازر آلية. أو التعاقد مع المجازر الخاصة والاعتماد على صغار المنتجين في عملية التخزين والتوريد لوزارة التموين.
ويذهب “ميرغني” في دارسته إلى أنه يمكن مواجهة ذلك بفرض دورة زراعية تعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي من خامات الأعلاف وتوفير الدولار والسيولة. وذلك للحماية من تقلبات السوق العالمية. وتوطين صناعة الأدوية والمقويات البيطرية في مصر.
وأكد محمود العناني -رئيس اتحاد منتجي الدواجن- في تصريحات سابقة له أنه خلال اجتماع رئيس الوزراء باتحاد منتجي الدواجن سلم نائب محافظ البنك المركزي اعتمادات بنحو 44 مليون دولار. بما يعادل 62 ألف طن من بذور الصويا.
وتعهد رئيس الوزراء بتوفير مطالبهم من الأعلاف حتى لو على حساب أمور أخرى من الممكن تأجيلها لمنع تكرار الأزمة. وخلال يوم أو اثنين ستتوفر الأعلاف لكل المزارع على مستوى الجمهورية.