لا يجب أن تجرفنا كل من التهديدات الأمريكية للسعودية بتوقيع عقوبات وخيمة ولا لغة التحدي السعودي غير المسبوقة في رفض الإملاءات الأمريكية للانجرار إلى تيار خاطئ يزعم أن الحلف الاستراتيجي الذي يشبه زواجا كاثوليكيا بين دولة إنجيلية ودولة مسلمة! والقائم منذ 8 عقود بين واشنطن والرياض على وشك التحلل أو الانهيار قريبا.
لماذا يبدو هذا التيار الخاطئ السائد متعجلا للأمور وربما يحتوي على قدر من عدم النضج السياسي؟ يعود ذلك إلى 3 عوامل مركزية: الأول، هو طبيعة العلاقات الأمريكية -السعودية. والثاني، هو طبيعة الأزمة الحالية.
والثالث، هو طبيعة اللوبي العربي والسعودي في الولايات المتحدة.
سنبدأ من العامل الثالث والأخير صعودا إلى العامل الأول.
اللوبي العربي والخليجي في الأزمة بين الرياض وواشنطن
هل هناك لوبي عربي قوي في السياسة الأمريكية؟ على عكس ما هو شائع من أن اللوبي العربي غير موجود في السياسة الأمريكية وأنه من منظور الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية لا يوجد لوبي قوي ومتحكم في صنع السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة العربية سوى اللوبي الصهيوني المؤيد لإسرائيل، أزعم أن هناك “لوبي عربي” موجودا ويتغلغل في السياسة الأمريكية، لكنه غير فاعل وغير مؤثر، لأنه بدلا من أن يعمل من أجل مصالح عربية جماعية نقل حالة الحرب الباردة العربية – العربية والتنافس المحتدم على الأدوار الإقليمية منذ شحوب الدور العربي لمصر بعد كامب ديفيد ومنذ اختفاء الدور العراقي والسوري بسبب ظروفهما الداخلية المعروفة.
لقد تمكنت دول عربية وخليجية خاصة قطر والسعودية والإمارات من اختراق المجتمع الأمريكي أولا، لبناء صورة عامة إيجابية محل الصورة الذهنية السلبية التي تكونت خصوصا بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 وثانيا للدفاع عن المصالح الوطنية لكل بلد منهم على حدة فيما يتعلق بالضمان الأمريكي العسكري التقليدي لأمن هذه البلدان أو مبيعات الأسلحة الأمريكية إليها أو حدود الرضا أو التفويض التي تقرها الولايات المتحدة لدور هذا البلد أو ذاك على الصعيد الإقليمي في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.
ولكن بدلا من أن يحذو العرب الذين أصبحوا مؤثرين على مشرعين وصحف ووسائل إعلام ومراكز أبحاث وتفكير think tanks أمريكية متنافسة حذو اللوبي الصهيوني واللوبي الأيرلندي أو اللوبي اليوناني في الاحتفاظ بمواقع قوة في كل من الحزبين الكبيرين الديمقراطي أو الجمهوري، بحيث مهما تبدل ساكن البيت الأبيض بينهما، فإن ضمان استمرار السياسة والمصالح يكون مصونا وليس سهما متقلبا في بورصة الانتخابات والسياسة الأمريكية، بدلا من ذلك اختارت الدول العربية المؤثرة في الحياة العامة الأمريكية أن تنجرف للاستقطاب السياسي، فوضع أطراف منها معظم أوراقه في سلة الجمهوريين في حين وضع البعض الآخر معظم أوراقه في السلة الديمقراطية.
بعبارة أخرى، وضع أطراف اللوبي العربي نفوذهم في مواجهة بعضهم بعضا، فتبدد القسم الأعظم لهذا النفوذ، وصار اللوبي العربي الخليجي بالدرجة الأولى جزءا من الصراع والاستقطاب السياسي الأمريكي الداخلي الذي وصل منذ الانتخابات الرئاسية بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب ثم بين الأخير وبايدن إلى ما يصفه علماء سياسة واجتماع وحتى مواطنين أمريكيين عاديين بوجود “حرب أهلية جديدة” في أمريكا مازالت حتى الآن مواجهة ثقافية وليست عسكرية حرب إبراهام لنكولن، ولكن من يعرف كيف ستتطور الأمور في مجتمع يسمح لأفراده بحرية حمل الأسلحة؟ احتلال مبنى الكونجرس من قبل أنصار ترامب لمنع بايدن من حلف اليمين كرئيس فائز هو إنذار بالغ الخطورة في هذا الاتجاه المسموم.
لقد وقف قسم من العرب مع ترامب (الجمهوريين) في جولتي الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ووقف قسم من العرب مع هيلاري ثم مع بايدن، وعندما فاز الأخير بدأ باعتباره حاكم العالم الأوحد في مكافأة الداعمين العرب لمعسكره ومعاقبة الداعمين للمعسكر الجمهوري فسمعنا عن رفع مستوى العلاقة الاستراتيجية مع قطر لمقام عضو منتسب لحلف الأطلسي وسمعنا عن خفض العلاقة الاستراتيجية مع السعودية لموضع أنها ستتعامل بوصفها دولة منبوذة.
إذن الصراع الحالي في قسم منه هو تصفية حسابات لجولتي الانتخابات الرئاسية الأمريكية السابقتين بين الإدارة الديمقراطية الحالية وبين عرب راهنوا على خصومهم ووضعوا ثقلهم المالي وثقل مراكز الأبحاث الأمريكية التي أغرقوها وشركات العلاقات العامة بالدعم المالي “funds” وليس صراعا على الارتباط العضوي بالولايات المتحدة التي مازالت ركيزة راسخة للنخبة الحاكمة في منطقتنا.
ثانيا: طبيعة الأزمة الحالية
الصراع في قسم منه هو أيضا صراع على المستقبل القريب -ومرة أخرى- على مستقبل هوية الرئيس المقبل لأمريكا في انتخابات الرئاسة القادمة (ديمقراطي كما هو الآن أم جمهوري) وأقرب اختبار حاسم لها هو انتخابات التجديد النصفي للكونجرس التي تعقد الشهر المقبل. ولقد كشفت صحيفة الوول ستريت جورنال النافذة ما يعتبر المصدر المباشر للغضب الرهيب للإدارة الحالية على السعودية منذ قرار أوبك -بلس هذا الشهر خفض الإنتاج العالمي للنفط بمقدار مليوني برميل يوميا ما يعني ارتفاع أسعار النفط أو على الأقل استقراره عند معدلاته الجيدة التي يحققها خصوصا منذ اندلاع النزاع الأوكراني- الروسي.
تقول الصحيفة إن السعودية رفضت الاستجابة لطلب من إدارة بايدن -الذي وصل التضخم في عهده لمستويات خطيرة وصلت للمواطن الأمريكي وأثرت عليه بقسوة- في تأجيل قرار خفض الإنتاج شهرا لحين انتهاء التجديد النصفي للكونجرس بحيث لا يؤثر سلبا ارتفاع جديد لأسعار الطاقة على توجهات الناخب الأمريكي فيها فيتجه لانتخاب الجمهوريين ويجعل الكونجرس ذي أغلبية جمهورية في المجلسين تحول بايدن إلى رئيس عاجز أو “بطة عرجاء حتى انتهاء ولايته وتجعل مهمة أي مرشح ديمقراطي هو أو غيره فيها بالغة الصعوبة وتكاد تكون هدية مقدمة لمرشح الجمهوريين خاصة ترامب الذي مازالت له شعبية معترف بها.
إذن مرة أخرى الأزمة بين الديمقراطيين وكل من الرياض وأبو ظبي وليست بين أمريكا وهاتين العاصمتين العربيتين، وهي مع هاتين العاصمتين وليست مع الدوحة مثلا.
فأمريكا اليوم منقسمة على نفسها كما لم يحدث منذ الحرب الأهلية وما أزعج بايدن والديمقراطيين من سلوك أوبك-بلس أسعد الجمهوريين وربما مهد لنصر كبير لهم الشهر القادم في مجلسي الكونجرس، وإذا وصلوا بسبب ذلك للرئاسة في انتخابات 2023 فسيكافئون من ساعدهم من العالم العربي.
ثالثا: الطبيعة الاستراتيجية للعلاقات الأمريكية /السعودية
إذا كان مؤسس الدولة السعودية الحديثة 1932 الملك عبد العزيز هو واضع حجر الأساس للعلاقات الأمريكية / السعودية عام 1943 مع الرئيس روزفلت فإن من رفع أعمدة بنيان هذه العلاقة وأعطاها بعدا استراتيجيا راسخا ووسع نطاقها فلم يعد يقتصر على النفط بل على تحالف سياسي واقتصادي يشمل النطاق الإقليمي بل والعالمي في إطار وضمن الاستراتيجية الأمريكية والغربية عموما فهو الملك فيصل.
ولكن الملك فيصل -الذي أعتبره مؤسس المملكة العربية السعودية الثانية- قام بتطوير هذه العلاقة مع عدة رؤساء وليس رئيسا واحدا حتى بلغت صيغتها المحكمة الارتباط بالسياسة العالمية لواشنطن مع الرئيس نيكسون والذي شمل ربط النفط بالدولار الأمريكي “البترودولار”، ومكافحة الشيوعية والمد التحرري القومي والإفادة من تيارات الإسلام السياسي في هذا التنسيق الدولي.
لم يظهر حتى الآن وليس مرجحا أن يظهر قريبا تحول جوهري على الإرث السياسي Legacy)) للملك فيصل ومن قبله الأب المؤسس للمملكة العربية السعودية الأولى الملك عبد العزيز في العلاقة مع الولايات المتحدة. صحيح أنه في عهد الملك سلمان وبتأثير ولي العهد ورئيس الوزراء الأمير محمد بن سلمان جرت أكبر تحولات اجتماعية في تاريخ المملكة في التسعين عاما الأخيرة سواء في كبح جماح المؤسسة الدينية أو الانفتاح الاجتماعي وإعادة قدر من الاعتبار للمرأة السعودية وأيضا فك الارتباط القديم الوثيق مع التيارات الإسلامية، إلا أن تغيير طابع النظام السياسي في الداخل أو علاقته المركزية في الخارج مع الولايات المتحدة لم تطرح أي احتمالات جدية لتغييرها.
هل نستغرب لماذا استخف مسؤولون سعوديون بتهديدات بايدن بلينكن وقيادات الكونجرس الديمقراطية ووصفوها بأنها ألاعيب هزلية للانتخابات الأمريكية وأن علاقة الرياض بواشنطن ستظل استراتيجية وثابتة؟.
لماذا لا نستدعي في هذا السياق الفهم الإيراني لحقيقة الحرب السياسية والثقافية الأهلية بين طيف المعسكرين الأيديولوجيين الواسعين حول الحزبين الكبيرين في أمريكا؟ إذ كان أول الشروط الإيرانية لإعادة الاتفاق النووي هو التزام أميركي بعدم قيام أي إدارة أمريكية قادمة بعد بايدن بإلغاء الاتفاق كما فعل ترامب عندما ألغى الاتفاق الأول الذي وقعه سلفه الديمقراطي باراك أوباما. السياسة الخارجية للقوة العظمى لم تعد كما كانت دوما خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية -في قبضة مؤسسة الأمن القومي والمجمع الصناعي العسكري إذ تكفل الحجرات والاستقطاب الداخلي للسماح للمزايدات الانتخابية أن تفجر أزمة بهذه الخطورة مع حلفاء بهذه الأهمية كما يحدث مع الخليج الآن.