ننسى تلك الحقيقة أغلب الوقت:
لا يحتاج محمد صلاح إلى نصائحنا في شيء. بل نحن من نحتاج إليه. فهو من البداية يعرف الطريق. بل يخترعه من أجل نفسه ومن أجلنا.
رغم ذلك يملك بعضنا الجرأة لنصحه أو الاستهانة به أو التصيد لتصرفاته والتقليل منه. وفي كل مرة يهبط مستواه عن المتوقع منه يُستقبل ذلك الهبوط بشيء من الشماتة ومحاولة لمحو ما سبق أن أنجزه. رغم أن اسمه صار محفورا في تاريخ اللعبة. لقد صار من أساطينها بالفعل على المستوى العالمي قبل أن يفعلها حتى على مستوى ذاكرتنا المحلية كأهم لاعب مصري احترف في الخارج. ليصبح واحدا من أهم اللاعبين في العالم. الباقي ليس إلا إضافة أسطر جديدة لتاريخه.
يطالب البعض محمد صلاح بأن يصير نسخة منه. ولا يرضى عن ذلك بديلا ويحاسبه على ذلك الأساس. رغم أن تلك النسخ التي عليه أن يكونها لم تعرف في حياتها سوى المحدودية. لم تذق النجاح ولم تتخط سياج العادي ولم تعرف إمكانياتها الانفجار.
من بين تلك النسخ التي يطالب بها البعض هي نسخة التعامل مع الغرب من زاوية الدين. حيث يقسم البعض في بلادنا العالم إلى أرض إسلام وأرض كفر. وهي فكرة لا تختلف كثيرا عن تقسيم البعض في الغرب -وفي بلادنا أيضا- للعالم إلى ثنائية التطور والتخلف. وفي الرؤيتين ثمة أرض موجودة وحقيقية وأرض لا تستحق أن توجد. بل لم توجد بعد إلا إذا غزاها الإسلام أو الرجل الأبيض.
المدهش في محمد صلاح هو تجاوزه تلك الثنائيات العقيمة التي تحركها المشاعر المركبة للنرجسية والدونية. فذلك الذي أدرك كل شيء عن أسرار النجاح وامتلك الإرادة والإصرار والمثابرة تمكن من تطوير عقليته بشكل مذهل. لكن يظل إنجازه اللافت هو انفتاحه العاقل والإنساني على حضارة أخرى دون أن تذوب هويته أو يبتلعها ذلك الآخر. ودون أن يحقر منها لحماية تلك الهوية أو يتورط كما يفعل أبو تريكة في محاولات غزو الإسلام أرضا غريبة وفرض رؤيته وأحكامه وعاداته على هذا العالم ولو عبر الخطب العنترية والكلمات الرنانة في استوديو تحليلي لدوريات غربية في الأساس.
مرونة محمد صلاح سمحت له أن يخرج من القوقعة التي يحاصر فيها عدد كبير من المسلمين أنفسهم. فهو لا يمركز نفسه في موقف الناجي الوحيد. وكذلك لم يلجأ إلى السبيل المتطرف الثاني: دونية تتنكر لنفسها. لقد أجبر الآخر على احترام عاداته عن طريق احترامه عادات الآخر وفهم أن عاداتك لا تجعلك الأفضل بحكم الهوية.
ربما هذا الموقف الذي يجعل منه مواطنا عالميا ومثالا إنسانيا للفهم والتسامح هو ما ساعده على أن يتأقلم في عالم غريب عنه بسرعة. وأن يدرك منه شروط نجاح لم تعرفها بلادنا بعد. كقيمة العمل الجاد الذي يكافأ أيضا بالعدل. بدور العلم في تطوير مهاراته ودفع إمكانياته إلى حدودها القصوى.
لا يملك صلاح أحكاما على الغريب عنه لذا لا يحكم الغريب عليه. بل نحن من نفعل ونضيع أهم الدروس التي يقدمها صلاح كنموذج مصري وإنساني لافت. والذي لم ينس في خضم نجاحاته العريضة أبدا أنه مصري ويأمل طوال الوقت أن يكون مثالا مُلهما للعالقين داخل القوقعة التي لا تنتج إلا كائناتٍ يتصارع فيها شعور كاذب بالعظمة والدونية.
في الحقيقة محمد صلاح تكفيه أسطورته كرياضي يحقق ما لم يحققه غيره. لكنه يعلم ونحن نعلم أن إلهامه ممتد إلى ما هو أكبر من الرياضة. ونأمل –وربما يأمل معنا- أن يكون إنجازه فاتحة لعشرات ومئات أمثاله لا استثناء.