طالعنا في الأيام الماضية الأنباء التي أعلنها وزير المالية المصري محمد معيط، عن إتمام اتفاق مصر مع صندوق النقد الدولي ” على مستوى الخبراء” بشأن تفاصيل برنامج القرض الجديد، والذي ينتظر الإعلان النهائي بعد موافقة المجلس التنفيذي لصندوق النقد، والذي من المتوقع أن يتراوح حجمه من 3 إلى 5 مليار دولار.
في ذات السياق، ورغم تأكيد وزير المالية أن الاتفاق الجديد لا يحمل أي ضرائب أو رسوم جديدة على المواطنين، بينما يتلقى الكثير من المواطنين تلك التصريحات بالقلق وعدم الطمأنينة نتيجة زيادة وعي المواطنين بالكثير من الأخبار السياسية والمؤشرات الاقتصادية التي لم يكونو يلقون لها بالًا سابقًا، فأصبح لدى المواطنين انطباعات سلبية عن صندوق النقد، وفهم لتأثيرات الحروب على الاقتصاد الوطني، وإدراك لارتباط أسعار السلع ومستويات المعيشة بسعر صرف الدولار أمام الجنيه.
في مساء 15 أكتوبر أطلق صندوق النقد بيانًاعلى موقعه الرسمي، تحدث فيه عن الشروط أو البنود التي تم الاتفاق عليها بين الوفد المصري وخبراء الصندوق، وهي بمثابة حزمة من الإصلاحات والإجراءات المتوقعة والمتعارف عليها مسبقًا في سياسات الصندوق بغض النظر عن اختلاف الدول المتعاملة معه.
البند الأول والهام هو تحقيق الانضباط المالي “fiscal discipline”، وذلك عبر خفض نسبة الدين من الناتج المحلي الإجمالي، ومراجعة أوجه الصرف والإنفاق العام من موازنة الدول، بما يعني وجود ضرورة لترشيد النفقات وتقليل معدلات الاقتراض وإبقاء عجز الموازنة عند الحدود المقبولة تحت الـ 5%.
صعوبة تحقيق الانضباط المالي يأتي من أن الموازنة العامة بالفعل يتم استخدام 54% منها لسداد القروض وأصول الدين بواقع 1.5 تريليون جنيه في موازنة العام الحالي، علمًا بأنه في موازنة عام 2014/ 2015 كانت قيمة الديون في الموازنة العامة 509 مليارات جنيه بأقل من 30%، وهي أرقام زادت بالطبع مع تغير قيمة العملة، وتمتد تأثيراتها السلبية لتراجع ما هو متاح للإنفاق على الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم وغيرها، باعتبار أن تلك الأموال كانت كفيلة بتلبية المزيد من الاحتياجات لتلك السلع العامة.
بمعنى آخر فإن خفض النفقات يجب أن يتم عبر تقليل بنود أخرى، وفي قمتها بند الاستثمارات العامة الذي يبلغ حجمه 12.3%، والذي تضاعفت أرقامه في السنوات الأخيرة مع تنامي وتيرة المشروعات القومية ومشروعات البنية التحتية، وهو توجه دعت له منشورات عديدة داخل الجهاز الحكومي بضبط وخفض نفقات المشروعات القومية والمشتريات الحكومية بقدر الإمكان لتقليل الضغط على الدولار وخفض نسبة العجز، وهو ما يتطلب المزيد من الجهود لخفض تلك النفقات بالتزامن مع تطبيق برنامج الصندوق.
خفض بند الاستثمارات يبدو أنه الاختيار الأكثر منطقية، لكن ذلك حينما يتم فإنه حتمًا سيأتي على حساب فرص العمل التي تخلقها العديد من المشروعات القومية، وبالتالي فإن الدولة وهي مطالبة بتخفيف التزاماتها من الاستثمارات العامة وتأدية المشاريع على مراحل بإطالة أمدها، وعدم بدأ مراحل جديدة لأي مشروعات ذات مكون دولاري واضح، إلا أنها في الوقت ذاته تحتاج بشدة لتحفيز القطاع الخاص على العمل والانطلاق ليستوعب معدلات البطالة ويساهم في منح الأموال للمواطنين وإعادة ضخها في السوق المحلي، تحسبًا من حالة الركود التي ستزيد عالميًا في العام المقبل.
تحرير سعر الصرف أو تخفيض قيمة الجنيه والذي تقدره بلومبيرغ بحوالي 15%، يعني بشكل مباشر زيادة متوقعة في أسعار جميع السلع، وموجة تضخمية جديدة ستنمو مع استمرار قيود الاستيراد التي تهدف لضبط الإنفاق الدولاري والحفاظ على العملة الصعبة. الموجة التضخمية المنتظرة بالإضافة إلى توقعات الركود العالمي التي يحذر منها الكثير من الخبراء الدوليين، وارتفاع أسعار الوقود عالميًا بسبب قرارات منظمة أوبك بلس الأخيرة بخفض الإنتاج، وعدم وضوح أي بوادر لنهاية الصراع الروسي الأوكراني الذي يؤثر بشدة على سلاسل الإمداد وأسعار الغذاء، تنبؤ بفترة شديدة القسوة على الطبقات الوسطى والطبقات الفقيرة والأضعف داخل المجتمع.
لذلك نجد البند الثاني الذي تحدث عنه بيان الصندوق في بيانه هو التأكيد على حرص الصندوق وبرنامج الإصلاح الاقتصادي “الوطني” على سياسات الحماية الاجتماعية للفئات الأكثر ضعفًا، وهو ما قد نجد فيه تناقضًا بين سياسات تقشفية تدعو لضبط الإنفاق وتقليل أوجه الصرف، وتدعو في ذات الوقت لإنفاق اجتماعي يستهدف حماية الفئات الأضعف والحرص على دعم الغذاء وبرامج الضمان الاجتماعي التي تصل لـ11.6% من إجمالي استخدامات الموازنة، لمنع وقوع ملايين أكثر من المواطنين في دوائر الفقر الخبيثة.
وهي معادلة شديدة الصعوبة بالفعل لكن حجم التحديات اقتصاديًا واجتماعيًا كبير للغاية ويتطلب قدر كبير من حسن استهداف برامج الحماية الاجتماعية وتحسين مستوى الخدمات وترشيد النفقات غير الضرورية، لكن كيف يتم في وقت واحد الحفاظ على الطبقات الأفقر بزيادة الحماية الاجتماعية في ذات الوقت الذي ستقوم به الحكومة بخفض العجز، هي معادلة صعبة التحقق ولا نعرف كيفية حدوثها.
وبالنظر لالتزامات الدولة الآنية في الشهور المقبلة فإن الفجوة التمويلية حتى نهاية العام المالي الحالي تتخطى 40 مليار دولار، من أصل دين خارجي بلغ 158 مليار دولار في نهاية يونيو الماضي. ضمن تلك الالتزامات الخارجية، 6 مليار دولار ديون مستحقة لمنظمات دولية متعددة الأطراف، و12 مليار دولار ودائع لدول مختلفة، و1.25 مليار دولار سندات مستحقة في فبراير المقبل، وغيرها العديد من الالتزامات قصيرة الأجل.
يزيد من صعوبة تلك الالتزامات هو هروب الأموال الساخنة منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، والتي خسرت فيها الحكومة قروضًا قصيرة الأجل تخطت ال 20 مليار دولار، لذلك رأينا وقد نرى مزيد من المبادرات والقرارات المبتكرة للحصول على مصادر جديدة للدولار، تمامًا كما حدث في سياسة ترشيد الكهرباء من أجل زيادة حجم صادرات الغاز الطبيعي لأوروبا، والذي يزداد الطلب عليه في ظل أزمة الطاقة الحالية، بالإضافة لتسييل بعض الأصول الاستثمارية في الشهور الأخيرة عن طريق صناديق الاستثمار الخليجية المختلفة بما وفر عدة مليارات من الدولارات، وأخيرًا رأينا مبادرة إتاحة استيراد السيارات للمصريين بالخارج مقابل دفع الجمارك والضرائب كوديعة دولارية يتم ردها بعد 5 سنوات، مع محاولات حثيثة لتصدير العقارات في المدن العمرانية الجديدة بعرضها للبيع بالدولار أمام المصريين بالخارج، بالإضافة لتقييد الإنفاق والاستيراد الذي يقوم به البنك المركزي وربما نرى ابتكارات جديدة وإضافية لتوفير سيولة دولارية تساهم في العبور من المأزق الحالي للديون قصيرة الأجل.
الحصول على قرض الصندوق وحده ليس كفيلًا بإنهاء المأزق، فالحاجة ماسة وضرورية لوجود سياسة حكومية واضحة لخفض نسبة الدين العام خلال 5 سنوات لمعدلات الحدود الآمنة -70% من الناتج المحلي الإجمالي- مع الإسراع بالإصلاح الهيكلي للاقتصاد عبر مزيد من الطروحات لشركات القطاع العام بمعناه الواسع أمام الاستثمار الخاص، والالتزام بوثيقة لملكية الدولة وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة و إتاحة مزيد من الفرص أمام القطاع الخاص للأنشطة الإنتاجية الصناعية تحديدًا، وتأمين قدر أكبر من الاحتياجات الغذائية للمحاصيل الاستراتيجية، والإسراع بتوطين الصناعات الضرورية وإحلال الواردات من السلع الوسيطة، وتنمية الصادرات ذات القيمة المضافة الأعلى، كل تلك السياسات ستدفع لمزيد من قوة الاقتصاد الوطني وصموده أمام الصدمات الخارجية، وعدم الوقوع في فخ الديون “debt trap”.
كذلك الحاجة ماسة وضرورية لتحسين السياسات الاجتماعية، عبر إعادة حساب وتقدير الأموال المقدمة للفئات المستحقة بما يقترب من نصف الحد الأدنى للأجور، وتخفيف الأعباء على الطبقات الوسطى والفقيرة التي تعاني بالفعل من موجات تضخم في مصروفات الغذاء والمواصلات والسكن وغيرها، والتي لن تتحمل إضافة أعباء أخرى على الأقل حتى نهاية عام 2023، لتتضح ملامح نهاية الحرب الروسية الأوكرانية، وتبين آثار الركود الاقتصادي المتوقع.