تأتي النار من مستصغر الشرر الحكمة التي درسناها قديمًا ونقرأها في بعض الأحيان لكنها تمر مرورًا سلسًا دون ترك أثر، ككثير مما يحدث في حياتنا، فهل تحدث مشاكلنا لأننا نمرر مستصغر الشرر، أما أن هذا التجاوز ما يعيننا على الاستمرار؟
الود ومشتملاته
إذا أردنا أن نتحدث عن الود، ستختلف الأقوال بين التعريفات اللغوية والمفاهيم الشخصية لنا، وإني أرى الود هو هذا الشعور الرائق، الشفاف، هو بمثابة الحبل السري الذي يصنع الوصل بين البشر، الود مساحة التلاقي، وجسر المحبة، إنه البنية الأساسية لكل المشاعر الجميلة، فماذا إن اختفى؟ ماذا إن ضاع وسط صنوف المشاعر السلبية؟
الود أول المشاعر بين البشر وجامعهم، ويُبنى عليه، مشاعر بمثل هذا التوصيف وجودها أساسي في حيواتنا، وعند انقطاعه، او تعكير صفوه تصعب الحياة، ويكون الطريق للألم هو الأقصر.
” عندما تدعوا الله أن يذهب عنك ألما أو خوفا لا تتسى أن تدعوه أن يبدلك مكانه راحة وطمأنينة. فليس أسوأ من ذهاب الألم أو الخوف سوى ذلك الخواء الذي يحل محله فيجعلك غير قادر على التحرك داخل نفسك.. التشبث بألم الفقد أشبه بالتشبث بالجذور فلولاه لما كان لنا وجود، ولتاهت ارواحنا في مهب الريح لا نعرف بماذا نشعر ولماذا” تأتي هذه العبارة من رواية أياواسكا للكاتبة دينا سمك، فتوجز لنا فكرة الخواء عندما يزول الألم او الخوف، هذا الخواء الذي يحدث ليس فقط عندما يزول الألم ولكن أيضا عندما يزول الود بين البشر.
لماذا لا يدوم الود؟
أحد أزماتنا في الحياة أننا لا نتوقف لدراسة مشكلاتنا والتعرف على أسبابها، وبالتالي تجاوزها، بل أننا نسخر ونتعامل بمزيد من السخرية والضحك عن تكرار الوقوع في ذات الخطأ، نقول ذلك بلا لحظة تفكير واحدة عن الخطوات التي مشيناها للوصول إلى نفس النتائج، وسعيًا لتقصي أسباب ضياع الود نجد عدد من الأسباب
-
ثقافة الادخار
قرش على قرش يبقي جنيه، نغذي أنفسنا بفكرة الادخار، وأهميته، ونعرف جيدًا أن الأشياء الصغيرة تراكمها يصنع أشياء كبيرة، وبرغم هذا الوعي، فإننا نتعامل مع الأفكار بمعزل عن بعضها، هي نفس فكرة تأتي النار من مستصغر الشرر، هذا المنطق يُصبح بلا وجود عند التعامل مع المشكلات، والأمور التي تتسبب في حزننا أو غضبنا من شخص قريب أو عزيز، بل إننا عندما نغضب من شخص، فإننا لا نقف ونواجه، لا نتحدث ونناقش، لا نسعى حتى نصفو، فتتراكم تلك الصغائر حتي تصير كراهية، في تلك اللحظة نقف مندهشين كيف تحول الود إلى كراهية، متغافلين عن دورنا في صنع الكراهية.
-
التجاهل
في لحظة ما تكونت مقولة سيبه لما يهدى، هذه العبارة ذات حدين فهي قد تؤذي منفذها ومتلقيها، وقد تكون نافعة، فالبشر متفاوتين في مشاعرها وطريقة التعبير عنها، البعض يصمت عند وقوعه في مشكلة، والبعض يبكي، والبعض يحتاج من يربت على كتفه دون كلمة، والبعض يحتاج ان يبوح، هذا التنوع في ردة الفعل يحتاج تنوعًا في التعامل، اعتماد مبدأ “سيبه لما يهدى” هو اعتماد خاطئ، فالبعض عندما تتركه في لحظات غضبه او ضيق أو تعرضه لمشكلة، يشعر بالتخلي، وعندما يتجاوز محنته لا يعدك صديقًا أو حبيبًا، بل يرى في مرافقه أنه تخلى وباع، كما أنه استطاع تجاوز أزمته وحيدًا وهو ما يجعله يقرر أن يُكمل طريقه بدون الشريك.
حتى التعامل بهذا المبدأ يستدعي أن تظهر اهتمامًا والحاحًا في التعرف على أسباب الضيق أو الحزن، فاستمرار المحبة مرهون بمحاولات صادقة للاهتمام، لا يكفي أن تشعر بداخلك بالاهتمام، فالنوايا شيء لا يعرفه سوى الله، أما نحن البشر فلا نرى سوى الأفعال، عندما يقول أحدهم سيبني دلوقتي، فهو في حقيقة الأمر لا يرغب أن تتركه تمامًا، بل هو يحتاج بعض اللحظات فقط، وفى ذات الوقت يحتاج أن تلح وتكشف عن اهتمام حقيقي.
من أكبر المشكلات في علاقات الزواج والارتباط العاطفي، أن يتعامل أحد الطرفين بمبدأ سيبه لما يهدى، حيث التصور عن الهدوء وتوقيته أمور نسبية جدًا، ولا معايير لها، تختلف من شخص لآخر، حتى نفس الشخص يمكن أن يهدأ بعد دقيقة، ويمكن أن يستغرق شهور ليهدأ، هذه النسبية تلزمها حساسية حقيقية لدى الشريك، في تقديم أفعال تؤكد على الدعم، فليس بالضرورة أن يكون التواصل من أجل نفس المشكلة، يمكن أن تتواصل مع الشريك وتتحدث عن أي شيء غير أسباب الحزن أو الضيق، لكن التواجد الحقيقي يساهم في الدعم، وعند تجاوز المشكلة تزداد مساحات الود الحقيقية.
-
السخرية من أسباب الحزن
البعض يفاجئ بفقد حبيب أو صديق وتخرج التخمينات بأنه لا يستحق، وأنه باع وتخلى دون أن يُفكر أن التخلي فعل مشترك، فتراكم المواقف الصغيرة يصنع كراهية مُعدة على مهل بمقادير من التجاهل والتراكم، والسخرية من أحزان الشريك، وأسبابه في الضيق والانعزال، هذه السخرية التي تأتي كسكين ينغرس في قلب الآخر، تاركة جرحًا لا يلتئم بسهولة.
التعامل مع الحزن بوصف سوف يمر هو أمر يصلح للدفع إلى التفاؤل، والسعي نحو الإيجابية، لكن هذا الأمر نستخدمه ونحن نهون وندعم أصحاب المشكلات والأحزان، وليس أن نستخدمه لتبرير التجاهل، فالود هو اللبنة الأساسية في حياة البشر، وما يجمعهم، فالحب يشتعل ويفتر، الصداقة تمر بمراحل متنوعة من القوة والضعف، لكن الود هو الذي يحافظ على العلاقات بين البشر، يجعلنا نتمكن من النظر إلى وجوه بعضنا البعض، والدعم، الود موجود في قلوب الناس بشكل تلقائي، فيزداد بالاهتمام، ويتحول إلى كراهية بالتجاهل الذي يكون أذى حتى وإن لم يتعمد المتجاهل ذلك.
حتى يدوم الود علينا أن نتصافى، نتعلم المشاركة والبوح بما يُغضبنا من الشريك، ونحتاج أن يُظهر الشريك اهتمامًا حقيقيًا متجسد في أفعال، حتى يدوم الود فنحتمل الحياة وتستمر.