يسير بخطوات بطيئة على ساقية التي بالكاد تحمله، يتوكأ بجسده النحيف على من حوله، تجحظ عيناه بشكل غريب ويتحول لونه للأصفر، وعندما يصل للمستشفى يعجز الأطباء عن تشخيص حالته، وفي مرحلة متأخرة من المرض، ينزف من أنفه وفمه ويسقط ميتًا.
sss
مشاهد الرعب التي يعيشها البسطاء في قرى أثيوبيا، عقب ظهور مرض غريب، تسبب في موت حوالي 2000 شخص بذاك الوصف في الفترة الأخيرة، تشخيص بعض الأطباء أرجع السبب إلى شرب مياه مختلطة بالنفايات السامة، وبحسب شهادات الأهالي لصحيفة “الديلي ميل” الإنجليزية أيضا، وهو ما تنفيه حكومة أديس أبابا مرارا وتكرارا.
معظم حكومات القارة السمراء، تستورد حكوماتهم النفايات الخطرة بشكل منظم، بموجب اتفاقيات وعقود مع شركات أجنبية، باعتبار دفن هذه النفايات أحد موارد الدولة الاقتصادية.
تحولت أفريقيا بفعل ذلك لمكب كبير لشركات أوربية، تتولى أمر التخلص من هذه النفايات، مستغلة في ذلك عدم وجود شفافية ومحاسبة بالدول الأفريقية، والفساد السياسي وضعف الرقابة، وفي حين وجود جمعيات الضغط البيئي بالدول المتقدمة، وشفافية وتتبع للفساد.
تحولت أفريقيا بفعل ذلك لمكب كبير لشركات أوربية، تتولى أمر التخلص من هذه النفايات، مستغلة في ذلك عدم وجود شفافية ومحاسبة بالدول الأفريقية
بالإضافة لارتفاع تكلفة التخلص من النفايات في أوربا، والتي تصل لحوالي 3 آلاف دولار للطن، لبعض أنواع النفايات، فيما يتم تصديرها للدول الأفريقية بحد أقصي 5 دولارات للطن.
يخالف ما تقوم بها الحكومات الأفريقية، باستيراد المواد المشعة والخطرة، الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان، والذي نص على أن تمارس الدول الأفريقية حريتها في ثرواتها ومواردها، دون المساس بالالتزامات البيئية والتعاون الاقتصادي، وفقًا لمبادئ القانون الدولي.
ويدخل ضمن حماية الثروات درء مخاطر النفايات على اختلاف أنواعها، وذلك لما لها من تأثير على الثروات والموارد؛ يحرم الدول والشعوب من الاستفادة منها، بالإضافة إلى تأثيراتها الصحّية.
صفقات سرية
تدخل النفايات للدول الأفريقية، عن طريق شركات متخصصة في نقل هذه النفايات ودفنها، لتخلص أوربا وأمريكا منها، وهناك عدة شحنات تم تتبعها ومعرفة أين تخلصت من حمولاتها، بحسب تقارير صادرة عن الإنتربول الدولي.
بدأت ممارسة هذه اللعبة، أو ما يعرف بمصطلح “العنصرية البيئية” ضد أبناء القارة السمراء في السبعينات، عندما أدركت الدول المتقدمة خطورة النفايات، وبدأت تبحث عن طرق آمنة للتخلص منها بعيدًا عن أراضيها، وهناك صفقات سرية بين حكومات أفريقية وشركات غربية تم الكشف عنها.
حجم النفايات التي تم شحنها من البلدان الصناعية للدول الأفريقية بحوالي 3.5 مليون طن
ويظهر حجم هذه التجارة، من خلال دراسة استقصائية، لمنظمة “السلام الأخضر”، والتي جرى تقدير حجم النفايات التي تم شحنها من البلدان الصناعية للدول الأفريقية، بحوالي 3.5 مليون طن خلال الفترة من “1986 – 1988″، أي عامين فقط، وتم دفنها في 34 دولة أفريقية.
في عام 1987 نقلت السفينة “كيان سي”، حمولة تقدر بحوالي 4 آلاف طن “رماد”، من مدينة فلادليفيا بولاية بنسلفانيا الأمريكية، ومنها إلى “هايتي” في أمريكا الوسطى، على أنها “سماد”، بينما كانت الحمولة تحمل “رماد سام” يحتوي على مواد سامة، مثل الزرنيخ والكادميوم والرصاص، واختفت حمولة السفينة بعد أن زارت السنغال والمغرب وسريلانكا في ظروف غامضة.
أقرأ أيضًا: رمال مسكونة بالموت .. حقول اللغم تحصد أرواح المصريين
استيراد الموت باتفاقيات حكومية
لم يتوقف الأمر عند هدا الحد، بحسب ما أعلنته منظمة “الإنتربول الدولي” في عام 2017، والتي تمكنت من تتبع واكتشاف 1.5 مليون طن نفايات خطرة، تم نقلها في جميع أنحاء العالم، والمثير أن أسيا وأفريقيا كانت الواجهة الرئيسية لهذه الشحنات، والتي يتم تصديرها من دول أوربا وأمريكا بطرق غير مشروعة.
ونجحت الصحف النيجيرية مؤخرًا، في كشف إحدى الصفقات، التي تورطت فيها شركات إيطالية وبريطانية وألمانية، في تفريغ شحنات سامة، عبارة عن 3000 طن، معبأة في علب صفيح رقيق، تحتوي على مواد مسرطنة وأخرى مشعة.
وتم تفريغ حملة هذه الشحنة في إحدى مزراع قرية “كوكو” الساحلية بنيجيريا، نظير مبلغ مالي تقضاه صاحب المزرعة، المثير أن الشركة الإيطالية التي تولت هذا الأمر، تركت الحمولة في العراء ولم يتم دفنها بشكل صحيح، وعندما عبث بها الأطفال وحملتها مياه الأمطار اكتشف أمرها، وفضحت هذه الصفقة على صفحات الجرائد بنيجيريا.
وقعت حكومة بنين عقد من شركة تسمى “أنجلو” بأمريكا عقدًا لتخزين 50 مليون طن من النفايات السامة لمدة عشرة سنوات مؤخرًا
الغريب أن الأمر وصل لعقد الحكومات الأفريقية اتفاقيات لاستيراد هذه النفايات، فيوجد اتفاق بين مسؤولين بدولة “غينيا بيساو”، مع شركات سويسرية وبريطانية، لتصدير 15 طنًا أسبوعيًا من نفايات الولايات المتحدة الأمريكية مقابل 120 مليون دولار في السنة، وهو ما يعادل الدخل القومي لهذه الدولة.
نجحت شركة تسمى “سيسكو” في الحصول على موافقة من حكومة بنين، بنقل 5 ملايين طن سنويًا نفايات خطرة، مقابل 2.5 دولار، في حين تدفع الشركات الصناعية في أوروبا، ما يعادل 1000 دولار للطن لشركة، للتخلص من هذه النفايات، وهو ما يكشف حجم المكاسب، التي تحققها هذه الشركات، من وراء هذه التجارة المحرمة.
ووقعت حكومة بنين عقد من شركة تسمى “أنجلو” بأمريكا، عقدًا لتخزين 50 مليون طن من النفايات السامة لمدة عشرة سنوات مؤخرًا، وأجرت حكومة بنين أيضًا مفاوضات مع الحكومة الفرنسية بشكل رسمي، لاستيراد نفايات مشعة ودفنها في مقابل 1.6 مليون دولار للطن، ومساعدات اقتصادية لمدة 30 عامًا.
يتضح من النمادج السابقة مدى العنصرية البيئة، التي تمارسها الدول المتقدمة ضد القارة السمراء، مستغلة في ذلك فقر هده البلدان، ووجود حكومات فاسدة تابعة لانظمتها.
أقرأ أيضًا: “راضية النصراوي”.. أمرآة وهبت حياتها لنصرة المظلومين بتونس
المواثيق الدولية
تحمي الاتفاقيات الدولية حقوق الشعوب البيئة، أهم هذه الاتفاقيات اتفاقية “بازل”، والتي وقعت عليها 105 دولة، تضم المجموعة الاقتصادية الأوربية، و49 دولة أفريقية أقدمهم نيجيريا، وأحدثهم أنجولا في عام 2017.
نصت الاتفاقية صراحة على أن يتم التخلص من النفايات الخطرة في البلد التي تولدت فيها، بطرق متوافقة مع البيئة وغير ضارة، وعدم نقل أو تصدير النفايات الخطرة عبر الحدود، إلا بعدة شروط محددة، منها وجود إدن كتابي من البلد المصدر والمستورد، مع اتباع شروط السلامة البيئة في النقل والدفن.
عندما لاحظت منظمة الوحدة الأفريقية التزايد المفرط في دفن النفايات بدول القارة السمراء فتم توقيع اتفاقية “باماكو” بمالي في عام 1991، وحددت طرق أكثر تشددًا في استيراد النفايات وطرق دفنها
وعندما لاحظت منظمة الوحدة الأفريقية، التزايد المفرط في دفن النفايات بدول القارة السمراء، فتم توقيع اتفاقية “باماكو” بمالي في عام 1991، وحددت الاتفاقية التي وقع عليها 35 دولة أفريقية، طرق أكثر تشددًا في استيراد النفايات وطرق دفنها، لاسيما بعد أن رفضت الدول الأوربية، إدخال تعديلات على اتفاقية بازل.
وبالرغم من هذه الاتفاقيات وغيرها مثل اتفاقية روتردام بلندن، واتفاقية ستوكهولم، إلا أن هذه الاتفاقيات لم توقف حركة تصدير النفايات لأفريقيا.
أنواع النفايات الخطرة
حددت الاتفاقيات الدولية أنواع النفايات حسب مصدرها وخطورتها، وتم تقسيمها إلى نفايات طبية، التي تخرج من المستشفيات وغيرها، ونفايات المبيدات البيولوجية، والنفايات الكيميائية، ونفايات المعالجة الحرارية.
بالإضافة لنفايات الزيوت المعدنية غير الصالحة للاستعمال المعدة له، نفايات المواد والمركبات المحتوية على ثنائيات أو ثلاثيات الفينيل، نفايات الرواسب القطرانية للتكرير والتقطير، نفايات إنتاج الأحبار والأصباغ، والنفايات ذات الطبيعة الانفجارية ونفايات إنتاج المواد الكيميائية الفوتوغرافية.
كل هذه النفايات الخطرة وغيرها، يتم دفنها دون مراعاة الشروط البيئة، في أراضي الدول الإفريقية، التي تعاني شعوبها من أعراض صحية خطيرة، تؤدي في معظم الأحيان للموت، مثلما حدث مؤخرًا في أثيوبيا.