“كنت في حاجة ماسة لأتنفس هواء جديدا بعد تجربة السجن القاسية. ولسنوات لم أسافر خارج القاهرة لظروف اقتصادية. رتبت للسفر إلى مدينة دهب بجنوب سيناء لقضاء عدة أيام. لا أحب حمل أشياء كثيرة في السفر. فقط أقل مما أحتاج إليه أصلا”. يحكي “م.ك” -أحد الذين خاضوا تجربة الحبس الاحتياطي على ذمة قضية سياسية.
يصف “م.ك” يوم السفر بيوم عيد بعد عدة سنوات من السجن داخل القاهرة. حقيبة سفر وهاتف مشحون وليلة هواؤها عليل. وأتوبيس يسير ببطء ولكن يبدو أنني أحببت ذلك. إلى أن وصلنا إلى كمين “عين موسى” في طريق شرم الشيخ فتم إيقافنا للتفتيش.
“كأنني شخص يحمل في حقيبته ألف كيلوجرام مخدرات. خائف من التفتيش. خائف من أن يسألني أحد الضباط عن بطاقة هويتي ويأخذها مني ليكشف عنها أمنيا. خائف من العودة للسجن -للزنزانة. هل ستنتهي رحلتي التي لم تبدأ بعد هنا في هذا الكمين؟. أقطع مسافة 300 كيلومتر ويتم توقيفي ومعرض للقبض عليِّ مرة أخرى”.
معاناة السجن تبدأ بـ”اتفضل معانا”
يستعيد شعوره حينما تم جمع بطاقات الرقم القومي من كل الركاب للكشف عنها والانتظار الذي يطول بفعل الخوف.
“اتفضل معانا”. كانت هذه الجملة بداية المعاناة. الآن أنا مُعرض للقبض عليِّ مرة أخرى. تم حجزي في الكمين لمدة قاربت 5 ساعات. ثم جاء الضابط ووقف أمامي: هترجع من هنا ع القاهرة ياالا اتفضل”.
يقول “م.ك”: “تصور أنني فرحت كثيرا. ضاعت الرحلة وضاع ثمنها وسأعود مرة أخرى دون الحصول على إجازة كنت أتمنى قضاءها. ولكني فرحت لأنني لم يتم القبض عليّ. هل تتخيل ذلك؟”. ويضيف: “بعد عودتي من هذه الرحلة حتى اليوم. لا أفضل البقاء في الشارع بعد الساعة 12 بعد منتصف الليل تجنبا للتعرض لكمين قد يحتجزني. أخاف من السهر خارج المنزل”.
“م. ك” هو أحد الذين مروا بتجربة القبض عليه وحبسه ما يقارب سنة. ثم خرج ليواجه صعوبة في الحصول على بعض الهواء النقي داخل بلده. تهمة ووصمة وحجر ثقيل فوق الظهر يحمله كل من عانى من حالة حبس سياسي خلال الفترة الماضية.
مؤخرا وبعد إعلان انطلاق الحوار الوطني وتشكيل لجنة للعفو تقوم بدور التنسيق بين أهالي المحبوسين على ذمة قضايا سياسية والدولة تم إخلاء سبيل أكثر من ألف شخص ضمن مبادرة العفو الرئاسي -بحسب أحد أعضاء لجنة العفو.
يقول كمال أبو عيطة -الوزير السابق وعضو لجنة العفو: “إذا لم نستطع أن نعيد المُخلى سبيلهم إلى عملهم وأن نفتح لهم مجال السفر بعد إثبات براءتهم فما الذي نقدمه؟!. نتحدث عن مبادرة دمج في وقت يشعر فيه المُفرج عنهم بالظلم إذا كان داخل السجن أو خارجه”. يقول القيادي العمالي.
الكشف الأمني يعوق حرية الحركة
كلما اقترب شهر يناير/كانون الثاني أو انطلقت دعوة نزول إلى الشارع -حتى لو كانت وهمية- تصطف الأكمنة في الشوارع بكثرة. ويتحرك رجال الأمن في كل الشوارع القريبة من محيط وسط القاهرة. ويعود مع كل ذلك التفتيش الأمني القائم على تفتيش الهاتف ثم الكشف الأمني.
الكشف الأمني يعني أن كل من خاض تجربة الحبس الاحتياطي أو حبس على ذمة قضية سياسية معرض للتوقف في أي وقت. وقد تنقلب حياته في لحظة إذا كان “مزاج” من يتعامل معه من جهات الأمن ليس على ما يرام. ما يعني جواز دخول تجربة السجن مرة أخرى.
التوقيف الأمني والحوار الوطني
المصور الصحفي حيدر قنديل الذي يحاول أن يستعيد حياته وإصلاح الأضرار التي طالته وأسرته بعد عدة أشهر قضاها في السجن بالحبس الاحتياطي. منها 85 يوما اختفاء على ذمة قضية اتهم فيها بالانتماء إلى جماعة إرهابية يقول: “كل مرة أخرج من محل سكني في طنطا متجها إلى عملي في القاهرة وأقترب من كمين أمني على الطريق أشعر بخوف شديد. وتتداعى في رأسي كل الأيام التي لم أر فيها النور”.
يكمل “حيدر” -عشريني العمر- حديثه عن حركته في الشوارع: “في مرات عديدة يستوقفني فرد أمن حتى يكشف على بطاقتي ويتصل بالأمن الوطني ليتأكد إذا كان عليّ أحكام أو مطلوب أمنيا أم لا. وبعد مدة طويلة من توقيفي المخيف يقوم بتركي أذهب”.
اقرأ أيضًا: “معاناة ما بعد السجن”.. باحثون عن الحياة يروون تجاربهم مع العمل بعد الحبس الاحتياطي
يقول “قنديل”: “يتكرر هذا الأمر كثيرا فيسبب لي أذي نفسيا كبيرا. لأنني لست مجرما أو تاجر مخدرات. وآخر مرة تعرضت للتوقيف كانت منذ يومين تقريبا. حيث كنت في طريقي إلى عمل جديد. وكان هذا أول يوم عمل بعد فترة طويلة من البحث عن وظيفة لأعيش منها. وكنت في طريقي لتغطية جلسة من جلسات الحوار الوطني. وللمفارقة أنه تم توقيفي منذ الصباح حتى آخر اليوم ولم أستطع اللحاق بالجلسة ولا الذهاب إلى عملي. فكيف يحدث هذا في ظل الدعوة إلى حوار وطني؟”.
أُلقي القبض على “حيدر” من منزله بطنطا يوم 30 ديسمبر/كانون الأول 2019. وبعد ما يقرب من خمسة أشهر قضاها بين القسم والسجن بطنطا تم إخلاء سبيله. لكنه فوجئ بقرار فصله من عمله بجريدة الدستور ليجد نفسه أمام أزمة جديدة.
المحامي الحقوقي وعضو لجنة العفو الرئاسي طارق العوضي يؤكد أن الكمائن بشكل عام لديها الحق في توقيف أي شخص في المحافظات الحدودية المرتبطة بالاقتصاد القومي للبلاد. لكنه يشير إلى عدم قانوينة إعادة أشخاص لم يكونوا مطلوبين أمنيا ومنع دخولهم شرم الشيخ أو الغردقة لمجرد أنهم كانوا سجناء رأي.
وقال “العوضي”: “ليس من حق أحد أن يستوقفني أو يقوم بإلقاء القبض عليّ إلا إذا ارتكبت جريمة. غير ذلك يعتبر غير قانوني بالمرة. لكن فكرة التفتيش على حدود الدولة مقبولة من أجل المصلحة العامة”.
ويؤكد أن منع شخص لم يرتكب جريمة أو على قائمة المطلوبين من التحرك بحرية “أمر غير قانوني ويمثل إساءة استغلال سلطة واعتداء على الدستور والقانون”.
خسارة العمل ليست الأزمة الأخيرة
يروي أمير عيسى -أمين العمل الجماهيري بحزب الدستور- بعد إلقاء القبض عليه في 22 إبريل/نيسان 2019 وقضاء سنة في السجن. أنه فوجئ بخسارة رأس المال الخاص بعمله والمرتبط بتجارة الورق والكرتون خلال فترة سجنه بسبب سيول 2020.
حاول “عيسى” بعد خروجه أن يفتح صفحة جديدة ويحاول أن يستعيد تجارته بمعاونة إخوته وبعض التجار والمستوردين الذين وقفوا بجانبه -حسب قوله. ولكنه يجد صعوبة في التحرك بين المحافظات حيث يصبح معرضا في كل مرة يسافر فيها مع أسرته خارج القاهرة لتجربة التوقيف في كمائن تستجوبه. وهذا يتسبب في أذيته نفسيا وإهانته أمام أسرته.
يقول “عيسى”: “إذا كانت هناك نية صحيحة لدمج المُفرج عنهم في المجتمع بحرية فيجب أن يتم غلق ملفاتهم السياسية تماما ليستطيعوا العيش بصورة طبيعية”.
ويحكي “عيسى”: “بعد خروجي بعدة أسابيع قررت أسرتي أن تصطحبني في رحلة لشرم الشيخ كتغيبر جو وراحة نفسية. وحين وصلت كمين محمية رأس محمد توجه إلي أحد أفراد الأمن وأخذ بطاقتي وبعد الكشف عليها جاء وقال لي: “اتفضل انزل”.
وتابع: “ظل يستجوبني وأخبرته أنني كنت محبوسا على ذمة قضية سياسية وتم إخلاء سبيلي منذ أيام بقرار النائب العام. ولكنه قال لي مش هاتمشي إلا لما نكشف عليك ونطمن”.
لستُ مجرما
يقول “عيسى”: “وقفت في الكمين لفترة طويلة وكانت معي زوجتي وأختها وأبنائي وشعرت بالحرج والإهانة أمامهم. وسيطر عليا شعور الغضب والألم ولكن ما باليد حيلة. وبعد طول انتظار تحدث الضابط مع مديرية أمن القليوبية فقالوا له أنني غير مطلوب على ذمة أي قضايا. فأعطاني أوراقي وذهبت ولكن بعد ما مر وقت طويل أحسست فيه كأنني قد ارتكبت جريمة. كان شعورا قاسيا للغاية”.
ويروي عن تحركاته اليومية: “بعد رجوعي ظللت حذراً في التحرك ورغم أنني لم أرتكب أي جريمة فإنني أخشى دائما الوقوف في أي كمين قد يحرجني أمام أهلي أو أصدقائي أو يعطلني عن عملي”.
“والدتي وأختي مريضتان وأنا من أرعاهما. وقد أخرج متأخراً للبحث عن دواء أو طبيب لهما فأخشى دائما ألا أعود أو تحدث لهما أزمة بسبب تأخري أو توقيفي. هذا شعور مؤلم للغاية. فرغم إلقاء القبض علي دون ذنب أخلي سبيلي بقرار النائب العام. فلماذا يحدث معي كل هذا؟ وهل سأظل أدفع هذا الثمن باستمرار أم سيتوقف الأمر عند هذ الحد؟”.
ضمانات بناء الثقة
يقول مدحت الزاهد -رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي- إن المطلوب من الدولة أن توفر ضمانات وإجراءات بناء الثقة. وفي مقدمتها تسريع وتيرة الإفراج عن سجناء الرأي. لأن هذا الإجراء ينطوى على دلالة مهمة خاصة بالسماح بالعمل السياسي وبناء تحالفات وفرص استمرار الحركة المدنية. وكذلك رفع القيود عن المواقع المحجوبة ورفع أسماء قيادات المعارضة السلمية من قوائم الإرهاب وتعديل قوانين الحبس الاحتياطي.
الأمر الثاني -بحسب “الزاهد”- هو حسم التنازع بين المؤسسات حول الموقف من الحوار وإدراك حقيقة أن التنوع مصدر للقوة. وأن الاستجابة لرغبات الداخل أهم من الخارج. وأن يصح عزمها وإرادتها على الاعتراف بالحق فى التعددية والتنوع.
واختتم “الزاهد” بالإشارة إلى دور الحركة المدنية في إنجاح الحوار الوطني. وقال: “دور الدولة في إنجاح الحوار يتحدد في قدرتها على الإسهام في فتح المجال العام وبلورة بدائل موضوعية وواقعية للسياسات التي تعارضها. والابتعاد عن المكايدة والمصادمة وابتعاد كل الأطراف عموما عن لغة التخوين والتكفير”. منوها بأن هناك مساحة من التنوع داخل أطراف الحركة المدنية فيما يخص القضايا الاقتصادية والاجتماعية. وأن هناك احتراما متبادلا من الجميع لرؤية وأولويات كل طرف ومراعاة ترك مساحة للأطراف المختلفة.