كان مفترضا أن يستكمل هذا المقال ما سبقه من حديث عن مجموعة من أهم القضايا والملفات التي يفترض أن تكون مطروحة على أجندة الحوار الوطني الذي اقتربت على ما يبدو إجراءاته التحضيرية -التي طالت بأكثر مما يلزم- من الانتهاء. وبالتالي ينتظر أن تتحدد في مدى قريب مواعيد بدايته الفعلية بعد أكثر من 6 أشهر على إطلاق الدعوة له، وهي الفترة التي تسبب طولها -مع عوامل أخرى- لفقدان الدعوة للحوار كثيرا من زخم صاحب بداياتها.
ومع ذلك، تظل أهمية النقاش حول مضمون ومحتوى ما يفترض طرحه من رؤى وتصورات وإجراءات في الملفات والقضايا الرئيسية في هذا الحوار أمرًا بالغ الأهمية، سواء من حيث السعي لتحوله إلى توصيات قابلة للتنفيذ، أو من حيث إعادة طرح وتقديم وجهات نظر ورؤى سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة ومتنوعة على المجتمع المصري.
وبما أن المثل الشعبي الدراج يقول (كل تأخيرة وفيها خيرة)، وبغض النظر عن سلبياته التي يمكن تعداد الكثير منها، إلا أنه ربما يسهم ذلك التأخير في بعض النقاط الإيجابية من زاوية أخرى، أولها هو زيادة أعداد المفرج عنهم من سجناء الرأي مع تسارع الوتيرة نسبيا في الأسابيع الأخيرة وإن كنا لا زلنا أمام مشكلة عدم الإفراج عن أعداد من السياسيين المعروفين المحبوسين سواء بأحكام أو احتياطيا في قضايا رأي بالإضافة لأخبار القبض بين الحين والآخر على آخرين، وهو ما سنعود له لاحقا.
وثانيها هو الدعوة لعقد مؤتمر اقتصادي منفصل عن المحور الاقتصادي في الحوار الوطني وهو ما قد يمثل بادرة إيجابية إذا ناقش المؤتمر مختلف الرؤى ووجهات النظر وخرج بتوصيات وتصورات جادة ومحددة لمواجهة الأوضاع الحالية وبما في ذلك ما يمكن طرحه من إجراءات عاجلة لتخفيف وطأة الأوضاع الاقتصادية على عموم المصريين باعتبارها الأمر الأكثر إلحاحا وأهمية بالنسبة للغالبية العظمى من المواطنين، وبهذا المعنى قد يكون المؤتمر الاقتصادي بمثابة بروفة اختبار قبل بدء الحوار الوطني، كما أنه قد يعيد الاعتبار في حال كون نتائجه محل توافق سياسي ومجتمعي ليستعيد الحوار الوطني طابع التركيز على القضايا والملفات السياسية بالأساس بدلا من التوسع والإغراق في الملفات والقضايا.
وثالث النقاط الإيجابية التي يمكن النظر لها أن بدء الحوار عمليا بعد انتهاء قمة المناخ التي ستنعقد أوائل الشهر المقبل -حتى وإن جرى افتتاح شكلي له قبل ذلك– واستمرار تفاعلاته بعد نهاية القمة سوف يقدم إجابة واضحة إن كانت الدعوة للحوار كانت مجرد دعوة شكلية لحين عقد قمة المناخ كما يعتقد البعض أم أن الأمر يتعدى ذلك.
لست من المراهنين على أن الحوار الوطني سوف يحقق قفزات كبيرة، ولا أن طبيعة السلطة انتقلت فجأة لتصبح ديمقراطية، ولا أن المعارضة تخلصت من أخطائها ومشكلاتها، لكن ما يمكن الرهان عليه هو أن يمثل الحوار نقطة بداية لمرحلة مختلفة، وأن تكون نتائجه وتوصياته مقدمة للانتقال من مربع إلى مربع آخر يمكن البناء عليه للمستقبل، وذلك كله سيكون محلا لاختبار جاد وحقيقي سواء للسلطة أو للمعارضة، الأولى في مدى جديتها في التعامل مع هذا الحوار نفسه ونتائجه وما سيطرح فيه، والثانية في مدى قدرتها على تقديم رؤى وحلول جادة وبديلة عن السياسات الراهنة وقابلة للتنفيذ وأيضا قدرتها على إدارة توافق يمكنها من الوصول لتلك النتائج وتحقيقها، وهو رهان في تقديري يستحق، خاصة في ظل الأوضاع الراهنة، سياسيا واقتصاديا ومجتمعيا، داخليا وإقليميا ودوليا، وإن كانت نتائجه محل اختبار وليست يقينا.
أما اليقين المؤكد بالنسبة لي، فهو أن فكرة اللجوء للشارع في الوقت الراهن لا تعدو كونها رهانا خاسرا، لكن الأخطر أنه رهان خطر، وهى قناعة ليست وليدة اللحظة الراهنة ولا ما بعد تجربة السجن التي مررت بها ولكنها سابقة على ذلك، وفارق كبير بين حق التظاهر على قضايا ومواقف بعينها، وبين الدعوة للنزول للشارع باعتباره حلا للوضع القائم، فاللحظة مختلفة كليا سواء من حيث توازنات القوى أو طبيعة الأزمات المركبة أو حتى ما يفترض أن يكون خبرات ناتجة عن التجارب السابقة، وهى مختلفة أيضا من حيث استعداد المجتمع نفسه، الذى قد يكون بالتأكيد غاضبا ومكبوتا ويعانى من الكثير من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، لكن فكرة نزول الشارع في ظني لا تمثل حلا بالنسبة له إلا بمنطق اليأس الكامل الذى يجعله لا بديل غيره لتفريغ طاقة الغضب والكبت، وهو ما يجعل الأمر في هذه الحالة خطرا حقيقيا لا على السلطة، وإنما على المجتمع بمعناه الأشمل والأوسع، وخاصة في ظل عدم وجود قوى منظمة ومؤطرة ومبلورة تستطيع قيادة أو توجيه أو تسييس أي حراك جماهيرى.
الأخطر هنا، أن تكون هذه الدعوات لنزول الشارع من أطراف معروف مسبقا تحالفاتها وتوجهاتها، بل وتجاربها في دعوات مماثلة، التي لم تؤد سوى لمزيد من الاحتقان، ولمزيد من القبض على نشطاء أو مواطنين، والمذهل أن يصدق البعض دعايات هؤلاء الداعين لأن هذه المرة التي يدعون لها في 11 نوفمبر قد تكون مختلفة، سواء لوجود ظرف مختلف مثل تنظيم قمة المناخ في مصر، أو على خلفية الأوضاع الاقتصادية التي يعاني منها المصريين فيصبح تفاعلهم مع مثل تلك الدعوات أوسع، أو التصورات البائسة في تقديري التي تتحدث عن دعم أطراف لمثل تلك التحركات في التوقيت الراهن.
عدم الاستفادة من التجارب السابقة لا يعد في ظني سوى حماقة، وتكرار نفس الأخطاء في اعتقادي غباء، وعدم اختيار المعارك الصحيحة وتوقيتها الصحيح وحلفائها الحقيقيين خطأ تكرر كثيرا على مدار السنوات الماضية ولا يجوز في رأيي الوقوع فيه مجددا، ولا حرج إطلاقا في رأيي من إعلان موقف واضح من تلك الدعوات خشية أن يتصور البعض أو يروج عمدا أن ذلك يعني دعما أو تحالفا أو موافقة على مجمل أداء السلطة، وبمناسبة الحوار الوطني، فظني أن المطروح الآن حوار للتوافق على ملفات ونقاط وقضايا بعينها قد تمثل بداية لما بعدها، وهو بالأساس حوار من منطلق المعارضة للسياسات والأداءات وبحثا عن فرص وإمكانات التوافق على تغييرات وتعديلات فيها أو على الأقل في بعضها.
أما هؤلاء الذين يتصورون أنهم قادرون على تحريك الشارع الذى ليس معهم ولا معنا ولا حتى مع السلطة وإنما هو (مع نفسه) حاليا، وإلى أن تتبلور أمامه قوى ورؤى واضحة وقادرة على تقديم حلول حقيقية، والذين لا يتسببون إلا في المزيد من الخسائر والضحايا، والذين يراهنون على الإحراج أو المزايدات التي ستجعل من ليس مع ما يدعون إليه يصمتون خوفا أو خجلا، فالحقيقة أنه إذا كان بعضهم مدفوعا بمواقف سياسية ووجهات نظر قد تكون صحيحة، إلا أنه بعيد عن الواقع، وبعضهم الآخر أو بعض من المتفاعلين أو المتعاطفين مع تلك الدعوات الذين يترقبون أو يتصورون أنها قد تمثل نقطة تغير في الأوضاع القائمة قد يكونوا حَسني النوايا لكنهم للأسف لم يتعلموا بعد من التجارب السابقة، أما الآخرين الذين يقودون ويروجون ويدفعون باتجاه هذه الدعوات لخلق أزمة تصورا بأن ذلك هو ما قد يمثل حلا فربما وصفهم بما يليق مما يعاقب عليه القانون ولا يليق أن يكون في سطور هذا المقال، وربما يكفى أن نلفت النظر هنا فقط لأنها ليست مصادفة أن يتزامن ذلك مع إعلانات ووثائق تصدر عن جبهات مختلفة من بقايا جماعة الإخوان، أحدها يتبنى خطابا يبدو أهدأ وأكثر انفتاحا دون اعتراف واحد واضح بأي مسئولية عما سبق ودون مراجعة حقيقية وجادة لخطاياه، وهى لعبة كثيرا ما حاولوا بها العودة للمشهد واستقطاب قوى وأطراف لقبول التحالف أو التنسيق معهم، بينما طرف آخر يبدو أكثر وضوحا لكنه للمفارقة الطرف الأكثر تطرفا وميلا للعنف وفقا للوقائع السابقة وتاريخ شخصيات تلك الأجنحة والجبهات التي ولد بعضها من قبل تنظيمات تبنت خيار العنف.
ما العمل إذا؟ باختصار أن نكون أكثر وعيا وتعلما من دروس السنوات الماضية، وبما فيها تجارب السنوات الأخيرة، وأن يكون سعينا الأساسي والرئيسي هو فتح منافذ ومساحات يمكن من خلالها بناء قوى وأطر منظمة وجادة وقادرة على تطوير خطابها وبناء رؤيتها وتقديم تصورات وحلول حقيقية وتجديد دمائها، وكل خطوة في هذا الاتجاه مكسب، ودون تخل عن النقد الواضح والصريح للأخطاء في السياسات والممارسات والإجراءات، وبما في ذلك ما يجري مثلا حاليا من حملات تفتيش في الشوارع والميادين يصل للاحتجاز والقبض العشوائي أحيانا، ودون تخل أيضا عن تبني هموم الناس وقضاياها ومعاناتها لكن مع طرح حلول حقيقية لها لا الاكتفاء بالتعبير عنها، وأن يكون للقوى والشخصيات المدنية الديمقراطية في مصر مربعها المستقل والواضح لا تأييدا للسلطة بالتأكيد ولا أيضا تأييدا لدعوات بائسة ولا حتى صمتا عنها، أما الوقوع في فخاخ دفع أثمان لحسابات وتصورات ومصالح أطراف أخرى فهي خطيئة لا ينبغي السقوط فيها، والوقوع في خطأ الرهانات على ما هو -يقينا- رهان خاسر بل وقد يدفع لما هو أسوأ، تلك فخاخ وأخطاء ينبغي الانتباه لها وتجاوزها، وكذلك الدعوة بوضوح للتعامل معها سياسيا لا أمنيا، فالسلطة تستطيع ببساطة تجاوز تلك الدعوات بحزمة إجراءات سياسية واقتصادية، لا بغرض الامتصاص أو تجاوز الاحتقان، والذى يتزايد بالمناسبة مع سطوة الإجراءات الأمنية وحدها، ولا حتى بغرض تجاوز الدعوات القائمة التي تبدو زاعقة على مساحات التواصل الاجتماعي إنما لا تبدو كذلك على صعيد المجتمع، وإن كان التوسع في الإجراءات الأمنية يلفت النظر لها في حقيقة الأمر، وإنما بالأساس بغرض التقدم للأمام والإرادة الجادة نحو تعديل السياسات القائمة سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الانحياز الاجتماعي، لأن ذلك هو جوهر المشكلة، والتعامل معه بشكل إيجابي هو جوهر الحل، أما الحوار الوطني المدعو إليه فهو جزء من هذا الحل وليس كله بالتأكيد، وإنما خطوة على طريقه، ولا يوجد ما يمنع أبدا من أن تسبقه أو تتزامن معه أو تليه خطوات.