شهد أول أيام “المؤتمر الاقتصادي.. مصر 2022” ثلاثة توجهات رئيسية. الاتجاه الأول عبرت عنه الحكومة التي حاولت توظيف المؤتمر في عرض حجم التحديات التي واجهتها وما قالت إنه “إنجازات تم تحقيقها” وهو ما يمكن تسميته باتجاه الرضا . أما رجال الأعمال والمستثمرين، والذي يمكن تسميتهم الاتجاه الثاني، استغلوا أول جلسات المؤتمر في توصيل صوتهم ومطالبهم خاصة فيما يتعلق بأزمة الدولار وتوفير العملة الصعبة، ويمكن التعبير عنهم ووصفهم باتجاه إبراز جوانب النقد بينما ركز الفريق الثالث من التكنوقراط والخبراء على المشكلات المزمنة التي يعاني منها الاقتصاد المصري، فيما قالوا إنها محاولة لتصويب رؤى المسئولين فيما يتعلق بالمستقبل، خاصة في ملفات النمو والدين العام والخارجي بالإضافة إلى عجز الموازنة العامة. هذا الأتجاه الثالث يمكن وصفه بتيار الغضب والانتقاد الشديد. والاتجاهان الأخيران “رجال الأعمال والخبراء” وإن كان يلحظ تقارب بينهما في توجيه الانتقادات ، مع ذلك فإن الهوة واسعة وعميقة في نبرة النقد وحدته، الموجه من الاثنين للحكومة الراضية بما حققته وعرضته في اليوم الأول من المؤتمر.
اقرأ أيضا.. الاقتصاد المصري في 2022: رفع الفائدة يهدد النمو.. وإلغاء الدعم قادم
المؤتمر الاقتصادي افتتحه الرئيس عبد الفتاح السيسي، أمس الأحد، ويُعقد على مدار 3 أيام متتالية حتى غد الثلاثاء، وأُطلق بتكليف من رئيس الجمهورية، وبتنظيم من الحكومة، ويُعقد في العاصمة الإدارية الجديدة. كما يشارك فيه أكثر من 21 جهة محلية ودولية، بالإضافة إلى مجموعة من كبار الاقتصاديين والخبراء المتخصصين. وطبقا لما أعلنته الحكومة يستهدف المؤتمر بحث أوضاع ومستقبل الاقتصاد المصري ووضع خارطة طريق مستقبلية للدولة. كذلك يشمل المؤتمر 3 مسارات أساسية، هي السياسات الاقتصادية الكلية، تمكين القطاع الخاص وتهيئة بيئة الأعمال، وأخيرا صياغة خارطة الطريق المستقبلية للقطاعات ذات الأولوية في برنامج عمل الحكومة.
5 أزمات اقتصادية
في الجلسة الافتتاحية، ركز الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء، في كلمته التي كانت الأطول، على عبور مصر 5 أزمات اقتصادية. قال إن كل واحدة منها كانت كفيلة بإسقاط أي دولة. كما أرجع ذلك “النجاح” لبرنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تطبقه الحكومة منذ عام 2015. “مدبولي” قال إن ذلك البرنامج كان أحد مسببات تسجيل مصر نسبة نمو اقتصادي غير مسبوق وصل إلى 9% في النصف الأول من عام 2021/2022.
اللافت في الجلسة الأولى من المؤتمر، الإطار الزمني الذي استخدمته الدولة لمقارنة أوضاع الاقتصاد المصري أو تحديد بداية مشكلاته. رئيس الوزراء، قال إن الاقتصاد المصري يواجه الآن تحديات هائلة يعود بعضها إلى عام 1982. وضرب أمثلة على ذلك بارتفاع معدلات الزيادة السكانية ومستويات الفقر، وانخفاض مشاركة القطاع الخاص في جملة الاستثمارات المنفذة. بالإضافة إلى ارتفاع مستويات الدين الخارجي، واستمرار عجز الميزان التجاري. وتضاؤل نسبة الاستثمار الأجنبية للناتج المحلي الإجمالي، وأخيرا ما وصفه بـ”تذبذب” مشاركة القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي.
إطار زمني “طويل”
الدكتور محمد معيط، وزير المالية، أجرى مقارنات لوضع الاقتصاد المصري حاليا، مع 42 عاما مضت. لتصبح فترة المقارنة بين الخمس سنوات الأخيرة والفترة ما بين 1980 و1985 التي وصلت فيها نسبة الدين العام من الناتج المحلي الإجمالي لنحو 150%. بينما تستهدف الحكومة خفض المعدل إلى 72% وهو أقل مستوى دين في أربعة عقود، بحسب ما قال “معيط”.
الدكتورة هالة السعيد، وزيرة التخطيط، تناولت برامج الإصلاح في مصر مع التركيز على برنامجي 1991 و2016. بالإضافة إلى ما قامت الدولة به من إصلاح مالي ونقدي وتشريعي خاصة بإصدار حزمة من القوانين. كما أشارت إلى الإصلاح الهيكلي في قطاع الطاقة وتوجيه فائض الترشيد إلى الفئات الأكثر احتياجا من خلال برامج الحماية الاجتماعية.
“السعيد” قالت إن مصر نفذت 3 برامج للإصلاح الاقتصادي سابقا. لكنها أضافت أن البرنامج الأخير وضع إصلاحا إنتاجيا قادرا على إدخال القطاعات الإنتاجية الأساسية فيه والتي وصلت نسبتها إلى 26% في النمو لعام 2019/2020. كما يستهدف الوصول بمعدل النمو إلى 30% في عام 2025.
حديث الحكومة عن النمو الاقتصادي شهد لأول مرة مسارين مختلفين، ففي حين ركز رئيس الوزراء ووزير المالية على الأرقام في سياق تاريخي “الأعلى والأقل”. ركزت وزيرة التخطيط على عدم استدامة معدلاته. إذ قالت إن الأساس في التنمية هو أن يظل الاقتصاد عددا من السنوات المتصلة في معدلات نمو مرتفعة.
معيار النمو
في الاتجاه الثالث لأول أيام المؤتمر، ركز التكنوقراط والخبراء المشاركون في الجلسة الأولى الافتتاحية للمؤتمر الاقتصادي على نوعية النمو وليس أرقامه ومعدلاته. الدكتور أشرف العربي، رئيس معهد التخطيط، ووزير التخطيط السابق، طالب الحكومة بالتركيز على نوعية النمو المدفوع بالتصدير والإنتاج وليس بالاستهلاك والواردات. بالإضافة إلى ضرورة العمل على زيادة مساهمة الإنتاجية الكلية.
كما شدد “العربي” على ضرورة تحقيق ما أسماه بـ”النمو الشامل الاحتوائي المستدام التشغيلي” الذي يولد فرص عمل دائمة. فالتنمية بمفهوها الشامل ليست إشباع الحاجات الأساسية للمواطنين فقط، لكن أيضا تلك التي تعمل على توسيع الخيارات أمام البشر وتلبية احتياجات الأجيال القادمة وليس الحالية. كذلك أن يكون تمويل التنمية بمزيد من الاستثمار والمشاركة بين القطاعين الخاص والعام وليس عبر الاقتراض.
الدكتورة سارة النشار، كبيرة الاقتصاديين في البنك الدولي بمصر، قالت إن جميع أزمات الاقتصاد المصري ليس سببها الأزمات الدولية. وأكدت أن بعض الأرقام تشير لضغوط على الحسابات الخارجية كتحول صافي الأصول الأجنبية للسالب في يوليو/تموز 2021 أي قبل الأزمة الروسية. بالإضافة إلى أن 59% من الائتمان المحلي الممنوح من البنوك يذهب إلى الحكومة في شكل أذون خزانة.
مشروعات “مهمة” لكن!
“النشار” تطرقت إلى مشروعات البنية التحتية كأحد محركات النمو والتشغيل. كما قالت إن تلك المشروعات “مهمة” لكن يجب النظر للتحول الاقتصادي ككل. إذ شهد هيكل الاقتصاد المصري في العقدين الماضيين تحولا لقطاعات ليست قابلة للتجارة وأقل إنتاجية مثل التشييد والبناء وتجارة التجزئة. وأكدت أن ذلك التحول أسهم في ضعف قدرات الاقتصاد والتصدير وزاد من التعرض للصدمات المتداخلة دوليا.
الدكتور أيمن إسماعيل، أستاذ ريادة الأعمال في الجامعة الأمريكية، كان تركيزه أكثر على التحديات الصعبة التي تعاني منها الشركات الصغيرة والمتوسطة. وقال إن تغير السياسات بشكل مستمر يزيد من المخاطر، خاصة تلك الخاصة بأسعار الصرف. كما أشار إلى أن مصر خفضت قيمة الجنيه أكثر من 5 مرات في الـ40 سنة الماضية.
وبحسب “إسماعيل” فإن مصر في قاع مؤشرات الحوكمة التي ترتبط باحترام العقود وسرعة التقاضي. كما أوضح أن الحكومة لو كانت جادة في الإنتاج والتصدير فعليها العمل بشكل جماعي والتنسيق فيما يتعلق بخفض أسعار الأراضي وتوضيح مستقبل العملة وتقليص عدد الجهات الحكومية المتعاملة مع الشركات. بالإضافة إلى ضرورة توضيح الرؤية المستقبلية التي تقلل من المخاطرة.
رجال الأعمال
أما الاتجاه الثاني والمتمثل في رجال الأعمال فقد ركز في اليوم الأول للمؤتمر الاقتصادي، على مشكلاتهم الداخلية أكثر من أوضاع الاقتصاد الكلي. أحمد الوكيل، رئيس الغرفة التجارية في الإسكندرية، انتقد توغل السياسة النقدية على السياسة المالية والاستثمار وانعكاساتها على التجار خلال العامين الماضيين.
أما هاني برزي، رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لشركة كبيرة للصناعات الغذائية، قال إن الصناعة تعاني من تذبذب أسعار الصرف. كما أكد أن أغلب الصناعات الاقتصادية عاشت أزمة في 2016 بسبب التعويم ورفع الفائدة. وأكد أن المشكلة أنه حين تم تحرير سعر الصرف قالت الحكومة إن خفض الجنيه سيزيد الصادرات، لكنه رفع التضخم ما أفقد القرار أهميته.
وبحسب مصنعين ورجال أعمال، تعاني مصر من غياب معلومات واضحة حول ما يتم استيراده وما يمكن تصنيعه. حتى أن السوق في مصر تستورد فرش الأسنان والبالونات المطاطية، ومنتجات يمكن تصنيعها ببساطة، لكن تصل قيمتها الاستيرادية إلى 10 مليارات دولار في السنة.
محمد طارق توفيق، عضو مجلس إدارة غرفة الصناعات الغذائية باتحاد الصناعات المصرية، دعا لتحسين البيئة العامة والشفافية، للوصول إلى هدف الحكومة للتصدير بـ100 مليار دولار صادرات سنويا. لكنه أيضا يرى أن الرقم الحالي غير لائق بمصر التي تصدر 265 سلعة بقيمة مليار يورو للاتحاد الأوروبي. وفي المقابل الصين تصدر السلع نفسها والعدد ذاته لأوروبا بـ100 مليار دولار، ما يؤكد وجود مشكلات إجرائية، بحسب ما قال.
ما يهم البسطاء
رغم تناول الجلسة الافتتاحية قضايا تمس المواطن لكن الملفات الأكثر اقترابا من محدودي الدخل (التضخم وسعر الصرف وتسعير الخدمات) طرحوا على طاولة المؤتمر في ختام جلسات اليوم الأول.
الدكتور حسين عيسى، رئيس لجنة الخطة والموازنة السابق بمجلس النواب، قدم اقتراحا مثيرا للجدل بالتوسع في السندات المحلية. لتمويل محطات الكهرباء والصرف الصحي، فمحطة كهرباء دمياط على سبيل المثال يجب أن يموّلها أهل دمياط.
“عيسى” تحدث عن ملف تسعير الخدمات، مشيرا إلى أن الحكومة تقدم خدمات ضخمة دون نظام محاسبة واضح للتكاليف يعمل على قياس متوسط تكلفة الخدمة. “عيسى” قال إن غياب ذلك النظام يضيع على الدولة إيرادات بالمليارات.
مع نهاية فعاليات اليوم الأول، حمل تعقيب محافظ البنك المركزي المصري حسن عبد الله الذي لم يستمر سوى دقيقتين كشفا للعديد من التطورات المهمة. “عبدالله” كشف دراسة البنك المركزي استحداث مؤشر لقيمة الجنيه المصري يقيس أداء العملة المصرية مقابل سلة من العملات وعناصر أخرى مثل الذهب. محافظ البنك المركزي قال إنه لا بد من تغيير ثقافة ارتباط سعر صرف الجنيه بالدولار.
“عبد الله” قال نصا: “لسنا دولة مصدرة للبترول لكي يكون عندنا سعر صرف مربوط بالدولار. الجنيه ارتفع بنسبة 100% أمام الليرة التركية لكن الناس لم تركز إلا على الدولار”.
وبحسب تصريحات محافظ البنك المركزي، فإن المؤشر الجديد للجنيه يحدد معدل صرف العملة استنادا إلى مجموعة عملات يتم اختيارها من قبل “المركزي” على أساس وزن التجارة البينية بين مصر والدول المصدرة لتلك العملات. أو بمعنى آخر بحسب نسبة إجمالي الواردات والصادرات.
“عبدالله” أوضح تلك النقطة قائلا إن أمريكا ليست الشريك الأول لمصر تجاريا، وبالتالي لا حاجة لوجود ارتباط بين الجنيه والدولار.