شهد الخامس من الشهر الجاري اتفاق المملكة العربية السعودية مع روسيا والدول المنتجة للنفط، في تكتل “أوبك +”، لإقرار خفض إنتاج النفط، بينما يشهد العالم ارتفاع أسعار الطاقة وارتفاع التضخم. ما يراه المراقبون خطوة جديدة لتحرر الرياض من سيطرة واشنطن التي دامت عقودا على الكثير من القرارات. وضربة أخرى من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال حملته الانتخابية بجعله وبلاده منبوذين.
في تحليلهما حول الخطوات التي تقوم بها الرياض ورد الفعل المفترض من واشنطن، يشير كل من السيناتور ريتشارد بلومينثال عضو مجلس الشيوخ الأمريكي. وجيفري سونيفيلد، أستاذ الإدارة في كلية ييل. إلى أن “التوقيت مختار، ليس فقط لتغذية آلة الحرب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولكن أيضًا ضد العمل الذي قام به الكونجرس الأمريكي وإدارة بايدن لمواجهة معدلات التضخم المرتفعة وخفض أسعار الغاز”.
لكنهما كذلك يلفتان إلى أن “هذا العمل العدائي الذي قام به أصدقاء واشنطن المفترضون في الرياض”، حسب وصف التحليل، قدم جانبًا إيجابيًا. فقد أظهر أن الولايات المتحدة لديها نفوذ كبير لتصحيح ما أصبح علاقة غير متوازنة في الأساس.
يقول التحليل: نكثت المملكة، مرارًا وتكرارًا، بوعودها للولايات المتحدة. سواء عن طريق “ذبح” المدنيين في اليمن بأسلحة أمريكية، أو بقتل الصحفي جمال خاشقجي المقيم في الولايات المتحدة، أو بارتكاب انتهاكات أخرى لحقوق الإنسان. لقد حان الوقت للولايات المتحدة للتوقف عن تمكين السلوك السيئ للسعودية، وإعادة ضبط هذه العلاقة أحادية الجانب.
اقرأ أيضا: ردع الصين وإفشال روسيا و “الالتزام بإسرائيل”.. ملامح استراتيجية الأمن القومي الأمريكي 2022
لهذه الغاية، قدم بلومينثال -السيناتور الديمقراطي عن ولاية كونيتيكت- تشريعات، من شأنها أن توقف جميع مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى السعودية لمدة عام واحد، في أعقاب قرارها بتعريض الاقتصاد العالمي للخطر من خلال خفض إنتاج النفط.
يقول: إذا عكس السعوديون المسار واستعادوا مستويات إنتاج النفط الموعودة، يجب على واشنطن إعادة النظر في التوقف المؤقت لبعض مبيعات الأسلحة الأقل حساسية والأنشطة ذات الصلة، مثل خدمة الطائرات ودبابات M1A2 Abrams. ومع ذلك، يجب أن تظل عمليات نقل أنظمة الأسلحة الحساسة، مثل أنظمة الدفاع عن منطقة الارتفاعات العالية (THAAD) وأنظمة صواريخ Patriot -التي عُرضت على المملكة اعتبارًا من عام 2017- متوقفة مؤقتًا، حتى يتم إعادة تقييم العلاقة الأمريكية السعودية بالكامل.
وأكد أنه “إذا ضاعفت الرياض من تحالفها الخاطئ مع موسكو، فيجب أن تكون واشنطن مستعدة لوقف مبيعات الأسلحة بشكل دائم”.
ليسوا حلفاء
حتى الآن، يمكن القول إن السعودية تحتاج إلى أسلحة أمريكية، أكثر مما تحتاج الولايات المتحدة من النفط السعودي. لذلك، يرجح التحليل أنه “إذا استمرت الرياض في الأخذ من واشنطن أكثر مما تقدمه في المقابل، فعليها أن تتعامل مع العواقب”.
أيضا، العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية ليست -تقنيًا- تحالفًا، مثل دول الناتو أو غيرها. لأن البلدين لم يوقعا معاهدة أو اتفاق دفاع مشترك. لكن، على مدى عقود، منحت واشنطن حماية أمنية ضخمة للرياض، في مقابل النفط.
وقد ظلت حقول النفط السعودية تحت سيطرة الولايات المتحدة حتى سبعينيات القرن الماضي. عندما تم تسليمها إلى المملكة، مما حولها على الفور إلى واحدة من أغنى دول العالم. وحتى في ذلك الوقت، استمرت الولايات المتحدة في ضمان أمن المملكة، مقابل تعهدها بتوفير إمدادات النفط، والشراكة الإقليمية.
لكن التحليل يلفت إلى ان الرياض “تواصل استغلال هذه العلاقة التاريخية، واكتسبت سخاءً أمنيًا يتجاوز احتياجاتها وكفاءتها”.
أما “الأكثر إثارة للقلق”، كما يرى كاتبا التحليل، أنه منذ عام 2017، فهو أن السعودية اشترت بعضًا من أكثر تقنيات الدفاع الأمريكية حساسية، حتى على نطاق تجاوز التحويلات الأمريكية المشتركة إلى حلفاء أكثر موثوقية، مثل أستراليا وكندا وإسرائيل والمملكة المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي.
بالإضافة إلى أنظمة صواريخ THAAD و Patriot. يمتلك السعوديون الآن طائرات هليكوبتر هجومية وطائرات ثابتة الجناحين، من بين أسلحة أمريكية متطورة أخرى. مع خطة لتصنيع أجزاء كبيرة من هذه الأنظمة الحساسة محليًا باستخدام التكنولوجيا الأمريكية المنقولة. وهو ما يرى التحليل أنه أمر “مقلق للغاية”.
لذلك، يشير التحليل إلى أن قرار الرياض بالتخلي عن التزاماتها المتعلقة بإنتاج النفط “يوفر فرصة لإعادة النظر في صفقات الأسلحة المتهورة والخطيرة”.
وأضاف: يجب على الولايات المتحدة أن توقف، على الفور، عمليات نقل التقنيات الحساسة وأنظمة الأسلحة إلى السعودية قبل فوات الأوان لإعادة تأكيد سيطرتها عليها. وحتى تنتهي من إعادة تقييم أوسع للعلاقة الدفاعية بينهما.
بدائل صعبة
في حديث سابق لصحيفة الواشنطن بوست، أوضح خبير الأسلحة بروس ريدل أن القرار الأمريكي بوقف مبيعات الأسلحة والتقنيات -في حال إقراره- من شأنه أن يضعف الدفاعات السعودية.
يقول: بدون مساعدة الولايات المتحدة لخدمة قواتها الجوية، سيتم إيقاف أسطول السعودية بأكمله في غضون أشهر. نظرًا لأن أنظمة الأسلحة الأجنبية غير قابلة للتبديل عمومًا مع الأنظمة الأمريكية، ولا يمكن استبدالها. سوف يستغرق الأمر عقودًا للانتقال من الطائرات الأمريكية والبريطانية -على سبيل المثال- إلى الطائرات الروسية أو الصينية. الأمر نفسه ينطبق على الدبابات والاتصالات وغيرها من المعدات عالية التقنية.
بمعنى آخر، سيكون من المستحيل على الرياض أن تجد مصادر أسلحة جديدة بين عشية وضحاها.
في الوقت نفسه، يشير التحليل إلى أن التوقف المؤقت في مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى المملكة “لن يؤدي إلى تقوية الصين أو روسيا”. وأنه “على الرغم من قعقعة السيوف، تعتمد الرياض بشكل واضح على واشنطن. حيث تشتري 79% من أسلحتها وحوالي 100% من أسلحتها المتقدمة عالية الجودة من واشنطن. بينما جزء كبير من نسبة 21% المتبقية من إجمالي مشترياتها من الأسلحة بشكل أساسي، من أسلحة صغيرة منخفضة الدرجة، وعفا عليها الزمن. مثل قاذفات القنابل اليدوية والبنادق والذخيرة من الحقبة السوفيتية، فضلاً عن الطلبيات الصغيرة من الطائرات بدون طيار الصينية الرديئة”.
أيضا، لدى الرياض أسباب أخرى لتفضيل الأسلحة الأمريكية. حيث تحافظ كل من روسيا والصين على علاقات عسكرية وثيقة مع إيران، ما يجعل شراء الطائرات، أو اتفاقيات الخدمات مع أي من البلدين، خطرًا أمنيًا محتملاً للرياض. لهذا السبب -جزئيًا- لم تشتر الرياض أبدًا طائرات عسكرية ثابتة الجناحين من مورد غير غربي. كذلك، لن يفيد وقف مبيعات الأسلحة الأمريكية إيران.
اقرأ أيضا: كارنيجي: السعودية فشلت باليمن و”أفشلته”.. الحل دعم الاقتصاد ونبذ “العسكرة”
ثقة ممزقة
في عهد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حاولت السعودية إعادة تشكيل صورتها، من دولة بترول استبدادية ترتكب انتهاكات حقوق الإنسان، إلى واحة من الاستقرار والقدرة على التنبؤ والحداثة. حيث خففت القيود المفروضة على ملابس النساء، ومنحت المرأة تصريحا بقيادة السيارات، كما بدأت مشروعًا ضخمًا بقيمة 500 مليار دولار لبناء مدينة “نيوم” المدعومة بشبكة طاقة متجددة.
لكن، يلفت المحللان إلى أن “جهود تغيير العلامة التجارية للرياض يتم تقويضها باستمرار بسبب سلوك النظام. بما في ذلك قمعه القاسي للمعارضة، والانتهاكات المروعة لحقوق الإنسان في الداخل والخارج، واستمرار استخدام التعذيب وقطع الرؤوس لمعاقبة خصومه”.
بالفعل، صنّفت منظمة فريدم هاوس المملكة العربية السعودية في أدنى مرتبة في تقريرها السنوي عن حقوق الإنسان. ووضع المنتدى الاقتصادي العالمي المملكة في مرتبة الـ 5% الأدنى من البلدان عندما يتعلق الأمر بالمساواة بين الجنسين، وهي أقل بكثير من الدول العربية المجاورة. وحتى بعد أن انتزع الرئيس الأمريكي جو بايدن من محمد بن سلمان جولة جديدة من التعهدات باحترام حقوق الإنسان خلال رحلته إلى المملكة في يوليو / تموز. حكمت المحاكم السعودية على الفور على العديد من معارضي النظام بالسجن لمدد طويلة.
أيضا، إن قرار الرياض الأخير بإلقاء قوتها مع موسكو “أدى إلى مزيد من التشويه لصورتها”، وفق الكاتبين، اللذين أوضحا أنه “حتى قبل قرار أوبك + هذا الشهر، بدا أن السعودية تتقرب من الرئيس الروسي بوتين، على الأقل فيما يتعلق بقضايا الطاقة”.
وأضافا: أوبك + نفسها هي نتاج زيادة التعاون السعودي- الروسي، الذي وافق عليه شخصيًا محمد بن سلمان وبوتين على هامش قمة شنغهاي الاقتصادية في عام 2016. منذ ذلك الحين، عزز الزعيمان شراكتهما، من خلال مكالمات هاتفية متكررة وتنسيق صريح. وهو انتهاك صارخ تم تجاهله منذ فترة طويلة لتعهد “منتج نفط موثوق به”، والذي يدعم شراكة واشنطن الاستراتيجية مع الرياض.
وأكدا أن “قادة سعوديون يعتقدون أن بإمكانهم دفع الولايات المتحدة إلى الزاوية، مما يجبرها على قبول شروطهم الخاصة بشراكة لا تفعل الكثير لتعزيز المصالح الأمريكية”.
لن يسحبوا النفط
يشير التحليل إلى أن “وجود السعودية القوية والمسئولة، من شأنه أن يعزز المصالح الأمريكية، من خلال العمل كحصن إقليمي ضد إيران، التي تركز بشكل متزايد على الطاقة النووية”.
لكن، أيضا، فإن السعودية “لم تتصرف بمسئولية. بل على العكس من ذلك، فإن إساءة استخدامها لأنظمة الأسلحة الأمريكية -بما في ذلك قصفها العشوائي للمدنيين في اليمن- عزز موقف إيران في صراعات بالوكالة طويلة الأمد في العراق ولبنان وسوريا، من خلال مساعدة الميليشيات المدعومة من إيران على كسب الدعم الشعبي”.
وأكد الكاتبان أن “فرض قيود صارمة على شركاء واشنطن السعوديين، ومنع إساءة استخدام الأسلحة الأمريكية. لن يؤدي إلى زيادة النفوذ الخبيث لإيران في المنطقة، بل سيساعد في الحد منه”.
أمّا بالنسبة للتأثير على مقاولي الدفاع الأمريكيين، تمثل مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى السعودية جزءًا صغيرًا من الإيرادات والوظائف المحلية. وهو “جزء سيصبح أصغر، حتى من خلال تراكم الطلبات الطويلة على أنظمة الأسلحة الأمريكية من دول أخرى في الخليج العربي وحول العالم”.
يشير التحليل كذلك إلى أن “وقف مبيعات الأسلحة لن يدفع السعوديين إلى سحب إمدادات النفط الإضافية من السوق”.
وأضاف: على الرغم من ادعاءاتها الكاذبة بعدم امتلاكها طاقة فائضة، فإن السعودية تقوم بالفعل بحفر نفط أقل بنسبة 33% مما كانت عليه قبل عامين فقط. سيعني خفض الإنتاج بعد الآن المخاطرة بخسارة حصة السوق للمنتجين الآخرين، خاصة وأن مرافق التخزين في الرياض تفيض بالفعل، لأنها رفضت -بشكل صارخ- الإفراج عن أي احتياطيات استراتيجية هذا العام.