اعتمد الاقتصاد العالمي طوال القرون السابقة على تبادل البضائع وحرية التجارة، لتحصل الدول التي تفتقر للأراضي الزراعية كدول الخليج وكثير من الدول الصناعية على احتياجاتها من الغذاء من الخارج مقابل عائدات تصدير البترول أو حصيلة بيع منتجاتها الصناعية للعالم كله لكن كورونا ضرب تلك الطريقة المعتادة في مقتل.
sss
مع انتشار “كورونا” أصبحت الدول المستوردة للغذاء في مأزق مع إعلان كبار منتجين الغذاء الأولي (الحبوب)، وقف التصدير وتأخر الشحنات المتعاقد عليها منذ عدة أشهر، في الموانئ بسبب توقف حركات النقل، ليصبح خيارها الوحيد إدارة مخزونها الاحتياطي على أمل أن يكفيها لأطول فترة ممكنة.
وحذر خبراء بمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة “الفاو” من أن “القيود على التصدير” بمنطقة ما قد تؤدي إلى مجاعة في الضفة الأخرى من العالم، بعدما علق كبار منتجو الحبوب، الصادرات ووجهوها نحو التخزين تحسبًا للطوارئ.
حكومة كازاخستان، التي تحتل مرتبة ضمن أكبر الدول المصدرة للقمح بالعالم، منعت تصديره مع منتجات غذائية أخرى مثل الجزر والسكر والبطاطس، بينما قررت روسيا، التي تتربع على عرش الإنتاج، دراسة الأمر بشكل أسبوعي وفقًا لتطورات الأمور مع عدم استبعاد اتخاذها قرار بالحفاظ على إنتاجها لأغراض محلية.
لا تتعلق أزمة منع التصدير بالقمح فقط، ولكنها امتدت إلى الأرز أيضًا المحصول الأساسي الثاني في قائمة موائد الطعام العالمية، وأعلنت “فيتنام” وقف تصديره لضمان الأمن الغذائي الخاص بها، مع تضرر جزء من إنتاجها بموجة جفاف شديد وتسرب المياه المالحة إلى الأراضي الزراعية بدلتا نهر ميكونج.
تشبه قرارات وقف التصدير كالحمى التي تتسرب عدواها بسرعة، فبعد فيتنام اتخذت كمبوديا وميانمار قرارات شبيهة تتعلق بالأرز، بينما توقفت الشركات الهندية عن تقديم عروض أسعار للمشترين الأجانب لعدم قدرتهم على تحديد موعد لشحن شحناتهم.
وتواجه الشحنات التي سبق التعاقد عليها، مشكلات تصديرية حادة، فيوجد حاليًا نحو 400 ألف طن من الأرز غير البسمتي، و100 ألف طن من الأرز العادي الذي كان مقرر تسليمها في مارس، لتظل عالقة في الموانئ أو في خط الأنابيب بسبب الإغلاق.
واستغلت تايلاند، المُصدر الرئيسي الوحيد الذي يقدم الأرز حاليًا، الفرصة لرفع أسعار تصديرها لأعلى مستوى في 7 سنوات لتبيع الطن (بنسبة كسر 5%) بحوالي 540 دولارًا، مقابل 365 دولارًا للطن قبل أسابيع.
وتوقفت دول شهيرة بإنتاج الزيوت عن التصدير كصربيا عن تصدير زيت عباد الشمس وسلع غذائية أخري، كما أعلنت الجزائر وقف تصدير 36 سلعة غذائية، وفضلت إبقاء مخزون محلي منها لوقت الحاجة.
ومن المتوقع أن تعاني الدول المستوردة للقمح مثل مصر وأندونيسيا اللتان تتصدران الاستهلاك العالمي من ارتفاع أسعار التوريد، وربما نقص في الإمدادات.
بحسب وزارة الزراعة الأمريكية، فسيرتفع استهلاك القمح بمصر في موسم 2019/2020 إلى 20.4 مليون طن، بينما سيرتفع بأندونيسيا إلى 10.7 مليون طن، وهي أرقام قياسية بالنسبة لكلا البلدين.
وتبدو المشكلة معقدة لمصر أكثر فيما يتعلق بإمدادات الزيوت التي تستورد 97% من احتياجاتها الزيتية سواء عباد الشمس أو الذرة أو الصويا، وتبنت خطط لتقليل واردات زيوت الطعام الخام بنسبة تصل إلى 30% لكنها لم تكتمل حتى الآن.
وتوقف القطاع الخاص بمصر عن توريد الزيوت إلى الشركة القابضة للصناعات الغذائية انتظارًا لرفع أسعاره بما يتواكب مع سعر السوق العالمية حاليًا، وصعوبة الالتزام بشراء كميات جديدة، ما يمثل أزمة لوزارة التموين التي قررت أخيرًا زيادة حصة الفرد من الزيت بزجاجة إضافية.
يقول الدكتور رشاد عبده، رئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية، إن الإشكالية ليست في نقص الغذاء العالمي ولكن في تخوف الدول من طول أمد الأزمة لما يتجاوز الثلاثة أشهر، وسعيها بكل الوسائل لتأمين احتياجاتها، ما يضر بالدول المستوردة وفي مقدمتها منطقة الخليج العربي.
ويضيف عبده أن قرارات حظر التجوال أثرت على حركة العمالة في الدول المنتجة للغذاء ما يهدد الكميات المنتجة ويقلل الفائض اللازم للتصدير، علاوة على اعتماد بعض الدول في مستلزمات الزراعة من أسمدة ومبيدات على دول أخرى وتسبب غيابها في هجوم للآفات وضعف حجم المنتج ذاته.
تحتاج المحاصيل الفرنسية لطاقة عمالة مقدرة بأكثر من نصف مليون شخص لزراعة القمح والشعير والذرة والخضروات الضرورية، وتضرر إنتاجها بسبب قرارات حظر التجول، وبات مؤكدًا أنها لن تدخل سوق التصدير الزراعي في 2020.
ودعا الاتحاد الوطني لنقابات المزارعين الفرنسيين مواطني بلاده إلى التطوّع بالعمل في الحقول لمواجهة شبح نقص الغذاء في البلاد نتيجة تأثر قطاع الزراعة بوقف تدفق العمالة الخارجية بسبب كورونا، وخوف العمال المحليين من انتشار الفيروس وتوقف أغلبهم بسبب إجراءات الحظر الصحي المفروض بالبلاد منذ منتصف مارس الماضي.
وصدّرت فرنسا 1.2 مليون طن من القمح اللين خارج الاتحاد الأوروبي في ديسمبر الماضي، وتوجهت غالبية الإنتاج إلى الجزائر أكبر وجهة للقمح الفرنسي اللين بنحو 504 آلاف طن إليها، والصين التي استوردت حينها 233 ألف طن.
ويواجه نحو 2.4 مليون رجل وامرأة يعملون في حقول زراعية بالولايات المتحدة خطر الإصابة بالفيروس حيث يعيشون في أكواخ صغيرة ويعملون متلاصقين دون استعمال كمامات، وحال غياب عشرهم فقط لأسباب صحية أو حال إصابتهم بالمرض فسيؤدي ذلك إلى مشكلة هائلة في توفير التموينية والتصدير.
ويؤكد رئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية، أن “كورونا” سيؤدي إلى تغييرات حادة في أولويات الدول خلال الفترة المقبلة، فدولة كمصر من المتوقع أن تركز على زراعة الحبوب والتقليل من محاصيل الفاكهة خاصة الموالح التي تحتل المرتبة الأولي في إنتاجها حاليًا.
وتستورد مصر غالبية أغذيتها اليومية المعتادة للمواطنين من الخارج، فهي الأولى في القمح وضمن الخمسة الأوائل في استيراد الفول بمعدل استهلاك يقدر بنحو 2500 طن يوميًا من إجمالي الناتج العالمي المقدر بـ 800 ألف طن سنويًا.
ويخشى خبراء الاقتصاد موجة ارتفاع بأسعار الغذاء عالميًا مع حجم الطلبات التي تصل المنتجين، وقامت بلدان رئيسية مستوردة للقمح مثل الجزائر وتركيا بطرح مناقصات شراء جديدة، وقررت المغرب تعليق فرض جمارك على واردات القمح حتى منتصف يونيو القادم.
وسلك العراق الطريق ذاته وأعلن احتياجه إلى مليون طن من القمح و250 ألف طن من الأرز، بعد أن نصحت لجنة أزمة كورونا بزيادة المخزون الإستراتيجي من الغذاء، كما تعاقدت السعودية على ٢،٣ مليون طن شعير يُفترض نقلها على 40 باخرة تصل على برنامج زمني محدد حتى يونيو المقبل.
ونقلت الدول حاليًا حدودها التي ظلت على الورق لأوقات طويلة إلى أرض الواقع وتتوسع حكوماتها في فرض الإغلاق على بضائعها، رغم تحذير الاقتصاديين من تلك السياسة، معتبرين أن التعاون العالمي وتبادل السلع الحل لمواجهة الأزمة وليس العزلة الاقتصادية.