تسير الحياة بسرعة مفرطة، كقطار سريع، قطار لا يسير على قضبان فقط. لكنه يقفز ويعبر كل شيء. تلك حكمة وخبرة الحياة. هذه الخبرة التي تتوقف عند الغالبية على لحظات الحكمة والتنظير، وأوقات المناقشات والكلام المرسل، دون وعي حقيقي بمحتوى تلك الخبرة.
مفهوم التضحية
كعادة كثير منا لا نقف لنعرف أو نفهم معنى أو مفهوم لتلك الكلمات والمصطلحات الكبيرة التي نعنون بها أفعالنا ومراحل حياتنا، لعل منها التضحية. وحسب تصوري الشخصي، فإني أرى التضحية نوعًا من المسئوليات الإضافية والتخلي. المسئوليات الإضافية التي يقرر إنسان بإرادته الحرة القيام بها، حتى لو كان واقع تحت تأثير ابتزاز عاطفي، أو ميل عاطفي. تلك المسئوليات الإضافية يلازمها نوعًا من التخلي عن حقوق وواجبات مفترض تقديمها من الآخرين، وتتميز فكرة التضحيات أن صاحبها يقوم بها بإرادته، وقد تستمر لفترة طويلة، إذا، فالتضحية تكون ذلك لمواصفاتها، لم يطلبها أحد يقدمها صاحبها طواعية، تستمر لفترة، يتخلى عن حقوقه ووقته، وحسب نوع التضحية يكون التخلي. وهي تحدث دون ان يطلب صاحبها أي مقابل، وإذا كان ذلك يحدث فأين تكمن المشكلة؟
التقدير أداة استمرار التضحية
عادة تبدأ التضحيات بمشاعر مضاعفة وقوية بمسئولية والتزام، وعاطفة قوية تجاه الطرف الآخر، مع استمرار التضحيات وطول مدة تقديمها، يحتاج من يقوم بها لبعض من التقدير.
فحسب عالم الإدارة الشهير ألتون مايو، فإن الرضا المعنوى للموظف يؤدي لرفع كفاءته أكثر من الرضا المادي. والأمر لا يختلف كثيرًا عند تطبيق تلك القاعدة الإدارية في جوانب الحياة.
فغياب التقدير وكلمات الشُكر يضاعف من إحساس الانسان بالتخلي، وكل إنسان حسب قدرته على التحمل تمر به لحظة يتوقف ليرصد مقدار ما تخلى عنه مقارنة بما قام به. وقد يصل البعض في تضحياتهم إلى التخلي عن حيواتهم الخاصة، وانطفاء مشاريعهم الشخصية.
تلك الاكتشافات التي كان المُضحي يغض البصر عنها ويتجاهلها تُصبح واضحة وقوية عند احساسه بأنه لم يُقدر من هؤلاء الذي تفانى من أجلهم. ذلك أن البشر إذا اعتادوا النعم زهدوا فيها، واستمرار العطايا يخلع عنها صفتها بكونها مميزة، فبعد قليل لا يرى من يتمتعون بمزايا التضحيات التي يقدمهم غيرهم. فهي توفر لهم جهد وترفع عنهم مسئوليات، ومن لا يرضى بالراحة؟ وإذا أضفنا ان التغيرات الاجتماعية التي طرأت على المجتمع نزعت منه قيم التقدير وانخفضت معدلاته، فاختفت كلمة “شكرًا” الا للضرورة وانطفأت الابتسامة الودودة فإن كل ذلك يضيف عبء جديد على كاهل المُضحي، والذي يجد أن ما فعله بلا ثمن، وأنه تخلى عن حُلمه مقابل سعادة آخرين لم تأتِ منهم حتى كلمة شُكر، ولذا تكون التضحيات مشفوعة في نهاياتها بالندم والحزن على ما فات، خاصة إذا كان القائم بالتضحية لا يمكنه تعويض ما فاته.
اختيار التضحية
كثير ممن يقدمون التضحية تفاجئهم كلمة محدش طلب منك، وهي كلمة صادمة إذا أنها تقتل فكرة التقدير، وبمثابة حكم قاسي. ولكن لنناقش الأمر بحياد، التضحية عمل تطوعي واختيار حر لمن يقوم بها، فلماذا يطلب من الآخرين أن يدفعوا ثمن اختياره الشخصي؟ المشكلة الحقيقة في سلوكياتنا كبشر وليس فقط من يقومون بتضحيات من أجل آخرين، أن أغلبنا يختار لكنه يريد أن يتحمل الآخرين مسئولية اختياراته عندما تفشل، في حين أن النجاح يكون لنفسه فقط؟
عندما تقرر أن تُضحي فأنت بمحض إرادتك قررت تحمل مسئوليات إضافية، لا أنفي حق التقدير، لكن عندما يقرر أحدنا أن يقدم تضحيات عليه ألا ينتظر مقابل، فآفة الانسان هي النسيان، قليل هم من يشكرون، وقليل من يعترفون بفضل غيرهم، هذه طبيعة الحياة، حيث النكران والجحود سمات ذات صوت عالي، ولذا عندما تُضحي لا تُنهي جميل ما فعلته بندم يكسر روحك، تذكر دومًا أنك قررت في لحظة أن تتحمل مسئوليات عن الآخرين، وفي كثير من الأوقات لن يتذكر هؤلاء أن ما تفعله الآن أو ما فعلته كان جزءًا من مسئولياتهم وتأتي كلماتهم “محدش طلب منك” كسكين في قلب كل ما فعلت.
الإفراط في التضحية مُضر في كل العلاقات. فهو لا يأخذ من طاقة وروح وحلم المُضحي فقط. لكنه يغرس أنانية لدى الآخر الذي يأخذ فقط، يُلبى له كل ما يطلب، وإن كانت التضحية مطلوبة في علاقات مثل الأمومة والأبوة، فإن زرع المسئولية والتقدير في نفوس الأبناء في غاية الأهمية، حتى لا تنكسر نفوسنا.
التضحية عمل تطوعي لم يطلبه أحد. لكن الاستمرار به يحتاج التقدير والافراط به يُفسد العلاقات، ويجعل الندم والحزن شريط أسود معلق فوق ابتسامة بدأت، فيعمل التخلي عن الحلم والندم على غياب التقدير وضياع كل شيء، على دهس صاحب التضحية تحت عجلات قطار تضحياته.