يطرح الباحثون في الدوائر الأكاديمية الغربية منذ هجمات 11 سبتمبر 2001، وحتى الآن، سؤالًا مفاده: هل التطرّف مرض عقلي أو نفسي حقًا؟ أم أن الدوافع الاجتماعية والاقتصادية لها الغلبة في سلوك طريق التطرّف، الذي غالبًا ما يقود إلى الإرهاب؟

sss

في مسعى للإجابة على هذا السؤال الصعب، تفجر كاثلين تايلور، الباحثة المتخصصة في علم الأعصاب بجامعة أوكسفورد، مفاجأة من العيار الثقيل، حيث تقول “يومًا ما، في المستقبل القريب ربّما، سيتم تعريف التطرف، والديني منه على الأخص، كواحد من أنواع الأمراض العقلية القابلة للعلاج”.

وتضيف تايلور: “إنّ واحدة من أهم المفاجآت التي توصلت إليها هي إمكانية تقديم علاج للأشخاص الذين يحملون معتقدات معينة.

وقريب، لن يتم وصف شخص اتجه نحو تطرف ديني أو أيديولوجي محدد، كمن يتبع خيارات فكرية أو عقائدية بمحض إرادته الحرة، بل كشخص يعاني اضطرابات عقلية”. 

وترى الباحثة أنّ “المشكلة لم تكن يوماً في العقائد الدينية نفسها، بل هي في طريقة تطبيق هذه المعتقدات لدى بعض المتدينين؛ فالمرض النفسيّ ليس في الإيمان. المرض العقلي هو الذي يدفع بهؤلاء الأشخاص إلى التطرف بعد مرحلة الإيمان، سواء في الحب أو في الدين أو في العلاقات الاجتماعية، ويدفعهم بالتالي إلى استعمال العنف والإكراه والوسائل الملتوية لتلبية رغبات عقدهم النفسية”.

 

مرض “نفسي اجتماعي”

ويُعرِّف علم النّفس “التطرف” بأنّه مجموعة من المعتقدات،والاتجاهات،والمشاعر،والإستراتيجيات، والسلوكيات الفردية والجماعية، البعيدة عن الحدّ العادي، أو المعتدل، أو المتوسط، من السلوك.

 

“التطرف” هو مجموعة من المعتقدات، والاتجاهات، والمشاعر، والإستراتيجيات، والسلوكيات الفردية والجماعية، البعيدة عن الحدّ العادي، أو المعتدل، أو المتوسط، من السلوك

ويعتبر الدكتور شاكر عبد الحميد، وزير الثقافة المصري الأسبق، أستاذ علم نفس الإبداع، أن “التطرّف هو نوعٌ من المرض النّفسي الاجتماعي، لأنّه ضدّ الحياة، والإبداع، والتنوّع، والتكامل الاجتماعي.

كذلك، يرى بعض الباحثين أنّ الإرهابيّين يعانون مشكلاتٍ نفسيةٍ اجتماعية عميقةٍ؛ فهم: عدوانيّون، وجامحون، ومختلّون، وسيكوباتيّون ومعادون للمجتمع، ومنغلقو التفكير). البعض الآخر، يرى أنّهم مزيجٌ من السيكوباتية والسوسيوباتية، أي مزيجٌ من الأمراض النّفسية والظواهر الاجتماعية. وقال البعض، كذلك، إنّهم نرجسيون، أو أشباه فصاميين، أي أن لديهم إحساسًا بالقدرة العقلية، والانفصال عن العالم، لكنّهم ليسوا من المرضى الفصاميين، بالمعنى الطبي المعروف. أمّا الفريق الآخر من الباحثين؛ فيربط هذا الربط بين التطرّف، والإرهاب، والمرض النّفسي، ويقول إنّ الظاهرة اجتماعية، سياسيةٌ، دينيةٌ، ثقافيةٌ، سيكولوجية، في وقت معا”.

ويشير الباحثون إلى أن المشكلة الرئيسية في تحديد كون التطرف الديني “مرضا نفسيا” من عدمه، تكمن أنه يبدأ بمظاهر سلوكية ظاهرية مقبولة؛ يتلقى الفرد تعزيزًا عليها من المجتمع لكونها تدينًا، والتدين محمود في مجتمعنا، فالكل يحمد للفرد التزامه في الصلاة وغضه للبصر وغيرها من السلوكيات الظاهرة، ثم عندما يبدأ فكره بالشطط بعد الاعتدال ينعزل عن المجتمع شيئًا فشيئًا، مما يصعب على المحيطين به ملاحظة أن الداء قد بدأ يستشري في بداياته، ولا يلاحظون التغيرات التي طرأت إلا عندما تغدو آثار التطرف ملحوظة، فالحد بين التدين المحمود والتطرف يصعب تحديده. من هنا جاءت خطورة السماح للفكر المتطرف بأن ينمو؛ لأنه قد يصل إلى مرحلة يصعب فيها السيطرة عليه والحد من آثاره.

اقرأ أيضًا: «الإرهاب» في العالم (ملف)

وإلى ذلك، يرى بعض علماء النفس أن التطرف حالة من الشعور بالتفوق، أو الاضطهاد، وهو، في جوهره مزيجٌ من الشعور بالاضطهاد والتفوق معاً، والشعور بالظلم، والإقصاء، والإبعاد عن مراكز السُّلطة والثروة ومصادرها، والشعور بالأفضلية، والامتياز، والجدارة، لأسباب أخلاقية ودينية وتاريخية، هكذا يشعر المتطرفون بأنّهم أصحاب رسالةٍ، ورؤيةٍ، وتفوّقٍ، ينبغي عليهم أنْ يملأوا الأرض عدلاً وخيراً، بعد أن امتلأت ظلماً وشراً وعدواناً.

ووفق هؤلاء الباحثين، يعاني المتطرفون تبعًا لذلك من “التضرر النرجسي”، وهو ‏أساسًا‎ ‎تضرر دائم للصورة التي يحملونها عن أنفسهم ولاحترامهم لذاتهم، يكون شديدًا إلى حد‎ ‎إرغام الذات ‏المرفوضة على السعي إلى “هوية إيجابية” جديدة، أي إحراز إحساس‎ ‎‏بالانتماء كعضو في جماعة متطرفة.

 “التضرر النرجسي”

على المستوى الفردي يكون سببًا في الالتحاق بجماعةمتطرفةتغذية النرجسية لدى المتطرفين، مما يتيح للفرد الفرصة لاحتقار البعض ممن هم خارج الجماعة، والتعالي ‏عليهم، وإشباع حاجته إلى الشعور بأنه أفضل‎ ‎منهم.

 

سلوك فكري.. لا عرض مرضي

في المقابل، يرى بعض الباحثين أن التطرف قد تسببه عوامل بيئية، أو حتى جينية، لكنه يبقى نوعًا من “السلوك الفكري” من الممكن أن يتغير، ومن الخطير التعامل مع المتطرف في الفكر أو حتى الإرهابي على أنه مريض نفسي. وكان ثمة محاولات من جانب علماء النفس في الجامعات الغربية بعد هجمات 11 سبتمبر، بهدف وضع “بروفايل نفسي” للإرهابيين، ولكن النتائج كانت إلى حد بعيد محبطة. حيث كان هناك إغراء أثّر على نحو كبير على طبيعة واتجاه بعض الأبحاث‎ ‎السابقة -خاصة التي قام ‏بها علماء النفس، هو افتراض وجود بعض سمات الخصوصية‎ ‎المميزة لدى أعضاء مجموعة إرهابية محددة ‏‏من حيث ما يجعلهم “متشابهين”، بالإضافة‎ ‎إلى ما يُفترض أنه يجعلهم “مختلفين” عن بقيتنا أو على الأقل ‏عن الأشخاص الذين لا‎ ‎ينخرطون في الإرهاب.

باحثون: التطرف قد تسببه عوامل بيئية، أو حتى جينية، لكنه يبقى نوعًا من “السلوك الفكري” من الممكن أن يتغير

غير أنه لم يتم العثور حتى الآن على “تركيبة نفسية” لشخصية الإرهابي، قائمة على‎ ‎تحليل السمات المشتركة الثابتة بين شخصيات الإرهابيين” بدلًا من القول بأنه لا توجد‎ ‎صورة مركبة لشخصية ‏الإرهابي تتضمن السمات المشتركة الثابتة في شخصياتهم.

وباتت محاولات الربط بين الانخراط في التطرف والصحة النفسية للمنخرطين، أو كنتيجة للخلل في سلوكهم الاجتماعي، محاولات غير مجدية، فنتائج رصد معدلات تلك المعضلات النفسية أو الاجتماعية لدى المنخرطين في أعمال عنف لم تتجاوز المعدلات نفسها التي رُصدت في الأوساط الطبيعية، كما أن نسبة كبيرة منهم لا يعانون أصلًا من مثل تلك المشكلات.

وفي هذا الصدد، توصلت القمة الدولية حول “الديمقراطية والإرهاب والأمن” التي عُقدت في مدريد مارس 2005، إلى أن البحث في علم الأمراض النفسية الفردية لفهم سبب انخراط‎ ‎الناس في التطرف والإرهاب عملية محكوم عليها بالفشل المحتّم، وأن التفسيرات على مستوى علم‎ ‎النفس الفردي غير كافية، وفي ‏الحقيقة فقد خلصت اللجنة إلى أننا لن نكون مبالغين إن نحن جزمنا بأن الإرهابيين‎ ‎أشخاص “طبيعيون” ‏نفسيًا، من حيث أنهم ليسوا ذُهانيين إكلينيكيًا، وهم ليسوا مكتئبين، ‎وليسوا مصابين باضطراب عاطفي شديد.

اقرأ أيضًا: شخصية «الإرهابي» على طاولة الطب النفسي

ورغم الإخفاق الغربي في رسم “بروفايل نفسي” للشخص المتطرف، إلا أن هناك عدة مؤشرات على وجود سمات نفسية ترتبط بشخصية المتطرف أو من لديه استعداد للتطرف، ينبغي دراستها والاهتمام بها.

ويمكن تسميتها “عوامل الخطر”؛ لكونها ترتبط بزيادة فرص حدوث التطرف، ومن ثم تكون لها أهميتها في التنبؤ بالسلوك المتطرف، لكن يتعين على الأشخاص الذين يعملون في مجال ‏مكافحة الإرهاب ألا يسرفوا في التعويل على تلك الصورة المركبة لشخصية المتطرف، حتى لا يقعوا في أخطار التعميم، ما يعني عدم التمييز بين المتدين، والمتطرف، والإرهابي.