لم ألتق مترجمي إلى الإنجليزية أبدا، كان يعيش في جنوب أفريقيا ثم انتقل إلى مدريد، بينما أعيش أنا في القاهرة، ولم أعد أنتقل منها إلى أي مكان. حين كان لا يزال يزور القاهرة، لم يكن قد ترجم لي سوى اثنتين من قصصي القصيرة، قصص أعتقد أنها كانت أقصر من أن تحتاج إلى لقاء شخصي بين المؤلف والمترجم، أما حين انتهيت من كتابة روايتي الأخيرة، فكان قد توقف عن المجيء إلى القاهرة. هكذا أخذنا نتواصل مطولا عبر الإيميل، عبر الزووم، والماسنجر.
اقرأ أيضا.. هل نحن “أميش الكوكب”؟ (رسالة آيوا)
في أحد الأيام، جالسا في بيتي في بالقاهرة، فرحا بصدور ترجمة روايتي أخيرا في الولايات المتحدة، فوجئت بتسرب الماء من السقف، أثناء محاولتي لعلاج المشكلة تعرفت على جاري الذي لا ألتقيه كثيرا، إن بابه ملاصق لبابي لكن بابينا مغلقان أغلب الوقت، عرفت أنه إنجليزي الجنسية، يقيم في مصر منذ سنوات، وأثناء دخولي إلى مطبخه لتتبع آثار تسرب المياه، رأيت مكتبة هائلة في الصالة. هائلة لدرجة دفعتني إلى أن أسأله عن عمله، فأجابني: “أنا محرر كتب”!
قلت له: أنا أحرر الكتب أيضا، بالإضافة إلى أنني كاتب كذلك. كما أن مترجمي إنجليزي مثلك، هل تعرفه: اسمه روبن موجر؟
ابتسم الجار الغامض: روبن. إنه صديق عزيز. كثيرا ما كان يزورني هنا في هذا المنزل!
صمتّ لحظات لاستيعاب الفكرة: إذًاـ، بينما كنت أكتب روايتي، مفترضا أن روبن موجود في مدينة كيب تاون، على بعد عشرة آلاف كيلومتر جنوب القاهرة، وبينما كان روبن يترجم قصصي القصيرة، كانت هناك لحظات، كنا فيها، الكاتب والمترجم، المصري والبريطاني، نجلس خلف بابين متلاصقين، في حي العجوزة بالقاهرة، يفصلنا جدار رقيق، تحت السقف الذي يعاني من تسرب المياه. بدا الموقف أقرب إلى مقطع من رواية ذهنية، أو كواحد من الدروس التي يتلقاها طلاب أقسام الدراما لتعليمهم الفارق بين الواقع والمشهد الدرامي، فمن ناحية؛ لدينا مصادفة غريبة، ومشكلة، وجار غامض. ومن ناحية أخرى، تماما كما في الواقع، لم أنجح في استخلاص الحكمة من الحادثة.
لكن ذلك جعلني أفكر في أنني لم ألتق مترجميني الآخرين أيضا، إن كلمي “مترجميني” – بضمير الملكية- ليست دقيقة هنا، فلنقل: الأشخاص الذين ترجموا عملي، ومعظمه من القصائد، إلى الفرنسية والألمانية واليونانية، كانت الإنجليزية، للغرابة، هي آخر لغة يترجم إليها عملي، لكنها هي “ما أحضرني إلى هنا” على حد قول السيدة ناتاشا (مديرة البرنامج الدولي للكتابة) حين التقينا في مكتبها منزل شامباو “لأننا لم نكن لنعرف عنك لولا العمل الذي قام به روبن”.
“آه، إذن لم يحضروني هنا لمجرد أنني أديب رائع” هكذا فكرت داخل عقلي، متذكرا مرة أخرى أهمية وغرابة هذه العملية التي لم نعد ننتبه إلى السحر الكامن فيها، سحر نقل المعاني من لغة إلى أخرى. وفي حالتي، استطاع هذا السحر أن ينقلني أنا نفسي عبر المحيط إلى هنا في آيوا. لكنه ككل سحر، يمكن أن يتخذ فجأة مسارات غريبة إذا لم تأخذ حذرك: في أحد الأيام، قرأت قصيدة لوركا الرائعة “مرثية لمصارع الثيران”مترجمة إلى العربية بواسطة شاعر عربي كبير، انزعجت كثيرا من الترجمة، لم يكن انزعاجي لأني أعرف الأسبانية، فأنا لا أعرفها، وإنما لأنني كنت أحفظ القصيدة من ترجمة أخرى، قام بها رجل لم يكن شاعرا ولا مترجما، بل روائي وضع داخل إحدى رواياته قصيدة لوركا نفسها بعد أن ترجمها بنفسه، لأن إحدى شخصيات الرواية كانت تحب القصيدة، كانت ترجمته ساحرة، رائعة، دفعتني دفعا إلى عالم الشاعر الإسباني العظيم، لكني الآن، بعد أن قرأت الترجمة الأخرى، المختلفة كثيرا، لم أعد أعرف أيها ينقل لوركا حقا، ثم فكرت، إن قصائد لوركا الغنائية، القريبة من الأرض ومن الناس، قد تكون أنسب إذا ما ترجمت إلى اللغة العامية المصرية، بدلا من العربية الفصحى، هكذا بدأت فورا في ترجمتها بنفسي، من الإسبانية؟ لا طبعا، فأنا لا أزال لا أعرفها، بل “ترجمتها” من العربية الفصحى إلى العامية! قلت لنفسي، ألم يقرأ معظم القراء العرب روايات ديستويفسكي عبر ترجمة من لغة وسيطة هي الفرنسية، وليس عن الروسية مباشرة؟ فلماذا لا أعتبر الفصحى الرسمية لغة وسيطة أيضا؟ لقد أحب بعض القراء هذه القصائد “المترجمة” إلى اللهجة المصرية، لكني توقفت بعد فترة قصيرة، إذ إنني لم أعد أعرف، بعد أن جعلت لوركا يعبر كل هذه الوسائط والبوابات، إذا ما كانت هذه الكلمات لا تزال للوركا أم أنها بدأت تصبح كلماتي.
لقد كنت أعاني بالفعل من نوع آخر من الترجمة، أسميته “الترجمة الداخلية”، فقد كتبت طوال حياتي الشعر بالفصحى وبالعامية المصرية، وفي بلادي عادة يختار الشاعر واحدة من الاثنتين، أما في حالتي، فقد نشرت أربعة دواوين بين “اللغتين” مناصفة، هكذا ظللت طويلا، “أترجم” القصيدة في داخلي قبل أن أكتبها، من العامية إلى الفصحى والعكس، لاختيار الجسد الأنسب لها، وحتى في تلك الرحلة الصغيرة بين اللغة وإحدى لهجاتها، أدركت مبكرا الحقيقة البسيطة والمذهلة؛ أنه لا وجود لما نسميه المترادفات، وأننا دائما، حتى لو كنا نترجم بأنفسنا قصائدنا الخاصة، فإننا سنفقد أشياء أثناء الترجمة.
**ترجمة عربية لورقة محمد خير خلال ندوة الترجمة في برنامج الكتابة الدولية في جامعة آيوا بالولايات المتحدة الأمريكية.