انتهت مؤخرًا أعمال المؤتمر الاقتصادي والذي امتد لأيام ثلاثة تناولت فيها جلسات المؤتمر محاور عدة من النقاش حول تعميق الصناعة، وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وإصلاح السياسات المالية والنقدية، وتوصيات لتطوير العديد من القطاعات الاقتصادية.
وفور انتهاء فعاليات المؤتمر يوم الثلاثاء، والذي جاءت في رأس توصياته ضرورة الإسراع في إتمام الاتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على القرض المنتظر، سرعان ما صدرت قرارات البنك المركزي صباح يوم الخميس 27 أكتوبر برفع أسعار الفائدة بمقدار 200 نقطة أساس أو بنسبة 2%، وبدأ التحول لسياسة سعر الصرف المرن، لتحدث عمليات تداول في البنوك يوم الخميس بأكثر من 10 أضعاف حجم التداول اليومي في الشهرين الماضيين، حتى وصل السعر الرسمي للدولار لـ 23 جنيه بنهاية يوم الخميس.
تحرك سعر الصرف باتجاه السعر المتوازن الذي تحدثت عنه كثير من تقارير الخبراء والمؤسسات مثل بنك أوف أميركا وبلومبيرغ وغولدمان ساكس، والتي كانت تقدر سعر الدولار أمام الجنيه عند حدود الـ23 و الـ24 جنيه، أصبح أمرًا واقعًا بالفعل، خاصة مع إعلان البنك المركزي التزامه هذه المرة بسياسة سعر الصرف المرن، وإن كان في ذات الوقت يتحدث محافظ البنك المركزي الجديد السيد حسن عبدالله عن تفعيل سوق المشتقات للعملة والعقود الآجلة، فيما يعني تحوط مستقبلي ضد تقلبات سعر الصرف، وهو ما قد يخلق توازن هام، لا يجعل العملة معرضة للمضاربات المنفلتة.
هذه الإجراءات النقدية ببساطة مفادها هو انخفاض “جديد” في قيمة العملة الوطنية يتخطى الـ16% من جهة، ومن جهة أخرى فإن ارتفاع معدلات الفائدة يعني العودة من جديد لسياسة جذب الاستثمارات “غير المباشرة” والأموال الساخنة، في ظل ارتفاع أسعار الفائدة مرة أخرى وانخفاض قيمة العملة، بما يمثل من وجهة نظر صناع السياسة النقدية في مصر فرصة لإنعاش سوق المال، وعودة التمويلات الدولارية السريعة عن طريق هذه الإغراءات المقدمة للمضاربين والمتداولين، وذلك بالرغم من استمرار التوقعات حول استمرار سياسة التشديد النقدي التي تنتهجها الكثير من البنوك المركزية العالمية، على رأسهم الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي، والتي تصبح عائقًا ومنافسًا أمام عودة الأموال الساخنة كما كانت سابقًا.
في ذات السياق أصدرت البنوك الوطنية شهادات ادخار جديدة بفوائد مرتفعة وصلت لـ 17.25% لمدة 3 سنوات، في إطار سعي البنك المركزي لاستهداف ما يراه من سيولة مالية زائدة في الأسواق لكبح جماح التضخم، وهي المرة الثانية هذا العام التي تصدر فيها البنوك الوطنية شهادات ادخار ذات عائد مرتفع بعد شهادات الـ 18٪ لمدة عام واحد، التي أطلقتها بنوك مصر والأهلي في شهر مارس الماضي، وتمكنت من جمع حوالي 750 مليار جنيه، غالبيتها كانت ودائع من القطاع البنكي بالفعل، وشهدت البنوك موجة كسر ودائع كبيرة لتحويلها للشهادة ذات الـ 18%.
لكن المثير للتأمل والتساؤل حول سياسة رفع الفائدة في هذا التوقيت، هو إدراك جميع الخبراء وأصحاب الأعمال وصناع القرار الاقتصادي في الدولة، للمخاطر التي نجمت عن زيادة الاعتماد على جاذبية السوق المصري للأموال الساخنة والتي سرعان ما وجهت ضربة للاقتصاد الوطني بخروج 22 مليار دولار منها دفعة واحدة أضرت كثيرًا بالسيولة النقدية من الدولار، وذلك باعتراف وزير المالية محمد معيط بنفسه، وبالتالي لماذا يبدو أننا نعيد الكرة مرة أخرى بالاعتماد على الديون قصيرة الأجل لتسديد الالتزامات الخارجية الطارئة؟
والأهم هو مدى تحمل الخزانة العامة للدولة لمزيد من تكلفة الاقتراض قصير الأجل بأدوات الدين المختلفة، بالإضافة لأسعار الفائدة التي مع كل ارتفاع لها تزيد من حجم المطلوب للسداد في الموازنة العامة للدولة لبند الفوائد تحديدًا، مع الوضع في الاعتبار بأن هذا البند ارتفع ضمنيًا بانخفاض قيمة العملة، وبالتالي قد نشهد مع الحساب الختامي للموازنة ارتفاع في إجمالي فوائد وأقساط القروض بما يتخطى النسبة الحالية 54٪، وهو ما يؤكد ضرورة المراجعة الجادة لسياسات الاستدانة، عبر التزام الحكومة ببرنامج لخفض الدين العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، وضرورة تراجع نسبة الفوائد وأقساط القروض من الموازنة العامة للحد الذي يسمح بوجود تمويلات كافية للخدمات العامة، مع الوضع في الاعتبار بأن قرض الصندوق هذه المرة بـ 3 مليار دولار فقط، يقل بكثير عن حجم التمويلات التي حصلت عليها مصر سابقًا بـ 12 مليار دولار في عام 2016، أو بـ8 مليار دولار في عام 2020 لمواجهة جائحة كورونا، كانت تلك القروض تسد الفجوة التمويلية بالكامل، لكن هذه المرة فالحكومة مطالبة بالعديد من السياسات والأدوات المختلفة لسداد الفجوة التمويلية، مع ضرورة الإصلاحات الهيكلية.
الأمر الثاني هو استمرار تصور البعض بأن أزمة التضخم في مصر يمكن تفسيرها بالنظرية الكلاسيكية، باعتبار أن التضخم مدفوع بزيادة الطلب على السلع نتيجة السيولة النقدية الزائدة ما يؤدي لارتفاع الأسعار، وبالتالي فإن الحل البديهي هو رفع أسعار الفائدة لتقليل حجم الإنفاق وامتصاص السيولة من الأسواق.
لكن في الحالة المصرية الحالية فإن أزمة التضخم ناشئة بالأساس لوجود خلل في جانب العرض، عبر زيادة تكلفة مدخلات الإنتاج الصناعي وارتفاع أسعار الطاقة والشحن والنقل وانخفاض قيمة العملة وشح السيولة الدولارية، وارتفاع قيمة الدولار، وأزمة في إنتاج بعض السلع الغذائية عالميًا، وبالتالي فإن سياسة رفع الفائدة لن تؤثر بالضرورة في جانب الطلب، وهو ما يؤكده ارتفاع معدل التضخم على أساس سنوي في أغسطس الماضي بنسبة 15.3٪، في أعلى معدل له منذ 4 سنوات، وهو مرشح للزيادة خلال الأشهر المقبلة، وربما تكون الخطوة الذكية التي أعلنها البنك المركزي برفع الاحتياطي الإلزامي للبنوك أكثر نجاعة في سحب السيولة من الأسواق.
لذا فإن رفع الفائدة ربما يستهدف من وجهة نظر المركزي الحفاظ على قيمة العملة من النزيف المستمر أكثر من استهداف التضخم بشكل مباشر، خاصة مع التوجه المعلن حول مرونة سعر الصرف، والإعلان عن بدأ فك قيود الاستيراد والإفراج عن البضائع المكدسة بالموانئ، وإنهاء التعامل بالاعتمادات المستندية بشكل تدريجي، ومن ثم عودة النشاط الاستيرادي لطبيعته السابقة.
لكن أكثر ما يمكن فعله لاستهداف التضخم الهيكلي هو ضرورة تسهيل الأعمال وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة والمضي قدمًا في توطين الصناعة المحلية وتنمية الصادرات والسعي لتقليل وإحلال الواردات بقدر الإمكان، وهو ما يتناقض مع رفع أسعار الفائدة التي تزيد من تكلفة الائتمانات الموجهة للقطاع الخاص وبدأ الأعمال، ويزيد من صعوبة جذب الاستثمارات الأجنبية “المباشرة”، ولعل ما أعلنه رئيس الجمهورية بمنح الرخصة الذهبية لكل من يتقدم عليها لمدة ٣ شهور هي بادرة طيبة، وإن كان من الأفضل أن تكون حالة دائمة وليست استثنائية، لما يمكن أن تحققه سرعة إنهاء التراخيص وبدأ التشغيل من دفعة قوية ومحفزة للاستثمارات في مصر بشكل مستدام.
كذلك لابد من المضي الجاد في مراجعة الإنفاق الاستثماري العام، وسياسات تخارج الدولة من بعض القطاعات الاقتصادية، وتحديد أولويات الاستثمار، مصحوبة بجدول زمني لإنفاذ كافة التعديلات التشريعية المطلوبة لتحسين مناخ الأعمال، مع الاستمرار في مزيد من حزم الحماية الاجتماعية، وعدم المساهمة في زيادة التضخم بفرض رسوم جديدة أو أعباء إضافية على أسعار الطاقة والخدمات الحكومية، وإلا ستعاد الكرة مرة أخرى ونبحث من جديد عن مزيد من القروض والأموال الساخنة، مصحوبة بدعوات العناية الإلهية من تقلبات اقتصاد العالم حتى لا نتعرض لصدمات أكثر عنفًا.