بعيدا عن خريطة الاستقطابات السياسية في منطقة شرق البحر المتوسط، يمكن المجادلة بأن الاتفاق الذي وقعته تركيا مع حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا، في مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، يكتسب بعض الأهمية عند النظر إليه من زاوية أزمة الطاقة التي تواجهها الدول الغربية، وبالتحديد أزمة أسعار النفط، والبحث عن بدائل للغاز الروسي.
اقرأ أيضا.. مصر وتركيا.. “العقدة الليبية” لا توقف مسار استعادة العلاقات
الاتفاق وقع استنادا إلى مذكرة التفاهم الموقعة في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 بين الطرفين بشأن الصلاحيات البحرية بينهما في البحر المتوسط. كما يمكن اعتبار الاتفاق الجديد مذكرة تفاهم تسمح لتركيا بالتنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية الليبية. ما أثار اعتراض أطراف داخلية وخارجية عدة، انطلاقا من الموقف العدائي لهذه الأطراف تجاه حكومة عبد الحميد الدبيبة (المنتهية ولايته) أو الموقف من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
الاتفاق يسمح لتركيا بالتنقيب عن النفط والغاز في المياه الليبية الاقتصادية الخالصة، التي تم إعادة ترسميها باتفاق الطرفين في عام 2019.
دراسة جديدة من مركز الإمارات للدراسات السياسية في أبو ظبي، تلقي الضوء على الاتفاقية الأخيرة بين حكومة “الدبيبة” وأنقرة، في ظل أزمة الطاقة المستعرة حاليا في العالم، والمتفاقمة عقب الغزو الروسي لأوكرانيا فبراير/شباط الماضي.
النفط مقابل الدعم
الدراسة تشير أنه في ضوء استحكام الخلافات بين دول مجموعة “أوبك +”، وتحديدا روسيا والسعودية، من ناحية، وبين الدول المتضررة من ارتفاع أسعار النفط، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، من ناحية أخرى، فإن زيادة إنتاج النفط الليبي أحد الأدوات القليلة بالنسبة للدول المتضررة التي يمكن من خلالها كبح الزيادات السعرية الناتجة عن تخفيض مستوى الإنتاج. خاصة أن قرار “أوبك +” الأخير بخفض مستوى الإنتاج بمقدار 2 مليون برميل يوميا يبدأ تنفيذه خلال أيام من بداية نوفمبر/تشرين ثاني 2022، الأمر الذي يكاد يتسبب في أزمة بين واشنطن والرياض، وفق ما ظهر في التصريحات الحادة المتبادلة بين الطرفين.
ليبيا إذن أحد أهم الحلول التي يمكن لواشنطن الاعتماد عليها لمواجهة سياسة تخفيض الإنتاج على الجهة المقابلة. يأتي ذلك في ضوء الإعفاء الذي تتمتع به ليبيا من قيود الإنتاج التي تقررها مجموعة “أوبك +” وهو الإعفاء الهادف لتعويض الاقتصاد الليبي عن سنوات التراجع أو التوقف القهري في الإنتاج بسبب ظروف الحرب الأهلية التي اندلعت 2011.
القادة الليبيون يدركون أهمية هذا الدور جيدا، فعلى سبيل المثال، حثّ رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة دول “أوبك” في مارس/آذار الماضي على زيادة الإنتاج لمواجهة أزمة الطاقة. كما أعلن وضع حكومته خططا سريعة لزيادة الإنتاج والتصدير على المديين القصير والمتوسط. ويمثل هذا الموقف توجها معاكسا لتوجه “أوبك +”، بشكل قد لا يكون بعيدا عن رغبة “الدبيبة” في استمرار الدعم الأمريكي في مواجهة الأطراف الرافضة لاستمراره في السلطة.
عمليا وبينما كانت أسعار النفط العالمية تشهد ارتفاعا كبيرا هذا العام، شهد النفط الليبي زيادة كبيرة في مستوى الإنتاج، فبعد أن تدنى الإنتاج منتصف يونيو/حزيران الماضي إلى حوالي 100 ألف برميل يوميا فقط، في حالة عكست شلل القطاع النفطي الليبي، تجاوز هذا الإنتاج حاجز المليون و200 ألف برميل يوميا في أغسطس/آب. يأتي ذلك في ظل عزم المؤسسة الوطنية للنفط الوصول إلى معدل إنتاج مليوني برميل يوميا.
وفي هذا الإطار يمكن وضع خطوة الاتفاق الليبي التركي، الذي سينعكس بطبيعة الحال على معدلات الإنتاج اليومي لليبيا، في ضوء عدم وجود سقف محدد للإنتاج. والزيادة المرتقبة في الإنتاج النفطي الليبي قد لا تستغرق وقتا طويلا. فعلى سبيل المثال، صرّح وزير النفط الليبي محمد عون منتصف عام 2021 بأن الإنتاج الليبي من الممكن أن يصل إلى 1.6 مليون برميل يوميا بحلول منتصف 2022. كما أن الأمر يتوقف على وجود تمويل كافٍ، ما يعني وجود إمكانية لتحقيق زيادة سريعة في الإنتاج خلال أقل من عام إذا توفر التمويل اللازم. وعلى هذا النحو قد يمثل الاتفاق مع تركيا نافذة لتوفير التمويل المنشود لزيادة الإنتاج الليبي.
أوروبا والأهداف الأبعد
يكتسب الاتفاق الجديد أهمية كبيرة من منظور توجه الدول الأوروبية نحو وقف الاعتماد على الغاز الروسي بعد غزو الأراضي الأوكرانية. والبحث عن مصادر أخرى بديلة لإمداد تلك الدول باحتياجاتها من الغاز الطبيعي. إذ تعد ليبيا من المصادر المحتمل زيادة الاعتماد عليها كأحد مصادر الطاقة.
في الوقت الحالي، لا تصدر ليبيا إلى أوروبا سوى 24% من إنتاجها اليومي، وتذهب هذه الكمية المصدرة إلى إيطاليا؛ كما لا يسدّ الغاز الليبي إلا ما نسبته 15% من احتياجات إيطاليا. وبالمقارنة، فإن الصادرات الحالية لليبيا تعادل حوالي 3.3% فقط من الصادرات الروسية، و10% من الصادرات الجزائرية. ويتم التصدير من ليبيا إلى إيطاليا عبر أنبوب السيل الأخضر الممتد عبر البحر من مجمع مليتة النفطي قرب منطقة زوارة الليبية إلى الساحل الإيطالي. كما تبلغ الطاقة الاستيعابية القصوى للأنبوب حاليا 8 مليارات متر مكعب، ويجري التخطيط لرفعها إلى 11 مليار، في حين أن ليبيا لا تقوم بتصدير الغاز المسال الذي يُنقَل عبر السفن.
تشير هذه البيانات إلى أن ليبيا لا تمثل ثقلا كبيرا في تلبية الاحتياجات الأوروبية من الغاز، غير أن هناك نقطتين يمكن توضيحهما بخصوص أهمية الاتفاق:
أولا- انخفاض الصادرات الليبية لا يعني صعوبة تحوّلها إلى مصدر مهم لتصدير الغاز. حيث تحتل ليبيا المرتبة 21 عالميا في احتياطات الغاز الطبيعي. كما أن جميع الكميات المصدرة تُستَخرَج من حقول برية وبحرية تقع في غرب وجنوب غرب البلاد. ومن ثم فهي تقع بعيدة نسبيا عن مناطق سيطرة قوات المشير خليفة حفتر المناوئة لحكومة الدبيبة.
أما الغاز المستخرج من حقول المنطقة الشرقية فيذهب إلى الاستخدام المحلي. وكذلك الأمر بالنسبة للحقول التي سيجري استكشافها، حيث تقع أغلب المناطق الواعدة في المناطق البحرية الممتدة من طرابلس إلى زوارة، أي أقصى غرب الساحل الليبي، ما يجعلها بعيدة عن أي نفوذ عسكري محتمل للأطراف المعارضة للاتفاق.
ثانيا- الاتفاق قد لا يتعلق فقط بصادرات الغاز الليبي، إذ يبرز هنا الغاز النيجيري باعتباره مصدرا محتملا لتصدير الغاز إلى أوروبا عبر ليبيا. وهذا المشروع مطروح للدراسة منذ يونيو/حزيران الماضي. إذ يعد المسار الليبي أقصر بنحو ألف كيلومتر مقارنة بالأنبوب المار عبر الجزائر، الذي يقل بدوره عن الأنبوب المار عبر المغرب بنحو 1500 كيلومتر. وبعد دراسة، اُستُقرَّ على اتخاذ النيجر مسارا لعبور الأنبوب المزمع إنشائه بين نيجيريا وليبيا، حيث كان يجري المفاضلة بين كل من النيجر وتشاد.
وبحسب الدراسة يمكن النظر إلى التحرك التركي الأخير في إطار حسابات أنقرة إزاء الصراع حول الغاز في شرق المتوسط. حيث توجد مصلحة مشتركة لكل من موسكو وأنقرة في عدم تحوله إلى بديل للغاز الروسي. وهنا يمكن الإشارة إلى الاقتراح الذي قدمه “بوتين” لـ”أردوغان” في قمة أستانة، بأن تكون تركيا وسيطا لتصدير الغاز الروسي إلى أوروبا. وقد يكون العمل على هذا المقترح ورقة مساومة بالنسبة لـ”أردوغان” لضمان عدم تعطيل حلفاء موسكو المشروعات التركية للغاز في ليبيا.
تبريد الداخل
ورغم ما يمثله الاتفاق التركي الأخير مع حكومة “الدبيبة” في إطار الصراع الغربي الروسي، من نافذة لمعالجة التحديات التي يواجهها الغرب فيما يتعلق بأزمة الطاقة على وقع الصراع مع روسيا. غير أن اللافت هو ما يمثله الاتفاق من محطة اختبار حقيقية لجدية التوافقات التي جرى التوصل إليها في دولة الإمارات يوليو/تموز الماضي بين الأطراف الليبية المتحالفة مع كلٍّ من واشنطن وموسكو في ليبيا حول إدارة القطاع النفطي. والتي بموجبها تولى فرحات بن قدارة، المحسوب على حفتر (وموسكو بالتالي)، رئاسة المؤسسة الوطنية للنفط. مقابل استمرار الإنتاج والتصدير، والتي تصب عائداتها في المصرف المركزي الداعم للحكومة.
وفي حالة صمود الاتفاق الحالي وإنفاذه، فإن المغزى المباشر يتمثل في أولوية تجميد الصراع في ليبيا لدى الأطراف الدولية، ومنْع الانزلاق إلى حالة الحرب مجددا. ومن ثم عدم تحولها إلى ساحة مواجهة بين الدول الغربية وروسيا. ومن جهة أخرى، تظل أولوية توظيف الاستقرار النسبي في خدمة أجندة الطاقة الغربية عائقا أمام التوصل لتسوية شاملة في ليبيا، نظرا لما تتطلبه التسوية الشاملة من حسم ملفات يصعب حسمها اليوم بوسائل غير قهرية، لذا تظل التوافقات الجزئية هي السائدة في المرحلة الراهنة من الصراع، ومن بينها التشارك في إدارة ملف الطاقة.
معارضة مصرية/يونانية
من ناحية أخرى، وفي رد فعل فوري، أعلنت اليونان ومصر معارضتهما لأي نشاط في المناطق المتنازع عليها في شرق البحر المتوسط. كما أكدا أن الاتفاق التركي-الليبي مرفوض أيضا من البرلمان الليبي الذي يتخذ من شرق ليبيا مقرا له ويدعم إدارة بديلة.
ويأتي الرفض المصري/اليوناني المشترك من منظور أن البلدين (تركيا وليبيا) يؤكدان أنهما يتشاركان في حدود بحرية، وبالتالي يمكن لأحدهما التنقيب في المياه الاقتصادية الخالصة للبلد الأخرى، وهو ما ترفضه اليونان وقبرص وتنتقده مصر وإسرائيل.
ويأتي رد الفعل، عقب تصريحات وصفت بـ”المستفزة” لمولود جاويش أوغلو وزير الخارجية التركي، قال فيها: “لا يهمنا ما يفكرون فيه” ردا على سؤال حول رد فعل باقي دول شرق البحر المتوسط. كما أضاف أن “الدول الأخرى ليس لها الحق في التدخل”.
اليونان أشارت إلى الاتفاق بين أثينا والقاهرة في 2020 لتحديد منطقتيهما الاقتصاديتين الخالصتين في شرق البحر المتوسط. إذ قال دبلوماسيون يونانيون إن هذا الاتفاق ألغى فعليا اتفاق 2019 بين تركيا وليبيا.
وقالت وزارة الخارجية اليونانية في بيان لها: “أي إشارة أو تحرك لتطبيق المذكرة المذكورة سيكون بحكم الواقع غير شرعي، واعتمادا على حجمه، سيكون هناك رد فعل على المستوى الثنائي وفي الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي”.
وزارة الخارجية المصرية قالت إن وزير الخارجية سامح شكري تلقى اتصالا هاتفيا من نظيره اليوناني نيكوس دندياس، حيث بحثا تطورات الأوضاع في ليبيا. وشدد الجانبان على أن “حكومة الوحدة المنتهية ولايتها في طرابلس لا تملك صلاحية إبرام أية اتفاقات دولية أو مذكرات تفاهم”.
وتدعم أنقرة حكومة عبدالحميد الدبيبة المنتهية الولاية في مناطق غرب ليبيا. بينما تدعم مصر وعدد من الدول الأخرى في المنطقة منها الإمارات واليونان وقبرص، البرلمان الليبي بقيادة عقيلة صالح، وقوات الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، في الشرق الليبي.