“لن أحنى ظهري لأرض لا تأتي بالخير”.. عبارة يسمعها غالبية المزارعين المصريين من أبنائهم الذين يرفضون استكمال مهنة الأجداد في العناية بموروثهم، ويبحثون عن أرزقاهم في مهن أخرى تدر عائدا أفضل وفي مقدمتها قيادة مركبات التوكتوك التي غزت الريف المصري واحتلت شوارعه.

sss

أصبحت الزراعة المصرية مهنة “شائخة” حاليًا، وفي جولة سريعة في القرى لن تجد في الصباح الباكر سوى كبار السن الذين يحتضون زراعتهم بملابسهم التي تغير لونها من العرق وتراكم الأتربة، بعدما رفض غالبية أبنائهم ارتداء جلباب الأجداد في ظل انخفاض العائد من الأراضي، وبعضهم ينتظر الفرصة المواتية للتخلص منها والرحيل إلى مهن أخرى. 

ترتبط هجرة الفلاح المصري لأرضه بسلسلة من تجاهل وزارة الزراعة لعنائه أو الاستماع لمشكلاته، التي تفاقمت منذ تعويم الجنيه المصري فأصبح العائد الصافي من زراعة محصول يستغرق العناية به طوال أربعة أشهر لا يتعادى 3 آلاف جنيه.

لا يرمي الفلاح البذرة فتصبح نباتًا في اليوم التالي ولكنها تحتاج لخدمات يدفع ثمنها، من قوته فلابد من حرث الأرض أكثر من مرة وتنعميها بواسطة الجرارات، وريها بماكينات تعتمد على السولار وحتى حصاد يتطلب عمالة يستأجرها لمعاونته، وكلها خدمات ارتفعت أسعارها ما بين 3 وأربع مرات منذ التعويم.

يحتاج المحصول إلى تسميد مستمر يستنزف كثيرًا من جيوب البسطاء فشيكارة النترات (سماد كيماوي) يبلغ سعرها 230 جنيها، وشيكارة اليورويا لا تقل عن 260 جنيهاً، بجانب كميات من المبيدات الحشرية لمواجهة الآفات يتم رشها بواسطة مواتير يستأجرها المزارع أيضًا وأحيانا استئجار أفراد لـنزع الحشائش الضارة.

وتعرض مربو الثروة الحيوانية في الريف المصري لضربات عنيفة في ظل ارتفاع أسعار الأعلاف المستوردة والأدوية البيطرية غالية الثمن وقليلة الفعالية، في ظل غياب اشتراطات حفظها أو تعرضها للغش، ما يرفع أعباء تربية الماشية ويعرض بعضها للنفوق، والتي لا يمكنها في النهاية منافسة الاسعار الرخيصة للحوم الحمراء المجمدة التي امتلأت بها السوق المصرية خلال العامين الماضيين.

يقول عطية صلاح، مزارع من محافظة الغربية، إنه خسر جميع مدخراته بسبب تربية الماشية عندما قرر إنشاء مزرعة صغيرة لتربية العجول واشترى خمسة منها بسعر 17 ألفا على أمل تسمينها وإعادة بيعها بضعف سعرها، وبعد عامين من الإنفاق عليها امتلأت الأسواق باللحوم المجمدة واضطر لبيعها بسعر يتراوح بين 18 و19 ألفا للواحد فقط، ليخسر مشروعه قرابة العشرين ألف جنيه بجانب ضياع مجهود 24 شهرًا كاملة.

ويطالب حسين أبو صدام، نقيب الفلاحين، بمراجعة شاملة لعمليات الدعم التي لا يستفيد منها القطاع الزراعي ولا الفلاحين، والتي توزع كهدايا وهبات وتقديم دعم نقدي للفلاحين وإنشاء صندوق تكافل زراعي لتعويض الفلاحين عن الخسائر التي تلحق بهم  في الأزمات.

يؤكد أبو صدام أن المزارعين يشكون الخسائر المستمرة بسبب ارتفاع تكاليف الزراعة خاصة التقاوي فمصر تستورد 98% من احتياجتنا من تقاوي الخصروات من الخارج، مضيفًا أن وزارة الزراعة لم تطبق حتى الآن منظومة الزراعات التعاقدية رغم إقرارها منذ ست سنوات، كما لم تنهي حتى الآن مشروع الري الحقلي وأعمال الإصلاح الزراعي.

يبدو أن المياة الراكدة المتعلقة بأوضاع المزارعين في طريقها للتغيير، في خضم انتشار فيروس كورونا عالميًا، فالعملات لم تعد حاليا المحرك الرئيسي في الحصول على السلع ولكن الفائض منها، ما جعل الدولة المصرية بكامل أجهزتها تنقل دفة الاهتمام نحو المزارعين.

ودعا سيد سلطان، عضو لجنة الزراعة والرى والأمن الغذائى بمجلس النواب، الحكومة إلى منح المزارعين دعم مادي لتحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الزراعية، ودراسة جدية لمشكلات المزارعين والمواطنين المتعلقة بالزراعة والري والعمل على حلها فورًا.

ويقول أحمد مرعي، مزارع من الغربية، إن المشكلة الرئيسية هي ترك وزارة الزراعة الفلاح فريسة للتاجر الوسيط الذي يأكل عرق الفلاح ويضر بالمستهلكين، ويضرب المثل بمحصول البطاطس الذي يزرعه ويشتريه التاجر منه بسعر 2 جنيه للكيلو الواحد ليصل إلي محلات الخضروات، بسعر 7 جنيهات للكيلو والفارق يذهب للتجار.

ويضيف مرعي أن الأمر يتكرر ذاته في محاصيل مثل العنب التي تباع في أول الموسم بسعر 1.75 قرشا للكيلو ويصل السعر في المدن أحيانًا إلى 10 جنيهات، ويمكن للدولة التدخل وشراء المحصول وبيعه في منافذها الرئيسية لحماية الفلاح والمستهلك في الوقت ذاته.

على مصطبة (مبنى خرساني شبيه بالكنبة) يجلس مجموعة من المزارعين البسطاء أمام مسجد في إحدى قرى الغربية، رد جميعهم بعبارة واحدة حينما سألناهم عن الزراعة وأحوالها ليقولوا: “ماعدتش جايبة همها”، ليؤكدوا أن المزارع يعاني من مطالب الإنفاق على أبنائه في التعليم ودفع فواتير الكهرباء والمياة المرتفعة وأنابيب البوتاجاز وتجهيز بناته للزواج وكل تلك المطالب ودخله ثابت كما هو من عائد الأرض، ما يعني أن كل شيء يرتفع.

يقول أحمد موسى، المزارع الذي يبلغ من العمر ستين عامًا، إنه أولاده الثلاثة هجروا الزراعة وتفرقوا بسبب قلة عائدهم أحدهم باع لصالحه ثلاثة قراريط من الارض اشرتى بهم سيارة ميكروباص يعمل لها، والثاني يعمل “عامل نظافة” في فندق بالسعودية والثالث يقود توكتوك.

ربما تعيد كورونا الاعتبار للفلاح المصري، فالمخاوف من أزمة غذاء عالمية، والتأكيد الحكومي على أن الاحتياطي المصري من القمح يكفي أربعة أشهر فقط والباقي استيراد يدفع باتجاه واحد لا يقبل العودة “لابد من احترام جلباب الفلاح المتسخ”.