في الطابق الأعلى من البناية الحديثة التي شذّت عن النمط المعماري لمدينة الرباط المغربية، أعدت القاعة لاستقبال ممثلي أسواق المال من مختلف البلدان. كانت القاعة حارة رطبة، تكاد الرطوبة تلتهم الأوراق المتناثرة فوق منضدة دائرية تحلّق حولها عدد من أصحاب الياقات البيضاء، الذين بدت على قسمات وجوههم علامات الإجهاد والاحترار الشديد، وكأن موضوع النقاش قد بسط غيومه على الحاضرين، الذين تعلّقت أعينهم بشاشات العرض المطبوع فوقها صورة خضراء وعلامات ملوّنة ورقم واحد هو 1.5.
كان هذا الاجتماع قبل أسابيع من عقد قمة المناخ COP22 التي استضافتها المملكة المغربية في مراكش شهر نوفمبر من العام 2016. كانت بورصة الدار البيضاء هي الداعية له، وتمثّل الغرض الرئيس من الاجتماع في متابعة تعهدات الدول الأطراف التي أطلقها مؤتمر COP21 في باريس عام 2015 والتي كان على رأسها خفض احترار كوكب الأرض إلى 1.5 درجة مئوية فوق مستوياتها السابقة لإطلاق الثورة الصناعية (بدلاً من درجتين مئويتين)، وذلك عن طريق خفض الانبعاثات الكربونية بشكل ملحوظ، ومتابعة هذا الهدف بصورة سنوية حتى يتحقق الخفض المطلوب في درجات الحرارة لمنع ظاهرة التغير المناخي التي تهدد الكوكب كله.
كان على كل جهة أن تولي عنايتها بتحقيق ذلك الهدف، كل فيما يخصه. كانت أسواق المال والجهات الأممية المنظمة لأنشطتها مثل UNSSE (الأمم المتحدة لمجموعة البورصات المستدامة) أو مجموعة الاستدامة بالاتحاد العالمي للبورصات (التي كنت حينها نائباً لرئيسها)، معنية بتكثيف الجهود وراء فتح أبواب الاستثمار عبر أسواق المال لتمويل أهداف اتفاقية باريس. الأدوات والمنتجات المالية المتخصصة في تمويل أنشطة التحوّل الأخضر كانت على قمة أولويات هذا النوع من الاجتماعات. كنا نضع التصورات لتنظيم إصدار وتسويق وتداول السندات والصكوك الخضراء، ووضع المعايير المقبولة عالمياً لتصنيف تلك المنتجات تمهيداً لطرحها في الأسواق الأولية والثانوية، من أجل جمع الأموال اللازمة لخفض الانبعاثات الكربونية ومحاولة الوصول إلى نقطة التعادل الكربوني الذي تتساوى عنده الانبعاثات الجديدة مع تلك التي يتم التخلص منها.
الاجتماع المذكور كان واحداً من عشرات أو ربما المئات من الاجتماعات المماثلة التي نظمتها جهات مختلفة بعيداً عن الأضواء وعدسات الكاميرات، بغرض التمهيد لقمة الأطراف بمراكش، بحيث لا تتحوّل أعمال القمة إلى مكلمات لا قيمة لها، بل عوضاً عن ذلك تركز أعمال القمة في جلساتها الختامية وورش الأعمال التي تعقد على هامشها على تطوير التزامات وتعهدات جديدة، وفق خارطة طريق واضحة. هي إذن أشبه بالاجتماعات الوزارية للمنظمات الدولية (كمنظمة أوبك) والتي تعكف على تسوية كافة الأمور العالقة وتمهيد الساحة أمام الدول الأطراف لوضع اللمسات النهائية دون تعقيد أو خلافات.
كان اجتماعنا في الرباط معنياً إذن بالدراسة العلمية الجادة لأسباب عجز أسواق المال عن اجتذاب نحو مئة مليار دولار تم التعهد بها في قمة الأطراف بباريس، وتعبئتها في منتجات خضراء تخدم الأهداف الأممية للقمة. كنا نظن حينها أن الازمة ليست في التمويل، لأن مائة مليار دولار كافية لتحقيق الأهداف، والأزمة تكمن فقط في كيفية تعبئتها بشكل صحيح. اليوم وبعد أن قدّرت تكلفة تحقيق هدف التعادل الصفري بما يزيد عن تريليون دولار سنوياً حتى عام 2030، صارت المشكلة أكثر تعقيداً، وصار على المجتمعين في قمة الأطراف COP27 بشرم الشيخ وما سيليها من قمم أن يبذلوا جهداً أكبر للتفكير في عقبة التمويل التي تعترض تحييد أو وقف وتيرة التغير المناخي.
في سبيل ذلك الغرض الأخير عملت على مدار العام الماضي كخبير تمويل لأحد المشروعات الممولة عبر مؤسسات دولية، لخدمة هدف تحوّل الطاقة في مصر. ولمست عن قرب العديد من الصعوبات المرتبطة بتمويل هذا الهدف، فضلاً عن نشر الوعي المرتبط به على مستوى المنتجين والمستهلكين للمنتجات كثيفة استخدام الطاقة.
وطوال كل السنوات الماضية حاولت من خلال مختلف المهام التي اضطلعت بها أن أحقق أهداف الاستدامة خاصة عندما توليت مسئولية رئاسة الشركة القابضة للصناعات المعدنية والتي تتبعها صناعات كثيفة الطاقة والانبعاثات الكربونية مثل الحديد والصلب والكوك والسبائك…
كان السعي متصلاً للتحوّل إلى مصادر طاقة مستدامة خضراء، لكن الإرادة الحقيقية لبلوغ تلك الغاية غالباً ما اصطدمت بجدار غياب الوعي البيئي وضعف الموارد الاقتصادية. لذا كان من الضروري الاشتباك في معركة الوعي بإعداد ونشر الأوراق العلمية والدراسات المتخصصة في هذا الفرع من العلوم. وقد كانت مراكز الفكر المختلفة حاضنة لتلك الأوراق والدراسات، وعملت على نشرها ومناقشتها في مؤتمرات عامة، على نحو متميز، لكنه افتقر إلى التنظيم الذي يمكن أن يجمع كل تلك الجهود تحت مظلة واحدة تخدم أهداف مؤتمر القمة الذي يعقد حالياً في شرم الشيخ.
أكتب هذه السطور وكنت أتمنى أن تساهم الجهود المختلفة والمعرفة المتراكمة في هذا المجال سواء تلك التي اجتمعت لي أو لغيري من الخبراء في إثراء فعاليات المؤتمر على النحو الذي تم في قمة مراكش عام 2016. فقد كانت الاجتماعات التحضيرية للمؤتمر شديدة التنظيم والإثمار، وقد توصّلنا في مجال عملنا إلى عدد من المخرجات الهامة والصيغ الملزمة لتعهدات باريس، حتى إن مشاركتنا في أعمال القمة نفسها كانت بمثابة المظهر الاحتفالي بتوقيع التعهدات، وتلخيص مئات الساعات المنفقة في الإعداد للمؤتمر في عدة دقائق على منصة الحديث في ورش العمل.
في شرم الشيخ لا يمكنني أن أجزم بغياب هذا النوع من التنسيق بشكل تام، لكنني أتحدث عن خبرة شخصية ربما لا ترقى إلى التعميم. فقد كانت مساهماتي في مجال الاستدامة على مدار أعوام غير مستغلة بشكل مناسب في فعاليات المؤتمر الذي تم دعوتي إليه متحدثاً في جلسة خاصة بتخليص صناعة الصلب من الكربون. وعلى الرغم من امتناني لصاحب الدعوة السيد وزير التجارة والصناعة، لكنني كنت أتمنى أن تعبأ في مجالي الطاقة والتمويل –مثلاً- أبرز الجهود المبذولة خلال العام الماضي (على الأقل) لتصبح متاحة على مائدة مناقشات قمة الأطراف بعيداً عن أية اعتبارات خاصة بالمجاملة. وقد كان لي ولغيري ممن غابت أسماؤهم عن المؤتمر إسهامات تستحق العرض.
شاركت متحدثاً في مؤتمري COP22 وCOP23 وورش العمل السابقة على المؤتمرين، ووقعت ممثلاً عن البورصة المصرية على تعهدات باريس COP21، وودت تقديم خلاصة تجربتي في تلك الفعاليات وغيرها من مهام ومسئوليات لخدمة أعمال قمة الأطراف بشرم الشيخ، بعيداً عن عدسات الكاميرات، بل وقبل أن تبدأ أعمال المؤتمر بوقت كاف.
أدعو الله أن تخرج القمة بأحسن وأبهى الصور، والحمد لله أن ما لا تدركه المؤتمرات يدركه القلم الذي مازال مداده يخط بما نحسبه خيراً لبلادنا وخدمة شعبنا.