تشهد جماعة الإخوان، التي تصنفها السلطات المصرية “تنظيمًا إرهابيًا”، صراعًا هو الأعنف منذ تأسيسها في عشرينيات القرن الماضي، بين مجموعتين تتنازعان السيطرة على مفاصل الجماعة واستثماراتها، ومراكز اتخاذ القرار. وهو صراع عززته وفاة القائم بأعمال المرشد إبراهيم منير، الذي غيبه الموت يوم الجمعة الماضي عن 87 عامًا.
اقرأ أيضًا: الإخوان.. تاريخهم وانهيارهم ومستقبلهم (ملف خاص)
بدايات الصراع الداخلي
هذا الصراع الداخلي في الجماعة بشكله الحالي بين ما يعرف بجبهة إسطنبول -يتزعمها الأمين العام السابق محمود حسين- وجبهة لندن، التي كان يتزعمها إبراهيم منير، انفجر عقب إلقاء أجهزة الأمن المصرية القبض على القائم بأعمال المرشد السابق محمود عزت في العام 2020.
كان وجود “عزت” خارج السجن في ذلك التوقيت بمثابة النواة الصلبة التي تحفظ الكتلة الحديدية للجماعة، فيما كان يعرف بالقيادة التاريخية، بعدما كان الصراع في وقت سابق، وبالتحديد خلال الفترة ما بين نهاية 2013 وحتى بداية 2017 ، يتمحور حول أدوات إدارة الأزمة مع الدولة، بين ميل ما عُرف وقتها بـ”القيادة الشبابية” إلى العنف، وسعى “القيادة التاريخية” إلى الالتزام بمبدأ السلمية لعدم خسارة الدعم الغربي.
خلال السنوات التي أعقبت الإطاحة بالجماعة من رئاسة مصر عام 2013، كان الغياب المفاجئ لرموز الجبهات المتصارعة، يتبعه تحولات في شكل الصراع. فمع مقتل عضو مكتب الإرشاد السابق محمد كمال الذي كان يقود ما يعرف بالجبهة الشبابية، وغيابه عن المشهد في الرابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2016 ، حُسم بدرجة كبيرة الصراع مع جبهة القيادة التاريخية، بعدما أعلنت المجموعة التي كانت تتخذ من كمال رمزًا لها، الانفصال رسميًا بعد مقتله، وتأسيس ما يُعرف بـ”المكتب العام للإخوان في مصر” في ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه، والذي بات أضعف أجنحة الصراع الإخوانية.
اقرأ أيضًا: قراءة في زيارة تميم لمصر: القاهرة توسع خياراتها الخليجية والطرفان يتجاوزان “الإخوان”
كذلك تبع غياب القائم بأعمال المرشد محمود عزت عن المشهد بعد إلقاء القبض عليه، أعنف موجات الانفجار الداخلي، والذي ضرب الكتلة الأكثر صلابة في الجماعة، بعدما ظلت لسنوات طويلة مسئولة عن اتخاذ القرار جنبًا إلى جنب.
أصبح السؤال هنا، هل تستمر العادة التي ترافق غياب الرموز القيادية بعدما غيب الموت إبراهيم منير القائم بأعمال المرشد، في وقت تتبادل فيه جبهتا لندن وإسطنبول، الإجراءات الإقصائية ضد بعضهما البعض، وفي ظل محاولات من كلا الجبهتين لحشد أكبر عدد من القيادات الفاعلة وذات الثقل والتاريخ على المستويين الداخلي والخارجي من أجل حسم الصراع؟
جبهة لندن والزايط
بعد ساعات قليلة من إعلان نبأ وفاة منير، قررت جبهته تعيين محيي الدين الزايط خلفًا له لحين الإعلان عمن سيقوم بعمل القائم بأعمال المرشد.
أعلنت الجبهة، عن تمسكها بقيادة الجماعة وإعادة بناء مؤسساتها. وأشارت -وفق بيان صحفي- إلى أن هذه المؤسسات “منعقدة” منذ الإعلان عن وفاة إبراهيم منير لترتيب الأمور، وستبقى منعقدة لحين الإعلان عمن سيكون نائب المرشد العام والقائم بعمله خلفًا لمنير.
ذكرت أن إبراهيم منير كان قد كلّف في حياته محيي الدين الزايط. وهو نائب لرئيس الهيئة التي تقوم بمهام مكتب الإرشاد، بمساعدته في ترتيب الأمور الإدارية.
الزايط بالنسبة لجبهة لندن هو أحد فرسان الرهان لكسب الصراع والمعركة الداخلية. فبخلاف عضويته في مجلس شورى الجماعة القديم، كان أحد المقربين من محمود عزت، ورجل الجماعة القوي خيرت الشاطر نائب المرشد.
ويحظى الزايط بثقة قواعد الجماعة وصفوفها في الداخل المصري، ولدى قيادات الجماعة المتواجدين في السجون. وهو ما يدحض ما يروجه محمود حسين متزعم جبهة إسطنبول بأن قيادات جبهة لندن لا يعلمون شيئًا عن إخوان الداخل في مصر، ولا يملكون أي تواصل معهم.
بين نفوذ “لندن” وقوة “إسطنبول”
أدركت جبهة لندن منذ بداية الصراع مع جبهة إسطنبول نقاط القوة التي يستند إليها متزعم تلك الجبهة محمود حسين. ومن بينها التفاف عدد من قيادات الجماعة التاريخيين وأعضاء مجلس الشورى الذين فروا هاربين خارج مصر حوله.
لذلك، عملت منذ اللحظة الأولى على استقطاب المؤثرين منهم، وبالفعل نجحت بعدما استطاعت كسب تبعية كل من الزايط وأحمد شوشة، أحد قيادات مجلس الشورى البارزين، والذي كانت تربطه علاقة وثيقة بخيرت الشاطر أيضًا.
أدركت جبهة لندن أهمية استمالة الغاضبين من الشباب وقواعد الجماعة الذين كثيرا ما طالبوا بمراجعات داخلية للوقوف على أسباب الخلل الذي أدى للإطاحة بالجماعة وتشريد أعضائها وسجن قياداتها. وهو المطلب الذي تتهرب منه قيادات الجماعة التاريخية تحت تبرير “المحنة وابتلاء أصحاب الدعوات، وأنه كلما زادت الابتلاءات يعني ذلك السير في الطريق الصحيح”.
اقرأ أيضًا: العلاقات “المصرية – التركية”.. إجراءات جديدة من جانب أنقرة بشأن ملف الإخوان
واتخذ منير قرارات وصفها مقربون من الجماعة بـ”المصيرية التي ليس لها سوابق”. وكان أهمها مراجعة وتقييم الأداء والسياسات للجماعة من بداية ثورة يناير حتى الفترة التي سبقت وفاته.
أجرى منير انتخابات جرى بموجبها تشكيل مجلس شورى جديد، استطاع أن يحشد خلاله 17 من أعضاء مجلس الشورى القدامى ممكن تمكنوا من الهروب من مصر في صفه، في مقابل 8 أعضاء موالين لجبهة إسطنبول. كما شكل لجنة تقوم بمهام مكتب الإرشاد مكونة من 16عضوًا، بعد أن ضم لها 3 من الشباب في محاولة لكسب تأييدهم.
ورغم الإجراءات التي نفذتها جبهة لندن لتجريد جبهة إسطنبول من عناصر قوتها إلا أن الأخيرة لا تزال بين يديها الورقة الأهم، والمتعلقة بالسيطرة على جانب كبير من استثمارات الجماعة وخزائن أموالها، والتي تمكنها من شراء ولاءات القيادات والسيطرة على قطاع كبير من الإخوان داخل مصر، عن طريق مبالغ الإعاشات والرواتب الشهرية المقدمة لأسر السجناء من أعضاء الجماعة وقياداتهم، بمن فيهم قيادات الصف الأول. وهو الكارت الذي لا يزال يحظى بتأثير فعال في الصراع.
أبرز المرشحين للمنصب
تنحصر المنافسة على خلافة منير حاليًا -حسب أحد المصادر المقربة من الجبهة- بين عدة أسماء، يأتي في مقدمتها نائب رئيس اللجنة المكلفة بمهام مكتب الإرشاد محيي الزايط. ويأتي خلفه حلمي الجزار، مسئول المكتب الإداري السابق لإخوان محافظة الجيزة، وكذلك أمين حزب الحرية والعدالة (المنحل) في الجيزة، الذي يحظى بشعبية واسعة بين شباب الجماعة، وأوصى مرشد الجماعة محمد بديع من محبسه، منذ نحو عامين، بمنحه مساحة أوسع في إدارة شؤون الجماعة، وهي الوصية التي نفذها منير بعد أن ضمه لتشكيل اللجنة القائمة بمهام مكتب الإرشاد.
كما يبرز في قائمة المرشحين لخلافة منير اثنان من قيادات الجماعة التاريخيين، هما محمد البحيري مسئول الجماعة في إفريقيا، ومحمد عبد المعطي الجزار أكبر أعضاء مجلس الشورى العام سنًا.
ورغم تردد اسم القيادي بالتنظيم الدولي للجماعة محمود الأبياري، أحد المقربين من القائم بالأعمال الراحل إبراهيم منير، إلا أن ملاحقته بعدم درايته بأوضاع إخوان مصر، وعدم تمتعه بثقة وشعبية قواعد الجماعة، سيجعل جبهة لندن تسقطه من حساباتها، حتى لا تمنح جبهة إسطنبول الفرصة للطعن فيها. ذلك رغم تمتعه بعلاقات قوية مع أذرع الجماعة في الخارج.
مستقبل الصراع
الجبهتان إذا تمتلكان مصادر تمويل معتبرة، واستثمارات قادرة على خدمة أهدافهما، ما يزيد صعوبة أن تحسم إحداهما الصراع لصالحها خلال فترة زمنية وجيز، وهذا يعني أن الجماعة خلال الفترة المقبلة ستكون بمثابة “البطة العرجاء”؛ لا تستطيع أن تتقدم إلى الأمام أو تتراجع إلى الخلف. إلا إذا حدث تغير جوهري مفاجئ بإطلاق سراح أحد قيادات الصف الأول “الوازنة”، أو بقبول أي من الجبهتين التصالح مع الأخرى. وهو الأمر المستبعد في ظل الاتهامات المتبادلة واستشعار القوة في مواجهة الآخر.
ففي حين تزعم جبهة لندن سيطرتها على 90% من قواعد الجماعة، ترى جبهة إسطنبول أنها تمتلك ميزة بسيطرتها على ملف إخوان الداخل المصري.
سبب آخر من أسباب عدم حسم الصراع الداخلي، ربما يكون حالة الحياد التي يتبناها الرعاة الدوليون للجماعة، وعلى رأسهم تركيا، التي تسمح للجبهتين بالحرية المطلقة في العمل “التنظيمي”، مشترطة عليهم -بحسب أحد المقربين في تركيا- عدم ممارسة أي أنشطة سياسية مناوئة لنظام الحكم في مصر. لكن في الوقت ذاته لم تحظر عليهم الاجتماع للتباحث في أي أمور تنظيمية.
ووفق مصدر مقرب من قيادات الجماعة، فإنه على عكس ما هو متعارف عليه بأن لندن هي مركز ثقل جبهة إبراهيم منير بحكم إقامته بها قبل أن يغيبه الموت، فإن إسطنبول هي المركز الرئيسي الذي تدير منه جبهة لندن الجماعة في الأقطار المختلفة، عبر ما يعرف بالمكتب الإداري للإخوان في إسطنبول، وفي المقابل تدير جبهة محمود حسين أيضًا شؤونها كلها من العاصمة التركية أيضًا.
أخيرًا، يمكن القول إن الحديث عن إمكانية تحول الجماعة إلى تيار فكري واندثار التنظيم ربما يكون مستبعدًا، لاعتبارات عدة، مرتبطة بمتغيرات خارجية، أهمها مواقف حلفاء الجماعة وداعميها، وأخرى داخلية، أبرزها منابع التمويل الموزعة ببين جبهتي الصراع. كما أن الحديث عن حسم قريب للصراع الداخلي في الجماعة يعد أمرًا بعيدًا في ظل امتلاك كلا الجبهتين الأدوات المالية والإعلامية التي تمكنهما من لعب أدوار وظيفية فقط.