مر يوم 11 نوفمبر، بعد أسابيع من الدعوات التي انتشرت بشكل كبير، ومن أجواء الترقب والمتابعة من جانب كثيرين، ومن أجواء التوتر والتشدد الأمني الذي بدا مبالغا فيه، مر اليوم كما كانت توقعات كثيرين بأنه سيكون يوما عاديا تماما، وإن كانت مشاهد اليوم وما قبله تستدعي التوقف أمامها، لا لليوم في ذاته، وإنما لما بعده.
أولا: أن موقف المصريين من التعامل مع تلك الدعوات، بدا نابعا من أمرين أساسيين: أولهما، أن تجربتي يناير ويونيو، وما ترتب عليهما بالنسبة لعموم المصريين، بعيدا عن الأهداف النبيلة، تجعل غالبية عظمى من المصريين بعيدين كل البعد عن تصور أن العودة للشارع قد تمثل مخرجا مما يعيشونه بقدر ما تمثل مجهولا جديدا قد لا يحتملون آثاره، وفى ظل وضع سياسي واقتصادي مختلف في كثير من تفاصيله وتشابكاته عما كان في لحظتي يناير ويونيو.
اقرأ أيضا.. من (عواجيز يناير) وأفتخر: الشارع ليس حلا
أما الأمر الثاني فهو أن تلك الدعوات كانت منسوبة بشكل واضح لشخصيات مقيمة بالخارج ومحسوبة بدرجة أو أخرى على جماعات الإسلام السياسي وحلفائها، كما لم يكن واضحا أي تصور سياسي أو عملي لما قد ينتج عن الاستجابة لتلك الدعوات.. وهو أمر يستحق هنا الإشارة بوضوح لأن أي فعل سياسي أو شعبي سيكون الإخوان وحلفاؤهم طرفا فيه لن يلقى أي قبول أو تجاوب من عموم المصريين.
ثانيا: أنه رغم موقف المصريين الذي يعبر عن وعي شعبي كثيرا ما لا ندرك أبعاده وتفاصيله وحساباته، إلا أنه في جانب منه دون شك أو إنكار ودون أن يكون ذلك محل إدانة، كان أيضا متأثرا بالخوف من القبضة الأمنية المتشددة والمتوسعة، والتي كانت ممارساتها في الميادين والشوارع في مناطق مختلفة من القاهرة وعدد من المحافظات جلية وواضحة، بهدف توجيه رسالة بالتعامل الأمني الشديد تجاه أي تفكير في التجاوب مع تلك الدعوات، وهو أداء إن كانت السلطة قد ترى أنه أنتج الهدف منه بمنع أي تفاعل في هذا اليوم مع الدعوات، رغم أن تقديرات الكثيرين كانت تشير لنفس النتيجة تقريبا بدون هذا الأداء الأمني، إلا أنه أيضا أداء يترك رواسب من الاحتقان لدى كل من تعرض له من ناحية، وفى الوعى العام من ناحية ثانية، والأهم أنه يقدم رسالة سلبية أيضا لا فقط على مستوى الأداء الأمني وآثاره، وإنما على مستوى علاقة هذه العودة السريعة لهذا النوع من الأداء بعد شهور قليلة من دعوات لحوار وطني وإصلاح سياسي وغيرها، وصحيح أن هذا النوع من الأداء الأمني قد يدفع كثيرين للتخوف وإيثار السلامة كما فعل أغلب المصريين بالبقاء في منازلهم في هذا اليوم، لكنه على مستوى الرسائل السياسية والصورة العامة بالغ السلبية، خاصة أن الخوف لم ولن يكون أبدا العامل الوحيد الذي يؤثر في الاتجاه العام لوعي المصريين، والسبب الأهم في عدم تجاوب المصريين مع تلك الدعوات لم يكن نابعا من هذا الخوف دون إنكار أثره بقدر، لكنه كان نابعا بالأساس من طبيعة الدعوة وتوقيتها ومن يقفون وراءها وما قد يترتب عليها من نتائج.
ثالثا: كعادة مثل تلك الدعوات راح عدد من المواطنين ضحية لها بالقبض عليهم وعرض أعداد منهم على النيابة وصدور قرارات بحبسهم احتياطيا، والبعض الآخر لا يزال مصيرهم غير واضح، وهو سلوك آخر استدعى مجددا التساؤلات حول مدى جدية الحديث والتوقعات حول مسار مختلف في أداء السلطة خلال المرحلة المقبلة، والتخفيف من قبضتها الأمنية لصالح انفتاح على السياسة والتعبير عن الرأي وغيره، خاصة أن كثيرا من هؤلاء الذين ألقى القبض عليهم خلال الفترة السابقة لم يكن لهم علاقة بالدعوة أو الدعاة، وإنما في كثير من الأحيان كان القبض عليهم يتم بسبب تفتيش هواتفهم في الشوارع والعثور على أي كتابات تعبر عن آراء مختلفة أو نقد للأوضاع الراهنة. ومن الواجب الآن، إذا كانت هناك جدية في نوايا استكمال المسار الذي أعلن عنه سابقا أن يتم الإفراج عن هؤلاء جميعا.
رابعا: أن ما جرى لا يعنى بأي حال -كي لا يتوهم أحد أمورا على غير حقيقتها- أن المصريين راضون وقانعون بالحال الذى يعيشونه، ولا يستطيع أحد أن ينكر أن غالبية المصريين يتعرضون لمعاناة يومية على مستوى معيشتهم وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، وأن استمرار ذلك سوف يراكم احتقانات سياسية واقتصادية واجتماعية، وأن الحلول الحقيقية ليست حلولا أمنية لتأكيد أن السلطة قوية ومستقرة أو لتخويف المصريين، وإنما البلد والشعب بحاجة لحلول سياسية تمكنهم من وجود أطر منظمة تعبر عن رؤاهم وأفكارهم ومصالحهم، وحلول اقتصادية تخفف من آثار معاناتهم اليومية، ومبادرات تحقق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية ولا تتوقف عند حدود حزم الحماية الاجتماعية.
خامسا: ربما يبدو واضحا للبعض الآن أن المواقف الرافضة والمختلفة مع دعوات 11 نوفمبر كانت تنطلق من أسباب ودوافع مختلفة أكثر إدراكا للوضع الحقيقي والداخلي في مصر، وأنها لم تكن رفضا للتعبير عن الرأي كما لم تكن رضا عن الوضع الراهن، وأنها لم تكن إدانة أو منعا لحق التظاهر السلمي كما لم تكن تأييدا أو دعما للسياسات الحالية، وإنما كانت حرصا على حياة عشرات ومئات ممن تم القبض عليهم على خلفية طبيعة الأداء الأمني الذي لم يتصور أحد أنه تغير في التعامل مع مثل تلك الدعوات، وكانت رفضا لمن وراء تلك الدعوات وأهدافهم وليس لمن تفاعلوا معها أو تصوروا أنها قد تنتج أثرا، وكانت خلافا مع تصور أن حلول مشكلات مصر وأوضاعها الراهنة قد يبدأ من الشارع فضلا عن كونه في هذا التوقيت وبهذه الطريقة ومن دعوات مشابهة لتلك.
سادسا: ليس أمام مصر حلول سوى انتهاج مسار مختلف عما هو قائم وسار طوال السنوات الماضية، مصر سلطة ومعارضة ومجتمع بحاجة لعقل سياسي، وبحاجة لأمل في المستقبل، وبحاجة لمناقشة حقيقية وجادة لمشكلاتها وأزماتها، وبحاجة لمساحة حقيقية من الحرية في التعبير عن الرأي لأن هذا في حد ذاته سبيل للتخفيف من الاحتقانات القائمة والمتراكمة، وبحاجة لفتح الأبواب أمام العمل السياسي المنظم السلمى، وبحاجة لإدراك أن للأداء الأمني حدوده ومساحاته التي لا يجوز أن تطول كل شيء لأنها لن تمثل حلا لكل الملفات والقضايا، بل قد تتسبب في تراكم المزيد من الغضب والكبت الذى سوف يمثل انفجاره تهديدا للجميع دون استثناء.
سابعا: الأيام والأسابيع القليلة المقبلة، سوف تكون دالة وحاسمة في تحديد ووضوح ما إذا كان ما جرى طوال الأسابيع الماضية سوف يقدم دروسا حقيقية وجادة لكل الأطراف لإدراك ما نحن بحاجة إليه فعلا وطنا وشعبا، سلطة ومعارضة، أم أن كل سيرى الأمور من زاويته فقط، ويتشبث بها، بما يعيدنا جميعا إلى المربع صفر الذي لم نكد نجاوزه سوى بأمتار قليلة للغاية.
الآن وفورا، وقت العقل السياسي، لحل كثير من الأزمات، والقفز فوق كثير من الحواجز وتجاوز الكثير من العقبات، والانتقال بخطوات أكثر تسارعا وجدية ووضوحا بمصر وشعبها عبر مسارات مختلفة إلى مربع آمن يمنح ويجدد الأمل في المستقبل.