“لجعل الزراعة مستدامة.. يجب أن يكون الفلاح قادرًا على جني الأرباح”.. تمثل تلك المقولة الخط العريض الذي يسير عليه مسئولو الزراعة في العالم، والتي يتم تجاهلها محليا حاليًا، بربط سعر توريد الفلاحين بعض المحاصيل الاستراتيجية بالسعر العالمي، رغم ارتفاع الأعباء والتكاليف واختلاف الظروف الإنتاجية.
تظهر تلك المشكلة جلية في محصول القطن الحالي بعد أن تم تقدير سعر قنطاره بـ 3 آلاف جنيه مقابل 5 آلاف جنيه العام الماضي. ليدور نقاش بين الفلاحين ونواب لجنة الزراعة في مجلس النواب المطالبين برفع سعر التوريد. بعدما زاد الفلاحون المساحات المزروعة. فيما يشير مسئولون حكوميون إلى تراجع أسعار القطن عالميا بفعل ارتفاع المعروض وانخفاض الطلب.
ارتفعت مساحات القطن المزروعة العام الحالي إلى 326.5 ألف فدان مقابل 233.5 ألف فدان السنة الماضية. وهو رقم أقل مما استهدفته الحكومة عند 412 ألف فدان. لكن في الوقت ذاته انخفضت كميات التوريد من المزارعين بسبب تدني السعر ورغبة في تحسنه مستقبلاً.
زيادة المحاصيل
علي زكي -مزارع من مركز شبين الكوم بالمنوفية- يقول إن الأسعار الجيدة العام الماضي أغرت المزارعين بزيادة الكميات المزروعة. والإنفاق على المحاصيل كما ينبغي. على أمل التعويض حال البيع لكن السعر الذي تم إعلانه لا يلبي نصف طموحات المزارعين.
“زكي” يقول إن التسعير يجب أن يراعي تكلفة الفدان التي تتراوح بين 14 و15 ألف جنيه. حال إذا كان المزارع هو صاحب الأرض،. وحال استئجارها ترتفع التكلفة لتتراوح بين 20 و21 ألف جنيه. موزعة بين إيجار وتقاوي وأسمدة ومبيدات ومياه وحرث وجمع.
ويقول إن إنتاجية الفدان تصل في المتوسط إلى 8.5 قنطار. وبسعر توريدها الذي يبلغ حاليا 3 آلاف جنيه للقنطار يصبح إجمالي البيع 25.5 ألف جنيه. ما يعني أن مكسب المزارع في 6 أشهر كاملة تمثل عمر المحصول يدور في فلك 4500 جنيه. أي ما يعادل شهريًا 750 جنيهًا.
محمد زكي -الذي زرع هو الآخر فدانين من القطن بالمنوفية. يُبدي ندمه على زراعته. ويؤكد أنه لن يكررها إلا حال وجود ضمانة حكومية بالتعاقد على الشراء بسعر معلن مسبقًا مثلما حدث في محاصيل القمح والذرة.
الفلاح والسعر العالمي
مشكلة القطن دفعت نواب لجنة الزراعة والري بمجلس النواب لانتقاد وزارة الزراعة لعدم توازن السعر مع الزيادة الكبيرة في أسعار مستلزمات الإنتاج. التي ضاعفت تكلفة المحصول. محذرين من أن عدم إرضاء المزارعين سينعكس بانخفاض الكميات المزروعة العام المقبل.
ويعيد النائب محمد الصمودي -عضو لجنة الزراعة- تأكيد ما تطرق إليه مزارعو القطن من ارتفاع إيجار الفدان -6 آلاف جنيه- وحرث الأرض وجمع المحصول يدويًا بالأنفار. والذي يصل إلى أكثر من 6000 جنيه للفدان الواحد. مع ارتفاع يومية العامل الزراعي إلى 70 جنيها.
ويشير النائب إلى مشكلة تصدير القطن كمادة خام للأسواق الأوروبية واستيراده مجددًا في صورة ملابس مرتفعة الثمن. وأشار إلى زيادة الصادرات المصرية من الأقطان العام الماضي كان يجب أن تؤدي لارتفاع مستوى دخل الفلاح وارتفاع تشغيل العمالة في المصانع المحلية. فيما اتسعت التجارة الداخلية والخارجية ومن ثم الميزان التجاري لبلدنا.
خلال العام الماضي حققت صادرات القطن أعلى مستوى لها منذ 7 سنوات بنحو 513 مليون دولار. مقارنة بـ377 مليونًا في 2019/2020. و502 مليون عام 2018/2019. و491 مليونًا في 2017/2018. و459 مليونًا في 2016/2017. و446 مليونًا في 2015/2016. و481 مليونًا في 2014/2015. و502 مليون عام 2013/2014.
لا للمقارنة
النقيب العام للفلاحين حسين أبو صدام يطالب بعدم مقارنة المزارعين السعر الحالي بالعام السابق. فـ2021 شهدت ارتفاعا كبيرا بالأسعار عالميًا عكس العام الحالي الذي تراجعت فيه الأسعار لاعتبارات تتعلق بالصناعة في الخارج وتحديات الطاقة.
يقول لـ”مصر 360″ إن تطبيق الزراعات التعاقديةووضع سعر ضمان لشراء الأقطان وحل أزمة تعثر تسويق الأقطان طويلة التيلة محليا. تمثل الحلول المطلوبة من الحكومة مع فتح أسواق للأقطان بالخارج تستوعب الإنتاج المصري. مطالًبا بأن يكون ملف القطن بكامله في يد وزارة الزراعة باعتبارها وزارة المنتجين وليس لوزارة قطاع الأعمال التي تمثل المصنعين والتجار.
وتطبق الدولة للعام الرابع على التوالي منظومة للقطن تعتمد على بيع الأقطان عبر نظام المزاد في أماكن للتجميع بكل مركز إداري بالمحافظات حسب المساحات المنزرعة. وتوفر هذه المراكز أكياس الجوت “الخيش” والخيوط القطنية للمزارعين لتعبئة الأقطان بها. بدلا من الخيوط البلاستيك التي تتداخل مع القطن وتقلل جودته. وتسليمها للمراكز مرة أخرى للمزايدة عليها بين شركات التجارة.
وأكدت الحكومة حينما استحدثت تلك المنظومة أنها تستهدف تنظيم وتحسين عملية تداول الأقطان والحفاظ على نظافتها وجودتها. وزيادة تنافسيتها عالميا. مع تحقيق أعلى عائد للمزارع مقابل أقطانه من خلال المزايدة.
لكن نقابة الفلاحين أبدت رفضها المزايدة لأنها تعتمد على “أنديكس A”. وهو متوسط أسعار الأقطان عالميا. مع هامش معين تحدده اللجنة المنوط بها تحديد سعر فتح المزادات، وهو يظلم المزارع لصالح التجار. عكس نظام تسعير القطن بمتوسط أسعار القطن البيما الأمريكي الأعلى سعرا مع سعر إنديكس A الأقل سعًرا.
السعر العادل
توسعت وزارة الزراعة كثيرا في الزراعات التعاقدية لتتضمن القمح والذرة والأرز. مع تحديد سعر التوريد قبلها من أجل إغراء المزارع بالتوريد. لكن ذلك لا يمنع من الجدل في كل محصول حول السعر العادل الذي يراعي التكلفة.
في محصول الأرز الحالي انتقد المزارعون قرار وزارة التموين بتنظيم الأرز الشعير بتحديد أسعار التوريد بواقع 6600 جنيه للطن رفيع الحبة. 6850 جنيهًا من الأرز العريض. وقالوا حينها إن سعر الطن في السوق 10 آلاف جنيه للطن الواحد. ما يؤدى لخسائر كبيرة لهم في المحصول الذي يفترض استمرار توريده حتى منتصف ديسمبر/كانون الأول المقبل.
وقد ألزم القرار المزارعين بتوريد 25٪ من إنتاج فدان الأرز في موسم الحصاد الجديد. بواقع طن أرز شعير واحد عن كل فدان. مع غرامة تصل إلى 10 آلاف جنيه عن الفدان الواحد حال عدم الالتزام بالتوريد والحرمان من زراعة الأرز نهائيا في العام التالي. كذلك الحرمان من الحصول على الأسمدة المدعمة لجميع الزراعات.
نقيب الفلاحين الزراعيين محمد عبد الستار قال في بيان حينها إن المزارع كان يفضل التعامل مع تجار الأرز على الحكومة. وذلك بسبب فرض الأخيرة سعرًا أقل من السوق. لكنها أجبرته حاليا على التوريد بسعر أقل بكثير من السعر العالمي الذي يناهز 350 دولارا للطن دون مصاريف الشحن.
أحمد موسى -مزارع من الغربية- يقول إن الحكومة يجب عليها مراعاة أن المزارع يعتمد على الأرض في الإنفاق على أسرته من تعليم وخدمات صحية. وهو مستهلك لا يعتمد على أرضه فقط في الغذاء. علاوة على أن المزارع لا يستفيد من العلاوات والمعاشات التي تقوم الدولة بزيادتها.
يضيف أن سعر الأرز لا يتماشى حاليا مع ارتفاع تكاليف الري لمحصول يحتاج إلى المياه بصورة مستمرة. بجانب التقاوي والأسمدة وتكاليف الشتل والحصاد. والخسائر التي تكبدها المزارع في الفدان الواحد بسبب فارق التكلفة والتوريد تصل إلى ألفي جنيه.
استحداث لجان للتسعير
تؤكد الدراسات أن المزارعين منذ فترة طويلة لا يحصلون بأي حال على أسعار مجزية لمنتجاتهم. والمستهلكون يدفعون ما يفوق المستويات العالية لما يشترونه. بما يعني وجود طرف ثالث هو المستفيد يتمثل في الحلقات التي تتضمنها السلاسل التسويقية للمنتجات أو بمعنى آخر الوسطاء.
يعتبر ضمان السعر عاملا أساسيا لتحفيز المزارعين على الانخراط في الزراعة التعاقدية. ويجب عند تحديده المعرفة الجيدة بتكاليف الإنتاج التي يتحملها المزارعون والعائد الذي يمكن تحقيقه من المنتجات الزراعية والجودة. من أجل الوصول لقيمة مضافة من تلك المحاصيل التي تمثل مواد خام للصناعة.
بحسب محمد عبد الستار -نقيب الفلاحين الزراعيين- فإن تكاليف الزراعة ارتفعت كثيرًا بعد تحرير أسعار الأسمدة والوقود. وهو أمر يحذر منه باحثون بمجال الزراعة. فالحرية الاقتصادية وآليات السوق وبرامج الإصلاح الاقتصادي لا تعني ترك الأوضاع التسويقية تسير تلقائيا وعدم قيام الدولة بملء الفراغ التنظيمي في العلاقة بين المنتج والمستهلك.
رغم الدعوات لنشر الزراعة التعاقدية بجميع المحاصيل لكنها تجد ممانعة من بعض الفئات ذات التأثير. والتي من صالحها استمرار الأوضاع القائمة وعدم المساس بها. خاصة كبار التجار والسماسرة وتجار التجزئة. كما أن الزراعة التعاقدية يجب أن تكون عملية مساومة بين طرفين وليس قرارا من طرف أقوى ضد طرف أضعف. وأن يتم تحديد الأسعار عبر لجنة فنية وربط السعر بتكلفة الإنتاج والدخل الناتج من الفدان وتكلفة الفرصة البديلة.
تجربة ناجحة للذُّرة
في محصول الذرة كانت العلاقة التعاقدية جيدة لجميع الأطراف. فحينما أعلنت وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي بدء تنفيذها تم الاتفاق مع اتحاد منتجي الدواجن وشركات إنتاج الأعلاف. مع وضع سعر ضمان 6000 جنيه كحد أدنى للطن. على أن يكون البيع بسعر السوق وقتها إذا كان في مصلحة الفلاح حتى يستفيد بأعلى الأسعار.
وجود سعر ضمان يضمن للفلاح حال انخفاض أسعار السوق التزام مصانع الأعلاف واتحاد الدواجن بالسعر المتفق عليه في التعاقد. وهو 6 آلاف جنيه. كما يلزم المشترين تحرير شيكات بنكية لضمان حصول المزارع على حقوقه.
لكن أحمد موسى -مزارع الغربية- يقول إن سعر القمح العام الحالي كان عادلاً بسبب ارتفاع أسعاره عالميًا. لكنه يخشى حال استقرار الوضع في أوكرانيا أن تفضل الدولة الاستيراد من الخارج على التوريد المحلي. باعتبار أن الاستيراد دائما ما يكون أرخص من القمح المحلي المحمل بتكاليف أعلى.
ووضعت الحكومة سعرًا استرشاديًا لإردب القمح قبل موسم الزراعة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي لتشجيع الفلاحين على زراعته عند ألف جنيه.
النماذج الدولية
تعتبر الأنظمة التعاقدية في الخارج هي الأنماط الأكثر انتشارًا. فالنموذج الصيني مثلا قريب من مصر فيما يتعلق بصغر مساحة الأراضي التي تملكها الأسرة الواحدة. والتي لا تتجاوز الفدان في الغالب. وتكاليف الزراعة المرتفعة لكن قطاعات الأعمال تدعم المزارعين للحد من تكاليف الإنتاج. الأمر الذي يشكل عاملا رئيسيا لجذبهم للزراعة التعاقدية. ويصل التعاون إلى شراء مدخلات الإنتاج مثل الأسمدة بكميات كبيرة وبسعر مخفض وبيعها للمزارعين بسعر أقل من السوق الحرة وتوفير القروض لهم.
في أوروبا ينشط ذلك النوع من التعاقدات. إذ تبلغ الزراعة التعاقدية في الألبان واللحوم في ألمانيا نحو 38% من إجمالي الإنتاج. وتتعاقد الشركات المنتجة على نحو 75% من الإنتاج الزراعي في روسيا وأوكرانيا وأرمينيا وجورجيا. أما التشيك وسلوفاكيا والمجر فيتراوح نظام التعاقدات فيها بين 60 و85%.
في الولايات المتحدة 90% من الإنتاج الداجني وزراعات الخضر وأكثر من نصف لحوم الأبقار تتم عبر النظام التعاقدي. وقد ارتفع الإنتاج الزراعي التعاقدي فيها من 12% عام 1969 إلى 40% عام 2000.
في الإمارات وضعت شركة للأغذية تابعة لصندوق أبوظبي برنامج مكافآت ثمار التشجيعية للمزارعين الذين يوردون منتجات مزارعهم إليها لزيادة العائد على الإنتاج الزراعي المحلي. حيث يقوم البرنامج على ضمان تحديد أسعار شراء ثابتة وأسبوعية لبعض المنتجات الزراعية على مدار الموسم. بالإضافة إلى منح للمزارعين مكافآت تشجيعية تحتسب كنقاط تراكمية لكل كيلو من الخضراوات والفواكه التي يتم توريدها من المزارع بشرط التزام تطبيق معايير البرنامج.
روشتة إصلاحية
يطالب الباحثون بضرورة مراجعة السياسات الزراعية المتعلقة بمحصولي القطن والأرز. خاصة التشريعات التي تخصص مساحات وأصناف القطن وطريقة تداوله. وعدم ترك تداول تجارة بذرة القطن للقطاع الخاص. والعمل على الاستقرار السعري لمحصول القطن من أجل استدامة المساحات والإنتاج والتصدير. فضلا عن تبني السياسة التعاقدية وإعلان أسعار الضمان للمزارعين قبل مواعيد الزراعة بوقت كافٍ حتى يتسنى للمزارع أن يستجيب لسياسة الدولة. كما يجب على وزارة الزراعة أن تنتبه في الزراعات التعاقدية إلى أن الإنتاج الزراعي أصبح نشاطا محفوفًا بأخطار متعددة كالطقس السيئ والآفات. ما يثقل كاهل المزارعین ويدفع بعضهم إلى العزوف عنه. بجانب وضع تأمين على المحاصيل لتشجيع الجيل الجديد من المزارعين للدخول في ذلك النوع من الاستثمار. خاصة أن أي كارثة مناخية قادرة على شل حركة الدخل الأسري لموسم كامل.