لم تكن ليلة 23 يوليو 1952 المرة الأولى التي حكم فيها العسكريون مصر حكما مُباشرا بدأ بالرئيس محمد نجيب ثم الرئيس عبد الناصر ثم الرئيس السادات. ثم الرئيس مبارك ثم الرئيس السيسي. وما زال القادم مطويا في مكنون الغيب لا يعلمه إلا الله. فالحقيقة أن حكم مصر الحديثة بدأ بالعسكريين ومعهم عرفت مصر أمرين متلازمين: الحداثة والثورة.
ففي ليلة 23 يوليو 1798 دخل الجنرال الأكبر نابليون بونابرت 1769 – 1821 القاهرة، في قوة غزو مسلح برا وبحرا تزيد على اثنين وثلاثين ألف جندي، يمثلون ما تمثله فرنسا في ذلك الوقت من تنوير ثم حداثة ثم ثورة ثم إمبراطورية استعمارية ذات طابع إجرامي تنافس امبراطوريات أوروبا وفي طليعتها الإمبراطورية البريطانية على النفوذ داخل أوروبا وعلى الاستعمار والنهب وسرقة وقتل وسفك دم الشعوب خارجها.
بونابرت حكم مصر، وهو معدود -في التاريخ- من رؤساء مصر، الذين نالوا موقع الرئاسة بالغزو والسلاح والقوة، ألغى نظام الحكم المملوكي – العثماني، وأسس منظومة حكم فرنسية احتلالية استعمارية بدأت به من لحظة دخوله القاهرة في 23 يوليو 1798 حتى لحظة مغادرته إلى فرنسا في 23 أغسطس 1799 بما يعني أن فترة حكمه -هو شخصيا- بلغت ثلاثة عشر شهرا، ثم أعقبه على الحكم الجنرال كليبر حتى مقتله في الرابع عشر من يونيو 1800، ثم أعقبه الجنرال مينو حتى استسلامه للقوات البريطانية – التركية في آخر يوم من أغسطس 1801. هؤلاء الجنرالات الثلاثة كانوا غزاة محاربين، كما كانوا حكاما سياسيين، يجسدون السيادة العليا في مصر، يجمعون كافة السلطات في أيديهم، ويتولون إدارة المرافق، ويجمعون الضرائب، ويسيطرون على الأمن الداخلي.
لم تكن مصر -قبل الفرنسيين- بعيدةً عن الحداثة، كان فيها حداثتها المنبثقة من سياقها، فيها مبادرات للاستقلال عن السلطنة العثمانية، فيها تطوير في الأزهر، فيها طبقة حضرية من الصناع والتجار في القاهرة والأقاليم، مصنوعاتها ومنتوجاتها تغزو أسواق العالم، وتجارتهم مع العالم ذات وزن يُحسب له كل حساب من قوى أوروبا البازغة، يشهد بذلك نابليون بونابرت ذاته في الفصل الأول من مذكراته الصادرة عن المركز القومي للترجمة عام 2019، ففي ص 50 من الفصل الأول يقول بونابرت “في عام 1775 أبرم المماليك معاهدة تجارية مع شركة الهند الانجليزية، ومنذ ذلك الوقت تعرضت الشركات الفرنسية للهوان وغرقت في الديون، وبناءً على شكاوى محكمة فرساي قام الباب العالي -أي السلطان العثماني- بإرسال قوة لتأديب المماليك بقيادة القبطان حسن باشا 1786، ولكن بعد الثورة الفرنسية 1789 عاد تعرض التجارة الفرنسية لسوء المعاملة من حكام مصر المماليك، وأعلن الباب العالي عدم قدرته على فعل أي شيء وأن البكوات المماليك رجال جشعون لا دين لهم ومتمردون” وبالطبع كانت هذه الحرب التجارية بين المماليك وبريطانيا من جهة والفرنسيين من جهة أخرى مؤشرا على اندماج مصر -عند نهاية القرن الثامن عشر- في الاقتصاد الرأسمالي قيد التشكل. وفي مقدمة المذكرات في ص 40.
يصف كاتب التقديم تييري لينتز THierry Lentz المماليك بقوله: “المماليك فرسان متألقون لكنهم غير مدربين على الحرب الحديثة”.
من هنا، من فكرة الحرب الحديثة، جاءت بذور الحداثة التي غرسها الفرنسيون في مصر، المماليك كانوا – لضرورات الصراع على السلطة فيما بينهم يتزودون بالسلاح الأوروبي الحديث، ولكن لم تكن لديهم فكرة عن تنظيم الجيش الحديث في إطار الدولة الحديثة. انقرض المماليك من التاريخ ثم انقرضت الدولة العثمانية من التاريخ إزاء عجز هؤلاء وأولئك عن التطور نحو جيوش حديثة في دولة حديثة. محمد علي باشا أخذ نصف الحداثة الفرنسية، أنشأ جيشا حديثا، لكن أنشأ معه دولة مملوكية – عثمانية جديدة تحت قناع الدولة الحديثة، جيش محمد علي باشا كان حديثا لكن دولته كانت قديمة في مضمونها ومحتواها وحديثة في شكلها وقناعها الخارجي. حداثة الجيش الفرنسي وحداثة الدولة الفرنسية سبقها قرنان من التحديث والتنوير السياسي والفكري والقانوني والعلمي، فعلى مدى القرنين السابع عشر والثامن عشر كانت فرنسا – الشعب والدولة – في تطور صاعد بلغ ذروته في الثورة ثم في اجتياحها لأوروبا. محمد علي باشا استطاع أن يستورد حداثة الجيش وما استلزمه من علوم ومعارف ومهن وصناعات لكنه لم يشغل باله بالحداثة ذاتها من حيث هي تحرير العقل البشري من التقليد ثم من حيث هي تحرير الدولة من سلطوية العصور الوسيطة ثم من حيث هي تحرير البشر من كل ما يقيد فرصهم في تطوير حياتهم بدءا من الاعتراف لهم بحقوق الملكية والتصرف إلى حقوق الحياة وتقرير مصائرهم الفردية والجماعية، حداثة محمد علي باشا وقفت عند تزود سلطة الدولة بأدوات القوة كي تتمكن من المزيد من قهر الشعب وتطويعه، حداثة محمد علي باشا نصف حداثة، فهي حررت الدولة من الضعف والترهل، لتزيد مما في يد الشعب من قيود وما في رجليه من أغلال. ومازالت حداثة الباشا هي المعمول بها حتى كتابة هذه السطور، فقد انتقلت هذه الحداثة المشوهة من الجنرال الأول نابليون بونابرت، إلى الضابط الألباني محمد علي باشا وسلالته، إلى الحكام من ضباط الجيش من 1952 حتى اليوم والغد. كل المماليك الجدد فهموا الدرس، فهموا لماذا انقرض المماليك القدامى، انقرضوا لأنهم رغم كونهم فرسانا متألقين إلا أنهم غير مدربين على الحرب الحديثة وغير منتظمين في جيوش حديثة، هذا هو الدرس الذي وعاه مؤسس المملوكية الجديدة محمد علي باشا ثم توارثه عنه الحكام الذين هم -بطبيعة المهنة- ضباط جيش من نجيب إلى السيسي. فالتحديث في الجيش كمدرسة حرب وكمؤسسة سيطرة وكسند حكم له الأولوية هو ولوازمه ثم بعد ذلك بمليون سطر وفي ذيل الصفحة يأتي كل تحديث في الدولة والمجتمع والفكر والتعليم والقانون والثقافة وهو -أي التحديث المدني- متروك للظروف والعشوائية والمصادفات.
محمد علي باشا -وذريته من بعده- هو الوريث الشرعي لحداثة نابليون بما أنها حداثة استعمارية تزيد من سطوة جهاز الحكم لتزيد من شقاء المحكومين، لم يلبث بونابرت في مصر أكثر من ثلاثة عشر شهرا، ولم تستمر منظومة حكمه أكثر من ثمانية وثلاثين شهرا، لكن بقيت الحداثة الفرنسية هي الرافد الأوروبي الأقوى في مصر على مدى القرن التاسع عشر، القانون الفرنسي، التعليم الفرنسي، الذوق الفرنسي، اللغة الفرنسية، ثم نافسهم الإنجليز في النصف الأول من القرن العشرين، ثم الأمريكان منذ ذلك التوقيت.
……………………
بين دخول نابليون القاهرة منتصرا في 23 يوليو 1798، ثم مغادرة نابليون بشخصه في 23 أغسطس 1799، ثم الاستسلام النهائي على يد مينو في 31 أغسطس 1801، ثم صعود محمد علي باشا إلى حكم مصر في 16 مايو 1805، فترة في عمر الزمن لا تكاد تُرى بالعين المجردة، لكنها فترة تأسيسية حاسمة في تاريخ مصر المعاصرة، ففيها تأكد زوال المماليك كقوة سياسية، وفيها تأكد أن زوال السلطنة العثمانية مسألة وقت ليس أكثر، وفيها تأكد أن مصلحة الإنجليز تقتضي أمرين : إخراج الفرنسيين من مصر ضرورة حتمية بأي ثمن، ثم احتلال بريطانيا لمصر ضرورة وجودية لا بديل عنها، وفيها تأكد الصراع بين فرنسا وبريطانيا على مصر طوال القرن التاسع عشر، وفي هذا الصراع تم استقطاب القوى المحلية ففريق من المماليك مع فرنسا وفريق مع بريطانيا وقد سبقهما إلى التدخل في الداخل المصري روسيا القيصرية في إطار صراعها مع السلطنة العثمانية ومن يومها ومصر -باستثناءات قليلة من تاريخها الحديث- فاقدة لشيء غير قليل من مناعتها الذاتية، هذا الضعف في المناعة الذاتية – بالمعنى السياسي – أهدر مناعتها الطبيعية كواحة خضراء ذات مناعة وحصانة بين البحرين والصحراوين، حتى قال نابليون بونابرت عن حصانتها الطبيعية في ص 67 من مذكراته التي سبقت الإشارة إليها” مصر واحة كبيرة تحيطها الصحراء من كل جانب، وليست في حاجة للدفاع عن حدودها بإقامة تحصينات، فالصحراوات تحل محل التحصينات.
فقدان مصر للمناعة الذاتية ضد الاختراق الأجنبي -بكل أشكاله- هو من ثوابت مصر الحديثة – من تدخل روسيا القيصرية لصالح علي بك الكبير 1728 – 1773، إلى تدخل فرنسا نابليون في تصعيد محمد علي باشا لحكم مصر ودعم حكمه بكل أشكال الدعم في الخفاء والعلن، إلى غض بريطانيا وأمريكا بصرهما عن خلع الملك على يد الضباط الأحرار 26 يوليو 1952 واعتبار الحدث الضخم مجرد شؤون داخلية مصرية.
هذه المناعة المفقودة من الداخل في مواجهة الخارج هي نتيجة التحديث المشوه من بونابرت إلى اليوم، تحديث مستورد، تحديث سطوة الدولة، تحديث أدوات القهر، وكل ذلك لا يوازيه تحديث متكافئ لما هو مدني وشعبي ولما هو لصيق بالناس ومعبر عنهم ومطور لهم كمصدر للسيادة التي تعلو فوق الحكام ولا يعلو الحكام فوقها.
سعد زغلول 1859 – 1927 كان أشد المصريين وعيا بهذا التحديث الظالم، ولهذا وقف ضده بعبارته القصيرة الموجزة البليغة -التي تلخص ألف كتاب- حين قال شعاره الخالد “الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة” وهي صيغة عبقرية معكوسة لما كان سائدا في الواقع، حيث كان جهاز الحكم يقف على أرضية القوة المجردة ثم هذه القوة المجردة تقف في جه الحق، وهذا الحق المستضعف هو حق الشعب سواء في الحرية التي يقيدها الحكام أو في الاستقلال الذي يقيده الغزاة، وهي الحقيقة التي كانت ومازالت قائمة وألخصها -بلغة سهلة- الحاكم الفرد المطلق فوق المؤسسات، ثم المؤسسات فوق الحكومة، ثم الحكومة فوق الدولة، ثم الدولة فوق الشعب، ثم الشعب مستبعد ومهمش فوق الرصيف.
عندما دخل نابليون بونابرت القاهرة في 23 يوليو 1798 كانت المناعة الذاتية لمصر عند الصفر، بصورة جعلت من الغزوة ليست أكثر من نزهة حربية، فلم تصمد دفاعات الاسكندرية، ولم يصمد المماليك في القاهرة، وهزم الأتراك في أبوقير البرية 25 يوليو 1799، ولولا أنه فشل في حصار عكا 17 مايو 1799 لما كان قد صادف ما يعكر صفوه الشخصي حتى قرر يغادر إلى فرنسا 23 أغسطس 1799.
وكان جدل التاريخ حاضرا، فمن هذا الضعف المناعي، حيث عجز المماليك عن صد بونابرت 1798 بينما كانوا قد نجحوا في صد لويس التاسع وهزموه وأخذوه ضمن أسرى الحرب 1250، من هذا الضعف انبثقت لحظتان: لحظة ميلاد الاستعمار الأوروبي الحديث في مصر، ثم اللحظة النقيضة لها، لحظة ميلاد المصريين كشعب حديث، شعب ابن لحظته وليس رهين تاريخه، شعب يريد أن يكون سيد نفسه لا رعيةً لسادته من المماليك والعثمانيين، ولا ينتقل رهينة لسادته الجدد من الفرنسيين،، في هذه اللحظة من التاريخ حمل المصريون السلاح فكانوا جنودا محاربين لنابليون الغازي المحارب، ثم رفعوا لواء الاحتجاج والمعارضة والغضب والرفض فكانوا مصريين ثوارا في وجه نابليون كجنرال حاكم ظالم في ثورة القاهرة الأولي أكتوبر 1798 ثم ثورة القاهرة الثانية في وجه خليفته كليبر بين مارس وابريل 1800، كانتا ثورتين في وجه حكم عسكري -بالمعنى السياسي- بالذات في الثورة الأولى حيث ضجت الناس من الضرائب وبالذات الضريبة العقارية ثم ضج الناس من لجوء سلاح المهندسين في الجيش الفرنسي لهدم البيوت وإزالة الأحياء من أجل المشاريع العمرانية والعسكرية التي خطط لها بونابرت وهو يعيد هندسة العاصمة. بينما شارك المماليك والأتراك في ثورة القاهرة الثانية فإن الثورة الأولى كانت مصرية محضة، عمت – مثل ثورة 1919م وثورة 25 يناير 2011 – القطر كله ولم تقتصر على العاصمة فقط كما قد يُفهم من الاسم، ثم هذه الثورة – القاهرة – كانت ذات طابع اقتصادي اجتماعي سياسي أي ثورة محكوم على حاكم وثورة شعب على سلطة وثورة متضررين على مظالم، كانت ثورة القاهرة الأولى البنت الشرعية للحداثة المصرية التي سبقت دخول نابليون ثم سبقت صعود محمد علي باشا، هذه الحداثة المصرية ترجمت نفسها في طبقة حضرية في العاصمة والأقاليم، طبقة يقودها الصناع والتجار، طبقة تضررت من سياسات نابليون الضرائبية والعمرانية، تضررت، فغضبت، ثم ثارت، ثم وقفت في وجه الجنرال الأكبر -الإمبراطور بعد ذلك- الذي كان يعتقد في نفسه أنه الإسكندر أو أنه قيصر.
عندما ثار الفرنسيون ثورتهم العظمى 1789 كان قد سبقها ومهد لها ما يزيد على قرنين من التحرير والتفكير والتحديث والتنوير، لكن عندما ثار المصريون ثورتهم ضد مظالم الجنرال الذي يحمل مشاعل الثورة الفرنسية كانوا -بالكاد- يتنفسون القليل من الحرية الناجمة عن تفكك سطوة العثمانيين والمماليك، لم يكن لدى ثوار القاهرة في وجه نابليون مثلما كان لدى ثوار باريس في وجه لويس السادس عشر 1754 – 1793 من تراث عميق من النهضة والتنوير قبل أن ينطلق فكر الاحتجاج والتثوير، ثورة باريس سبقها تمهيد طويل وتحضير على مدى قرنين، ثورة القاهرة كانت لحظة غضب وكرامة لم تستمر أكثر من ثمانية وأربعين ساعة لم يتورع نابليون -في قمعها- من ارتكاب ما لا حصر له من الموبقات والمجازر، فقد كشف عن أخلاق بربرية شديدة الانحطاط.
التحديث المهم الذي صنعه نابليون -ليس المطابع والعلماء الذين جاء بهم- فهؤلاء مثلهم مثل باقي فرق الجيش جزء من آلة غزو مقيت وعدوان بغيض، التحديث الأهم -دون قصد منه- هو ميلاد الشعب المحارب الذي لا ينتظر المماليك، ثم ميلاد الشعب الثائر الذي لا يسكت على جور الضرائب وهدم البيوت، قامت اللحظة الحداثية على هذين الروح: روح الحرب ثم روح الثورة. هذه الروح المحاربة أعاد محمد علي باشا الاستفادة منها لكن بطريقة قمعية وقسرية بتجنيد الفلاحين في جيشه النظامي من 1824 وما بعدها، ثم الروح الثورية تكفلت حداثة محمد علي باشا بقمعها فور أن أدت مهمتها التاريخية وجاءت به حاكما للبلاد.
…………………..
بين حكمه لمصر كرجل دولة حداثي مستنير، والثورة عليه كحاكم عسكري ظالم جائر، بين هذا وذاك، تتحدد اللحظة الأولى في مسار الحداثة المصرية المستوحاة من أوروبا، هذه اللحظة نصفها كيف كان يحكم؟ ونصفها الثاني كيف كانت ثورة المصريين على حكمه؟.
نابليون بونابرت في مصر بين الحكم والثورة، هذا هو مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.