لا يزال مدير تحرير صحيفة كبرى ينكر وجود فيروس كورونا حتى الآن، متمسكًا برواية تم تفنيدها أكثر من مرة تربط ما يعانيه العالم حاليًا بتسريب متعمد لغاز “السارين” السام، ولا يقتنع كثيرًا بتحاليل جينوم الفيروس، وآراء العلماء حول المرض، الذي ضرب 2.5 مليون نسمة حتى وقت كتابة هذه السطور.

sss

يقتنع، الرجل الذي أبيض شعره في القسم الثقافي، مئة بالمئة بأن اللوبي “الأمريكي الإسرائيلي” يقف وراء كورونا، وأنهما سيكتشفان علاج الفيروس قبل حلول شهر أكتوبر المقبل دون أسباب، مجرد خاطرة يرددها باستمرار، ولا يعترف ببقاء الملايين في المنازل ويعتبرها تمهيدًا لحرب قادمة فبعد كل وباء لابد من حرب، ولا يؤمن من الأساس أن الفيروس طبيعي، رغم عشرات الدراسات، فالأمر عنده مجرد “مؤامرة”.

لا يرتدي كمامة على وجه رغم استقلاله المترو يوميًا، ويشتري إفطاره اليومي من محل “فول وفلافل” لا يراعي الاشتراطات الصحية، ويعتقد بشدة أن حلول فصل الصيف سيقضي على الوباء رغم تأكيد منظمة الصحة العالمية في بيانات يقرأها الرجل يوميًا أنها تحد من انتشار الفيروس فقط، لكنه لا تمنع وجوده في درجة الحرارة المرتفعة.

قبل أيام امتلأت صفحات عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس بالجامعات المصرية بصورة من كتاب “أخبار الزمان” لابن سالوقيه، يحمل مقطعًا حول سنة 2020 يتحدث أنه إذا تساوى الرقمان (20=20)، وتفشى مرض الزمان، منع الحجيج، واختفى الضجيج، واجتاح الجراد، وتعب العباد، ومات ملك الروم، من مرضه الزؤوم، وخاف الأخ من أخيه، وكسدت الأسواق، وارتفعت الأثمان، فارتقبوا موت ثلث الناس، ويشيب الطفل منه الرأس”، الجيمع تداولها دون تحري عن الكتاب والكتاب الذي تبين أنه لم يولد على ظهر البشرية من حمل هذه الاسم وكان له نتاج أدبي.

ووفقًا للجنة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بمجلس النواب، فإن شهر مارس الماضي شهد تداول 16 ألف شائعة غالبيتها كانت حول كورونا سواء في أمور تتعلق بكيفية الإصابة بالفيروس أو طرق مقاومته، أو التشكيك فى أعداد المصابين من المواطنين أو بين الأطباء والممرضين.

تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن تفشّي فيروس كورونا رافقه “وباء معلوماتي”، بانتشار كمّ هائل من المعلومات على وسائل التواصل الاجتماعي، بعضها دقيق، والكثير منها غير صحيح إطلاقًا، وبسرعة تضاهي سرعة انتشار الفيروس نفسه، وتراوحت الأخبار الكاذبة والمضلّلة بين آراء حول كون هذا الفيروس سلاحًا بيولوجيًا من صنع الإنسان، مرورًا بإشاعات ومعلومات غير حقيقية عن التوصّل إلى علاجات فعّالة لهذا الوباء، ووصولاً إلى الادّعاء بأن عدد الوفيات قد بلغت 100 ألف في وقت لم يكن فيه الوفيات قد تجاوزت 8 آلاف.

المشكلة الأكثر حضورًا هي تنافر المعلومات الصادرة عن بعض قطاعات النخبة إزاء كورونا رغم كونها صادرة من شخص واحد، فرئيس مركز أبحاث شهير، يرى أن الفيروس صناعة صينية بهدف التأثير على أسعار الشركات الدولية وشراء مليارات الأسهم بسعر بخس، وفي الوقت ذاته يتناول مزاعم حول اختفاء 15 مليون صيني من شبكات الاتصالات.

اقرأ أيضا:

من ذاكرة التاريخ.. مشاهد من صراع مصر مع الأوبئة

ويبدو الفنان علي الحجار، مثال على ذلك، حينما أكد في تصريحات صحفية، أن كورونا هو تكسير عظام بين دول كبيرة من أجل سياسات واقتصاد وتجارة، وأن الدواء موجود وسينزل الأسواق لكن وقتما يرون الاستفادة التي يريدونها، ولا يوجد مانع من خسارة بعض الأشخاص لديهم.

يبدي الناقد الأدبي يسري عبد الغني، ملاحظته لتلك الظاهرة المتنامية في العقد الأخير، فبعض المثقفين أو من نطلق عليهم أهل النخبة، يأخذون ما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي كأمر مسلم به أو حقائق مجردة، دون أدنى تدقيق وتمحيص ونقد، بل أن الأدهى من ذلك تعميم هذه المنشورات بجهل وحمق بهدف السعي إلى الحصول على إعجاب تافه لا قيمة له.

وبدأت ظاهرة انسياق بعض المثقفين وراء الشائعات في التشكل منذ اندلاع ثورة 25 يناير 2011، حينها كان المثقفون منعزلون في مقاهيهم الثقافية يؤطرون لنظرية استتباب الوضع، فجأة وجدوا الشارع يموج بالتظاهرات المنادية للتغيير، واكتشفوا معها أنهم لم يعودوا قادرين على تحريك الجماهير الذين خضعوا لسيطرة نشطاء حقوقيين من الشباب، وبعض الفنانين المقربين من عقولهم.

مع محاولة البعض دراسة المشهد وتقييم أوضاعهم، فوجئوا بثورة جديدة ضد الحكم الديني في 30 يونيو 2013، استخدمت فيها نفس الوسائل التكنولوجية كمواقع التواصل الاجتماعي التي طالما هاجموها واعتبروها انعزالا اجتماعيًا عن حرارة اللقاءات الطبيعية، ليغير المثقفون وجهتهم نحو الهجرة الجماعية إلى مواقع التواصل الاجتماعي باحثين عبرها عن نقاط للتأثير.

يضيف عبدالغني أن المثقفين الذين ينقلون المعلومات باستمرار يتناسون أن دورهم الإرشاد والتوجيه والتنوير والمشاركة بالكلمة البناءة في الأزمات، وضرورة ترسيخ ثقافة الاختصاص، أي أن يتحدث كل شخص في تخصصه ولا يفتي في كل الأمور دون علم، ويرفع دائمًا شعارات حنجورية جوفاء.

ويقول الدكتور أحمد زايد، أستاذ علم الاجتماع، إن الشائعة لا يمكن عزلها عن خصائص المجتمعات، ففي الدول الغربية التي تمتلك درجات عالية من الشفافية والثقة وتتدفق فيها البيانات بشكل جيد لا تتداول فيها الشائعات بشكل كبير وحتى لو انتشرت تموت بمجرد نفيها، لكن دولة كمصر تسود فيها درجات عالية من الشك ومعدلات الثقة منخفضة على المستوى الافقي بين المواطنين بعضهم البعض وعلى المستوى الرأسي بينهم وبين الحكومة.

يضيف زايد أن المجتمع المصري يفتح ذراعيه للشائعات ويضيف عليها جوانب جديدة باستمرار يجعلها جاذبة للنقل، حتى أن بعض الشائعات تختلف في مرحلتها النهائية تماما عن الصورة التي ظهرت بها أول مرة، موضحا أن تداولها أحيانا يحمل منطلقات نفسية كعنصر يريح البشر عن التفكير في هموهم.

ووفًقا لدراسة لشركة “إبسوس لدراسات السوق” في يونيو 2019 على 25 ألف شخص في 24 دولة، حلّ المصريون في المركز الأول بقائمة الأكثر تصديقًا للأخبار الكاذبة على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وكثير منهم يعتبرونها مصدر صادقًا للأخبار.

ينخدع الكثيرون في كورونا لأنه يحمل في أحشائه جميع المقومات التي تجعل الشائعات بشأنه شديدة الانتشار، فانتشار أي شائعة يتطلب عنصران هما “أهمية الموضوع” و”مدى الغموض” وكلاهما يتوفران في فيروس يهدد حياة مليارات البشر وحتى الآن لا يعرف العلماء الكثير عن نشأته وطرق انتشاره.

تبدو المشكلة أكثر تعقًيدا مع صناعة الشائعات حول كورونا بقدر كبير من الحرفية بتضمين قدر من المعلومات الصحيحة لمنطقة الجزء الكبير من الكذب، أو إحاطتها بأمور خيالية تمتزج مع الحقيقة وصولاً إلى عدم القدرة على الفصل بينها، وتزيد أهمية الشائعة مع وجود كم كبير من الفراغات المعرفية إزاء قضية معينة فيسعى العقل إلى تقبل أي شيء يقدم له لإراحته من التفكير.

وتمثل أشهر الخرافات الشائعة حول كورنا التي انتشرت وأضاف إليها متداولوها أمورا جديدة بربط صيام رمضان بتعزيز فرص الإصابة بفيروس كورونا والتي رددها مثقفون مثل يوسف زيدان ودافع عنها، وبدأت في البداية كنصيحة لأصحاب المرض المزمن بإمكانية الإفطار، لكن تم تحويرها لتنطبق على الجميع بزعم أن الإبقاء على الحياة مقدم على العبادات.

تكرر الأمر ذاته مع الوصفات الطبية فقبل الزعم بوجود فوائد لأعشاب مثل الزنجبيل واليانسون وغيرها مع كورونا يتم ذكر قائمة طويلة بالفوائد الحقيقية لها والأمراض التي تساهم في مقاومتها، مع ربط المعلومة بأخبار عن اعتماد الصينين على الطب التقليدي في مواجهة المرض.

وبحسب دراسة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا قبل عامين، فإن الأخبار الكاذبة والإشاعات تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي أسرع بكثير من الأخبار الحقيقية، خاصة أنها تثير مشاعر الخوف والقلق وغلاف كبير من التشويق الذي يغير بمشاركتها مع الآخرين.

اقرأ أيضا:

يعانون من تكاليف الوقاية.. عمال النظافة أبطال منسيون في معركة كورونا

ويقول المهندس محمود عسكر، الذي أسس منصة إلكترونية كاملة تتعامل مع الشائعات حول كورونا باسم “فيروس ميتر”، إن معظم المعلومات التي يتم تداولها حول الفيروس مغلوطة ويشوبها قدر من التهويل والتهوين، مضيفا أن كل المعلومات المتعلقة بطرق العدوى غير صحيحة، وفي مقدمتها أن الفيروس يتطاير مسافة 5 أمتار فى الهواء، أو أن الزنجبيل بالليمون والعسل يقي من الإصابة.

يضع عسكر مجموعة من النصائح لكشف الأخبار الصحيحة من المكذوبة عبر ردها لأصلها فإذا كانت صحية ككورونا يتم الرجوع إلى منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة المصرية ووزارات الصحة على مستوى العالم، والتأكد باستمرار من معلومات الإصابات فى كل دولة على حدة، وكذلك عدد الوفيات، ونسبتها مقارنة بالإصابات وعدد المتعافين.

ولا يمكن عزل تداول بعض المثقفين الشائعات عن وجود تخوف دائم عندهم من الجديد، فالأمر شبيه بما حدث في الراديو حينما قال علماء إن الموجات تنشط الفيروسات عام 1913 وتردد الاتهام ذاته حاليا مع أبراج شبكات “الفايف جي” التي بدأت مخاوف تدور حولها بشأن كورونا أو اتهام بيل جيتس بالسعي لاستعباد البشر عبر كورونا.

ليست تلك الظاهرة مرتبطة بمصر فقط بل تحمل سمة عالمية فكلمات “مؤامرة + جيتس + كورونا” تم تناولها 1.2 مليون مرة على وسائل التواصل الاجتماعي في فبراير ومارس، وتكرر الأمر مع “5 جي” التي تم إقرانها بكورونا بمتوسط 18 ألف مرة في اليوم خلال شهر أبريل الجاري وفقا لدراسة أجرتها شركة زيجنال لابس المتخصصة في قياسات الرأي العام.

يبدو أن بعض المثقفين المصريين يرددون بعض الشائعات من وقت لآخر بصورة متعمدة، ربما خوفًا من فقدان رونقهم في خضم كورونا، مع التركيز على دور الجيوش البيضاء في المجابهة، وطالما أن الجميع يسعى للحصول على معلومات حول الفيروس، فلابد من التدخل والظهور في موقف العليم والمطلع والمتنبأ بالأمور حتى لو بأخبار مشكوك فيها أو منطقة بعض الأكاذيب، لحصد قدر من كمية الإعجابات التي تمنحهم راحة نفسية بقدرتهم على التأثير والنفوذ.

انحسار مساحة تأثير المثقفين المصريين ربما عبر عنه السيد نجم، أديب ونائب رئيس الهيئة الإدارية لاتحاد كتاب الانترنت العرب، دور المثقف في عهد كورونا بالقيام بالدور التوعوي لأقاربه وشبكة الجيران ومن يتصل بهم من الغرباء فقط دون التورط في نشر الشائعات، وألا يركز على الأحداث المقلقة رغم أنها حقيقية في بعض المناطق الأخرى في العالم.

يتوقع نجم، في تصريحات خاصة، أن تؤدي أزمة كورونا إلى تغيير في واقع المثقفين المصريين مع منح الثقافة الرقمية أولوية الاهتمام مستقبلاً، فكل ما طالب اتحاد كتاب الإنترنت العرب حول الإبداع الرقمي منذ 15 عامًا يشهده العالم العربي الآن من التحاور عبر الفيديو كونفرانس والتعليم عن البعد.

اقرأ أيضا:

أطفال الشوارع..  خطيئة مجتمعية تهدد بالانفجار