لا شك أن صدمة انسحاب الفنانة العالمية شاكيرا، في اللحظات الأخيرة، من المشاركة في حفل افتتاح مونديال 2022 الذي يفتتح يوم الأحد في قطر، لن يعوضها مشاركة فنان آخر، خاصة لو كان المشاركة البديلة تبدو “استنساخا” كما ظهر من لقطات بروفات الفنانة العربية ميريام فارس. ولن ننسى أن مطربة عالمية أخرى، هي الإنجليزية “دوا ليبا” كانت قد رفضت المشاركة في حفل المونديال، معلنة أنها “ستشجع إنجلترا من بعيد”، وأنها تتطلع يوما ما إلى زيارة الدوحة ولكن “بعد الوفاء بجميع التعهدات الحقوقية التي قطعتها قطر على نفسها عندما اختيرت لاستضافة للبطولة”.
اقرأ أيضا.. أذان زاهي حوّاس وسائحة الهرم
ربما أنت تعرف بالفعل أن المطربتين، شاكيرا الكولومبية من أصل لبناني، ودوا ليبا الإنجليزية من أصل ألباني، مجرد نموذجين على العديد ممن اختاروا مقاطعة مونديال قطر، البعض أعلن أسبابه السياسية/ الحقوقية، والبعض –مثل شاكيرا– اكتفى بالقول إن لديه “أسباب خاصة”، في المقابل، واجه المشاهير الذين اختاروا المشاركة في فعاليات المونديال الكثير من الانتقادات، أبرزهم نجم الكرة الإنجليزي السابق ديفيد بيكهام، الذي تعاقد مع قطر ليكون سفيرا لكأس العالم، وفق عقد قيمته ملايين الدولارات، والذي اضطرته الانتقادات للتعبير عن “قلق ساوره بخصوص المشجعين المثليين”، وإن كان – حسب قوله – يصدق التعهد القطري بأن الجميع سوف يكونون بأمان ومرحب بهم.
ربما تابعت أيضا تصريحات يورجن كلوب، المدير الفني الألماني الشهير لفريق ليفربول، الذي انتقد تركيز الصحافة على توجيه الأسئلة للاعبين حول المشاركة في المونديال، على خلفية ما أعلنته منظمات حقوقية عن انتهاك حقوق –ووفاة- آلاف العمال ممن شاركوا في بناء منشآت كأس العالم. انتقد كلوب الصحفيين معتبرا أنهم يختارون التوقيت الخطأ والأشخاص الخطأ لسؤالهم، فاللاعبين ليسوا هم من اختار بلد الاستضافة، كما أن هذا الاختيار تم منذ وقت طويل، والجميع يعلم –على حد قول كلوب– أنه في وقت الاختيار لم تكن كل تلك المنشآت موجودة بعد.
لكن ما قد يهمنا هنا، ليس استعراض جميع الانتقادات، والمقاطعات، غير المسبوقة تقريبا، بصدد مونديال هو في النهاية أول حدث من نوعه يقام في بلد عربي، وهو حدث –لا شك– أن منظميه سيبذلون أقصى جهدهم ليكون بالغ النجاح. وإنما السؤال هنا قد ينصب على رد أفعلنا، أو انطباعاتنا على تلك الانتقادات؛ يتسائل البعض: لماذا كل هذه الانتقادات لأول مونديال يقام في منطقتنا العربية؟ لماذا لم نسمع هذه الانتقادات حين استضافت روسيا -التي ليست واحة لحقوق الإنسان- المونديال الماضي قبل أربع سنوات؟
وتمتد ردود أفعال البعض لتصل إلى هجوم معاكس، يحاكم الغرب على انتهاكات حقوق الإنسان لديه، على العنصرية، بل حتى على جرائمه التاريخية، بأمل الوصول إلى خلاصة مفادها “لستم في موضع يسمح لكم بمحاكمتنا أو تقييمنا”. البعض الآخر، يختصر كل ذلك متسائلا: أين حديثكم الدائم عن “عدم تسييس الرياضة”؟ لماذا تخليتم عن هذا المفهوم الآن في مونديال “العرب” ومن قبل في حرب أوكرانيا؟
والواقع أنه ليس أسهل من الجدل ومقارعة الحجة بالحجة، ليس –كذلك– ما هو أسهل من إحساس المظلومية، والنظر إلى العالم من منظور “مؤامرته” علينا، أو رغبته في استضعافنا أو التعالي علينا. هناك أيضا من تشبث بآراء اعتبرها “منصفة”، كتصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للصحفيين بخصوص “خطورة تسييس الرياضة” واعتبارها “فكرة سيئة جدا”. حتى لو كان ماكرون نفسه، أحد أكثر من تم اتهامه بالنظرة الاستعلائية تجاه العالم الثالث وقارة أفريقيا وسكان “المستعمرات” الأوربية السابقة، ولهذا فإنه في تحذيره –في هذا السياق– من تسييس الرياضة، ووعده بالسفر إلى الدوحة في حال وصول المنتخب الفرنسي إلى كأس العالم، يدافع عن نفسه/ بلاده أيضا، فالتاريخ الفرنسي – وكثير من حاضره – لن يكون في موقف جيد إذا اختلطت الرياضة بالمواقف السياسية.
وبالطبع فإن المشكلة الأولى في اختلاط الرياضة بالسياسة هي أنه بينما تعتمد الرياضة على الأرقام والقوانين المحددة للألعاب، فإن السياسة هي في الأساس مسألة “مفهوم”. فما تعتبره أنت ظلما قد يعتبره خصومك عدلا، وما تراه حقا تاريخيا قد يراه الآخرون مجرد خرافة والعكس صحيح، وهذا في أبسط الأحوال، من دون التطرق حتى إلى البرجماتية كحجر الأساس في أي سياسة. ولهذا فإن من يفرح اليوم بقدرته على التعبير السياسي في مناسبة رياضية قد يندم غدا حين يصبح هذا الحق للجميع، وربما لهذا كانت معظم الانتقادات الموجهة لمونديال الدوحة انتقادات حقوقية لا سياسية، انتقادات تتعلق بحقوق العمال، والنساء، ومجتمعات المثليين، بل حتى حق المشجعين العاديين في ممارسة حياتهم وتناول “مشروباتهم” التي يفضلون من دون منع من السطات. ومن اللافت أن الغربيين الذين يعبرون عن احترامهم لـ “ثقافة الآخرين”، هم في كثير من الأحيان من المنتمين لحركات اليمين، فهم يفعلون ذلك من منطلق التعالي على هؤلاء الآخرين واعتبارهم إياهم “ثقافات متخلفة”، لا يناسبها ما يناسب إنسان العالم الأول، على العكس من الناشطين الحقوقيين الذين يعتقدون أن حقوق الإنسان ينبغي أن تكون واحدة في كل مكان.
لكن كل ما سبق لا يكفي للإجابة على السؤال: لماذا طالت كل هذه الانتقادات هذه المرة المونديال الذي يقام لأول مرة في المنطقة العربية؟ أو بصورة أدق، لماذا كان هذا المونديال متاحا للإصابة بكل هذه السهام؟ هل تكمن الإجابة في أن مجتمعاتنا أشبه بوعاء تجمعت فيه معًا كل ما يعتبره العالم المعاصر عيوبا؟ فإن كنت تبحث عن الحكم الشمولي وجدته هنا، وعن انتقاص حقوق النساء وجدته كذلك، وكذلك حقوق الأقليات، والعمال، حريات التعبير والفنون، الحريات الاجتماعية في أبسط أحوالها، وبالطبع فيما يخص حقوق المثليين ومجتمعات الميم فحدث ولا حرج.
في فيلم “عمارة يعقوبيان” يقول رجل السلطة كمال الفولي” خالد صالح” لرجل الأعمال الحاج عزام” نور الشريف”: “كل حتة في راسك فيها بطحة”. ربما لهذا، لأن كل بلد في العالم يعاني من بعض المشكلات، بينما تعاني بلداننا من اجتماع المشكلات جميعا، كان سهلا للجميع، أن يخبطونا على الرأس.