في 31 أكتوبر/ تشرين الأول، أنهى العماد ميشال عون فترة ولايته كرئيس للبنان دون اختيار أي بديل. مرة أخرى، يعود البلد الغارق في الأزمات السياسية والاقتصادية إلى فراغ حكومي، يراه عدد من المحللين أكثر خطورة مما كان عليه في الماضي، لأن الحكومة الحالية حكومة انتقالية.
وبينما يجعل التكوين الحالي لمجلس النواب -المسؤول عن اختيار الرئيس- والخلافات الداخلية بين أعضائه من الصعب الاتفاق على مرشح لمنصب الرئيس. يحاول حزب الله الترويج لسليمان فرنجية كمرشح، وفي نفس الوقت يعيق اختيار الآخرين.
تشير أورنا مزراحي، الباحثة في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي INSS، والضابط المتقاعد بالمؤسسة العسكرية. إلى أن هذا الوضع -إذا استمر- سيزيد من تفاقم أزمة دولة لبنان الفاشلة. محذرة من أنه، على المدى الطويل، من المحتمل أن يكون للفوضى في لبنان آثار سلبية على الدولة العبرية.
تقول: ليست هذه هي المرة الأولى التي يفتقر فيها لبنان إلى رئيس. كان أبرز هذه الأزمات هي الفجوة التي امتدت لأكثر من عامين بين نهاية ولاية ميشال سليمان في مايو/ أيار 2014، وبداية ولاية عون في أكتوبر/ تشرين الأول 2016. ومع ذلك، فإن عدم وجود رئيس الآن يخلق صعوبات أكثر خطورة.
اقرأ أيضا: حزب الله يكسب معركة الدعاية في كاريش.. فهل ربح لبنان الغاز؟
ترجع الباحثة الإسرائيلية خطوة الوضع الحالي على بيروت لسببين. الأزمة الاقتصادية الحادة التي يواجهها لبنان، وهي الأسوأ في تاريخه. وحقيقة أن الحكومة الحالية، القائمة منذ انتخابات 15 مايو/ أيار 2022، هي حكومة انتقالية. بالنظر إلى عدم قدرة الفصائل السياسية الرئيسية على الاتفاق على كيفية تشكيل حكومة جديدة.
أزمة الرئيس
ترى أورنا أنه منذ حديث عون يوم انتهاء ولايته، كان واضحا أنه يتطلع إلى تعريف إرثه بأنه بناء. وشدد على تحقيق اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وحمل خصومه السياسيين مسؤولية محنة لبنان الحالية.
تقول: هاجم قادة النظام القضائي، لأنهم عملوا فقط من منطلق مصالحهم الشخصية وليس لصالح الشعب اللبناني، ودعا الى القضاء على الفساد. وادعى أنه يترك ورائه دولة تعرضت للنهب.
ومع ذلك، وفق تحليلها، فإن جهود عون لن تساعد على الأرجح في إصلاح صورته العامة في لبنان. حيث يُنظر إليه على أنه شخص ساهم في انهيار الدولة، ولم يكن فعالاً في تقديم الحلول، فضلاً عن أنه شخص فشل في تقديم المسؤولين عن الانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت في أغسطس/ آب 2020، إلى العدالة.
وأضافت: كما أن الجمهور اللبناني لا ينظر بلطف إلى الشرعية التي منحها عون لحزب الله. والتي اكتسبت قوة عسكرية وسياسية خلال فترة ولايته، وأصبحت عنصراً مركزياً في النظام اللبناني.
بينما ينص الدستور اللبناني على أنه في حالة عدم وجود رئيس، يتم تفويض سلطته للحكومة، ولكن بشكل محدود. فإنه -حتى الآن- كان من المعتاد أنه في حالة عدم وجود رئيس أن يتم اتخاذ قرارات الحكومة بالإجماع. لكن، هناك خلاف حول ما إذا كانت الحكومة الانتقالية الحالية برئاسة نجيب ميقاتي، والتي لم يوافق عليها رئيس الجمهورية والبرلمان، قادرة على شغل هذا الدور.
في اليوم السابق لانتهاء ولايته، ساهم الرئيس عون في الفوضى السياسية، عبر توقيعه على أمر بالموافقة على استقالة الحكومة الانتقالية. ترى المحللة الإسرائيلية أن ذلك “عكس مصلحته الشخصية ومصلحة حزبه في إضعاف مكانة ميقاتي، بعد أن فشل في الوصول لاتفاق معه حول تشكيل الحكومة الجديدة”.
إرث عون
رغم ما فعله عون، لكن ميقاتي نفسه استمر في دوره، وحظي بذلك بتأييد معظم الأحزاب، باستثناء التيار الوطني الحر المسيحي -المحسوب على عون وصهره جبران باسيل- بل، حتى حزب الله، نقل رسالة مفادها عدم رغبته في مقاطعة الحكومة المؤقتة، لكنه أكد أن هذه الحكومة لا تستطيع اتخاذ قرارات مهمة أو أحادية الجانب، ويجب أن تجتمع فقط في الحالات القصوى.
وفيما يتعلق بالانتقادات، دعا ميقاتي في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني البرلمان إلى التحرك بسرعة لتعيين رئيس جديد. وادعى أن الحكومة تفي بواجباتها بموجب القانون، وليس لديها نية لتولي صلاحيات غير مفوضة، في حين ذكر أن “هناك عناصر تحاول منع تعيين رئيس جديد”.
وبينما تقع مسؤولية اختيار رئيس جديد في لبنان على عاتق البرلمان، لكن تكوينه الحالي يجعل من الصعب بشكل خاص تحقيق أي اتفاق. فالمعسكر الذي يدعم حزب الله -تحالف 8 آذار- والذي أضعف في الانتخابات الأخيرة، يفتقر إلى الأغلبية اللازمة لاختيار مرشح نيابة عنه.
ويضم هذا المعسكر 60 عضوًا فقط في البرلمان. في حين أن أغلبية الثلثين -86 من أصل 128 نائبًا- مطلوبة لاختيار رئيس في الجولة الأولى من التصويت، تليها أغلبية بسيطة مكونة من 65 عضوًا في الجولة الثانية.
من ناحية أخرى، فإن المعارضة منقسمة بشدة. وتضم كتلتين مركزيتين، هما فلول تحالف 14 آذار المعارض لحزب الله وإرث عون، وما يسمى بـ “كتلة التغيير”، التي تضم شظايا من أحزاب مستقلة، غير تابعة لمعسكرات تقليدية.
اقرأ أيضا: كان ينقصه الكوليرا.. لبنان يواجه شبح الوباء
لوم الآخرين
حتى الآن، انعقد البرلمان اللبناني خمس مرات. بين 20 أكتوبر/ تشرين الأول، و10 نوفمبر/ تشرين الثاني، لاختيار رئيس، لكن بدون قرار. وهو ما يعيد إلى الأذهان أزمة ما قبل عون الذي تم اختياره بعد 45 جلسة للبرلمان.
حتى الآن، كان المرشح الرئيسي الذي تم التصويت عليه هو ميشال معوض -نجل الرئيس السابق رينيه معوض- المنتمي إلى كتلة معارضي حزب الله، والذي تزعم المنظمة أنه مدعوم من الولايات المتحدة. وفي الجلسة الخامسة، حظي معوض بتأييد 44 نائباً فقط، جميعهم من المعارضين لحزب الله. ولم يؤيده أعضاء كتلة التغيير، الذين يرونه سليل القيادة القديمة.
تقول أورنا: على أي حال، لدى حزب الله القدرة على تجنيد كتلة من ثلث أعضاء البرلمان. ومن المشكوك فيه أن تتمكن المعارضة المنقسمة من الوصول إلى توافق، وتحقيق انتخاب مرشح يتحدى ذلك التنظيم.
وبينما لم يتقدم حزب الله الذي يضم حركة أمل والتيار الوطني الحر -حتى الآن- بمرشح عن الحزب، بسبب خلافات داخلية. عمل ممثلوهما على إفشال الجلسات التي عُقدت حتى الآن، بالتصويت بأوراق اقتراع فارغة، أو بمقاطعة الجلسات في الجولة الثانية لمنع اكتمال النصاب. حيث يبدو -وفق أورنا- أن قيادة هذا المعسكر تود أولاً الاتفاق على مرشح، ثم العمل على ضمان اختياره، قبل عرض ترشيحه على البرلمان.
تلفت المحللة الإسرائيلية كذلك إلى أن الخلاف الأساسي بين الحزبين الشيعيين -حزب الله وحركة أمل- وشريكهما المسيحي التيار الوطني الحر.
تقول: اتفق الثنائي الشيعي بالفعل على المرشح الشاب سليمان فرنجية. وهو جزء من معسكر حزب الله، وعلى صلة وثيقة بالرئيس السوري بشار الأسد. يحاولون الآن إقناع جبران باسيل، رئيس التيار الوطني الحر -وهو نفسه مهتم بالدور- بدعم مرشحهم. كما أعلن رئيس الوزراء الانتقالي ميقاتي أنه يدعم فرنجية.
وتلفت إلى أنه أمام باسيل “فرصة ضئيلة” في أن يتم اختياره رئيسًا، نظرًا لصورته العامة السلبية، والعقوبات الأمريكية المفروضة عليه بسبب انتمائه إلى حزب الله.
تضيف: لهذا السبب، يلوم شركاء حزب الله الولايات المتحدة والسعودية لمنع اختيار الرئيس الجديد.
استمرار الشلل
في هذا الواقع، يتضح أن تركيبة مجلس النواب اللبناني، والخلافات بين الكتل وداخلها، من المرجح أن تشهد استمرار شلل النظام السياسي اللبناني لفترة طويلة.
تقول الباحثة الإسرائيلية: إن اختيار رئيس لن يحل مشاكل لبنان الصعبة، لكن الرئاسة الشاغرة ستجمد بالكامل عمليات صنع القرار في الدولة. سيخلق الشلل السياسي صعوبات إضافية على الطريق الطويل المتوقع لإعادة إعمار لبنان، ويمنع تقدم الإصلاحات التي أصر عليها صندوق النقد الدولي كشرط مسبق للمساعدات الغربية.
وتؤكد: يبدو أن الهروب الوحيد من هذا اللغز هو الاتفاق بين جميع المعسكرات على مرشح حل وسط، يحظى بالدعم المطلوب بموجب القانون. والمرشح الأساسي المذكور في هذا الصدد هو قائد الجيش اللبناني جوزيف عون، الذي لا تُعرف مواقفه السياسية، لكنه معروف بمقاربته البراجماتية لحزب الله.
بالنسبة لإسرائيل، التي لها مصلحة في الاستقرار الداخلي في لبنان، قد يكون للفراغ الحكومي في لبنان تداعيات عدة.
حسب أورنا، هناك سؤال مفتوح، هو هل سيختار حزب الله- في حال تفاقم الفوضى في لبنان- العمل ضد إسرائيل من أجل توسيع دعمه وتعزيز مكانته كمدافع عن لبنان، بينما يستمر في ركوب موجة ما تتنبأ به على أنه نجاحه في حمل إسرائيل على التنازل عن ترسيم الحدود البحرية؟
في هذه المرحلة، يبدو أنه من المرجح أن يتم الحفاظ على توازن الردع مع إسرائيل. بالنظر إلى أن حزب الله قد انجذب إلى القضايا اللبنانية الداخلية، وزيادة الانتقادات المحلية للمنظمة، هذان العاملان سيظلان قوة تقييدية لنشاطه ضد إسرائيل.
العامل الآخر الهام بالنسبة للدولة العبرية هو تنفيذ الاتفاقية البحرية “إذا احتاج لبنان إلى اتخاذ قرارات في هذا الشأن، فمن غير الواضح من، أو ما هو العنوان الذي يمكن التحدث إليه”.
ومع ذلك، نظرًا لأن الجمع له مصلحة مشتركة في الحفاظ على الاتفاقية. بما في ذلك رئيس مجلس النواب نبيه بري، ورئيس الوزراء الانتقالي ميقاتي، وحتى حزب الله. يبدو أنهم سيجدون حلاً، وسيعملون على مواصلة تنفيذ الاتفاقية.