تمثل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فئة واسعة من الحقوق الإنسانية التي يكفلها “العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية” وغيره من مواثيق حقوق الإنسان الدولية والإقليمية الملزمة قانونا. ولا تكاد توجد دولة في العالم ليست طرفا في وحدة على الأقل من المواثيق الملزمة قانونا التي تكفل هذه الحقوق، ومن بينها: الحق في العمل، وخاصةً الحق في شروط توظيف عادلة ونزيهة، والحماية من العمل القسري أو الإجباري، والحق في تشكيل نقابات والانضمام إليها.
اقرأ أيضا.. الجريمة الاقتصادية ودور الدولة
الحق في التعليم، بما في ذلك ضمان أن يكون التعليم في المرحلة الأولية إلزاميا وبالمجان، وأن يكون التعليم متاحا ومقبولا بشكل ملائم بالنسبة لكل فرد، الحقوق الثقافية للأقليات والسكان الأصليين، الحق في الحصول على أعلى مستوى يمكن بلوغه للصحة البدنية والعقلية، بما في ذلك الحق في التمتع بظروف معيشة صحية، والحق في الحصول على خدمات صحية ملائمة ومقبولة وذات مستوى.
وأيضا، الحق في الحصول على مأوى أو مسكن ملائم، بما في ذلك الحق في ضمان الملكية، والحماية من الإجلاء القسري، والحق في الحصول على مأوى صالح للسكن بتكاليف محتملة وفي موقع مناسب وأن يكون ملائما ثقافيا. الحق في الحصول على الغذاء، بما في ذلك الحق في التحرر من الجوع، والحق في الحصول في كل الأوقات على غذاء ملائم أو على سبل الحصول عليه. الحق في الحصول على المياه، ويعني الحق في الحصول على ما يكفي من المياه والمرافق الصحية، على أن تكون متاحة وميسرة (ماديا واقتصاديا) وآمنة، وكذلك الحق في البيئة الصحية السليمة.
لكن معظم تلك الاتفاقيات الدولية قد جأت بصيغة الكفالة (تكفل الدولة)، وهو ما يعني أن تسعى الدولة على تحقيق، دونما أي أي إلزام على عاتق الدولة بتحقيقه، وهذا ما جأت عليه الاتفاقيات والمواثيق الدولية لهاتين المجموعتين من الحقوق بصيغة مختلفة حين النص على كل منهما، فتجد عند النص على مجموعة الحقوق المدنية والسياسية تأتي النصوص بصيغة الإلزام أو شبه الإلزام، إذ تجد معظم نصوصه تدور بين ألفاظ لا يجوز للدول، أو تتعهد الدول.
ولكن تدور معظم نصوص العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية ما بين تتعهد الدول، وأن تكفل الدول، أو أن تقر الدول بالحق في الوصول إلى. وهذه الصيغة المختلفة لا توحي بالإلزام بشكل قاطع الدلالة على مستوى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على الرغم من ضروريتها للحياة.
ومن الملفت للنظر أن تكون الصياغة في الدستور المصري فيما يخص الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أيضا على ذات المنوال، وعلى سبيل المثال في الدستور المصري الأخير نصت المادة 17 على أن تكفل الدولة خدمات التأمين الاجتماعي، وتعمل على توفير معاش مناسب، والمادة 18 قالت على أن تكفل الدولة الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية، ثم جاءت المادة 19 بعد أن نصت على إلزامية التعليم فقالت “تكفل الدولة مجانيته بمراحله المختلفة في مؤسسات الدولة التعليمية”.
وعلى الرغم من إقرارنا بأن الحكومات قد تحتاج إلى مزيد من الوقت لإعمال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإن هذا لا يعني أنه ليس بوسعها عمل أي شيء، إذ يتعين عليها اتخاذ خطوات من أجل إعمال هذه الحقوق. وتتمثل أولى هذه الخطوات في منح الأولوية لتحقيق «الالتزامات الأساسية الدنيا»، أي توفير الحدود الدنيا الأساسية لكل حق من تلك الحقوق، ففيما يتعلق بحق التعليم، على سبيل المثال، تتمثل الالتزامات الأساسية الدنيا في ضمان الحق في التعليم الأولي بالمجان. وفي مصر قد تقدم الدستور المصري الأخير خطوة بخصوص الحق في التعليم والصحة بأن وضع التزام على عاتق الدولة بخصوص النسبة المخصصة من الناتج القومي للإنفاق عليهما، على أن تتزايد حتى الوصول إلى النسب المقررة عالميا، ولكن يبقى ذلك في حدود النص الدستوري فقط. وإذا كانت هناك مجموعة من الحقوق الاقتصادية تتطلب دخل قومي عالي من الدولة حتى يتم إنفاذها أو تحقيقها بنسب عالية، إلا أنه بجانب هذه الحقوق توجد مجموعة أخرى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لا تتطلب من الدولة سوى الامتناع عن التدخل في الحريات الفردية، مثل الحريات النقابية أو الحق في البحث عن عمل يختاره المرء بنفسه، والحق في تكوين الجمعيات والتجمع السلمي.
وإجمالا وبشكل عام، لا يمكن بحال من الأحوال فصل مجموعة الحقوق عن بعضها أو تصنيفها على أساس كونها جزر متفرقة، فللحقوق الاقتصادية والاجتماعية تأثيرها الجم على الحقوق المدني والسياسية، والعكس بالعكس، ولو رجعنا إلى الوراء قليلا لوجدنا أن معظم شعارات وأسس انطلاق الثورات في الدول العربية، وهو ما أُطلق عليه “الربيع العربي” كانت مبنية على أسس أو دوافع اقتصادية في الأساس، فلك أن تذكر مثلا أن شرارة انطلاق الثورة التونسية كان ملخصها البحث عن عمل، وأن شعار الثورة المصرية كان “عيش – حرية – عدالة اجتماعية”، ولكن وبعد مرور هذه السنوات على الثورة نجد أن الشعب المصري لم يحقق ما طالب به وحلم بتحقيقه من أبسط المطالب، فبدلا من أن تسخر الدولة كامل طاقتها من أجل رفع مستوى معيشة المواطن الذي لا يجد خطا للفقر كي يندرج تحته، نجد أن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، قد أعلن عن نسبة المصريين تحت خط الفقر بالنسبة لعام 2015، والتي قدرها بـ26.3% من السكان، ما يعني أن أكثر من ربع المصريين تحت خط الفقر، الأمر الذي يوضح المعاناة والمأساة التي يعيشها المواطن البسيط في حياته اليومية، وهذه النسبة قد تزايدت في عام 2016 في ظل ما شهدته الحالة الاقتصادية المصرية من ترنح وانهيار لقيمة الجنية في مقارنته مع العملات الدولية، وهو الأمر الذي كان له مدلوله الأخطر على تردي المزيد من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وازدياد نسبة المعاناة بين أفراد الشعب، ونتيجة لذلك شهدت الأسواق المحلية موجات متكررة من ارتفاع الأسعار، خاصة في قطاع السلع الغذائية، وهو ما يشكل مدلولا خطيرا على المستوى المتردي في حياة غالبية المصريين.
وهنا من الواجب على الحكومة أن تعمل بشكل جدي، لا يرتبط بأية صياغة تكافلية، بل يجب أن تكون الحكومة ملزمة بتحقيق على الأقل الحد اللازم لمعيشة المواطنين وتحقيق متطلباتهم الحياتية اليومية من عذاء وصحة وغيرهما على صورة تضمن كرامتهم الإنسانية، وتحقق الهدف الرئيس من وجود الحكومات على رأس الدول.