خلال شهر من المفترض أن يتم التوقيع على اتفاق نهائي بين الأطراف المتصارعة في السودان بشأن هياكل الفترة الانتقالية، ومحددات تفاعل القوى السياسية، بهدف تحقيق بيئة مناسبة وعادلة للانتخابات السودانية التي قد تقود إلى تطور ديمقراطي كما تطمح القوى السياسية، وكما تعد القوى العسكرية.
الهياكل السياسية المتفق عليها هي حكومة مدنية كاملة الدسم، ومجلس تشريعي، بينما الهياكل التي شهدت شدا وجذبا فهي المجلس السيادي ومجلس الأمن القومي، وهما نقطتان قيد البحث بين الأطراف.
اقرأ أيضا.. لماذا يتجه المشهد السوداني نحو التصعيد؟
الاتفاق الإطاري الذي تم الإعلان عن التوصل إليه مؤخرا في مؤتمر صحفي لقوى الحرية والتغيير (المركزي) هو مؤسس على مشروع الدستور الانتقالي المنتج من جانب نقابة المحامين السودانيين ومن المنتظر أن يتم توقيعه خلال عشرة أيام.
التوقيع النهائي للاتفاق السياسي النهائي سقفه الزمني المعلن هو شهر، ومن المنتظر أن يعالج أهم القضايا الشائكة بين المكونين المدني والعسكري وهي قضية العدالة الانتقالية أما المحاور السياسية الباقية فهي ثلاث تتعلق بتفكيك النظام القديم وإصلاح قطاع الأمن أي المؤسسة العسكرية بشقيها العسكري والميليشاوي، وأيضا اتفاق جوبا للسلام.
ويمكن القول إن عدة عوامل قد ساهمت في الوصول لمحطة محاولة التوافق السياسي الراهنة، منها الإصرار الشعبي خصوصا الشبابي منه على فض الشراكة مع المكون العسكري اعتبارا من أكتوبر 2021، والتعبير عن هذا الرفض عبر الاحتجاجات والمظاهرات المتواصلة في العاصمة والمدن الكبرى، وذلك على الرغم من مواجهة هذه المظاهرات بعنف كبير من جانب السلطات الأمنية، وهو الأمر الذي جعل المكون العسكري غير قادر واقعيا على تكوين أي حكومة لإدارة البلاد والقيام بالوظائف التقليدية لتسيير الدولة.
ومن جانبه اتسم المكون العسكري بالمرونة إلى حد كبير في عمليات التموضع وإعادته طبقا لموازين القوى بين الأطراف، السياسية السودانية، وقد مارس هذه العملية المعقدة الفريق عبد الفتاح البرهان بنفسه، فهو أولا وفي محاولة للضغط على تحالف الحرية والتغيير المركزي حاول الاستقواء بمكون النظام القديم خصوصا حزب المؤتمر الوطني وأعاد رموزه إلى مفاصل الدولة بعد أن كان قد ابتعد عنها، ولكنه عاد بعد عدة شهور ليعادي هذا الفصيل ويعلن عداءه له مؤخرا في خطابين للبرهان منفصلين في قاعدتين عسكريتين سودانيتين.
ولعل إعادة التموضع التي مارسها الفريق البرهان وقبوله التفاوض على مشروع الدستور الانتقالي تعود إلى عدد من المعطيات، منها توافق القوى السياسية عليه، وحيازته على دعم الأطراف الدولية والإقليمية المنخرطة في مبادرتي الثلاثية والرباعية، وذلك بديلا عن مبادرة الجد التي كانت تعبيرا عن النظام القديم سواء في الطرح أو الرموز والتي لم تصمد أما مشروع نقابة المحامين.. أما المعطى الأخير فهو فشل محاولة المؤتمر الوطني -حزب البشير- المنحل كسب موقع في المعادلة الراهنة وذلك نظرا إلى افتقادها للسند الأخلاقي وبالتالي جاء تمظهرها الاحتجاجي في الشارع ضعيفا ويدعو للرثاء.
وكذلك ممارسة مناصري المؤتمر الوطني فعلا همجيا وعنفيا في آن واحد وذلك بالاعتداء على مقر نقابة المحامين مذكرين الجميع بتاريخهم في ممارسة العنف السياسي.
أما تمظهر حزب المؤتمر الوطني السوداني المنحل كقوى صلبة، فقد جاء عبر الإعلان عن قوة عسكرية تم تسميتها بكيان وطن ولكن تم التصدي لها فورا من جانب مؤسسة القوات المسلحة السودانية وتم القبض على عناصرها وأشهرهم الناطق الرسمي السابق للقوات المسلحة على زمن الرئيس المخلوع عمر البشير.
أما العامل الخارجي فقد تبلور في الضغوط الخارجية التي تمت ممارستها على المكون العسكري سواء على الصعيد الاقتصادي بتجميد مقررات نادي باريس المتعلقة بإلغاء الديون السودانية، أو التوقف عن برنامج المنح والمساعدات الأمريكي للسودان.
أما على الصعيد السياسي فقد تكونت مبادرتين أساسيتين تناوبتا ممارسة الضغوط على المكون العسكري هما الآلية الثلاثية أي بعثتي الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي وكذلك مبادرة الإيجاد بينما كانت الرباعية هي مبادرة دول قادتها الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية بشكل أساسي التي هندست الضغوط وتحاول حاليا أن تجد مخارج لنقاط الصدام والخلاف بين المكونين المدني والعسكري كل بفروعه وانشقاقاته.
ورغم كل هذه الجهود سواء الداخلية أو الخارجية والعوامل الدافعة نحو تخطي مأزق المشهد السياسي فإن السؤال المعلق في الفضاء السوداني حاليا هو هل تنجح محاولة التوافق الراهنة فعليا في المضي قدما نحو بلورة هياكل سياسية مدنية تستبعد المكون العسكري برمته من دائرة التأثير وصناعة القرار؟ وربما يكون السؤال الأكثر حساسية هو هل تستطيع القوى السياسية السودانية اجتياز هذا الاختبار الصعب بعد حالات التراشق والتشظي بين بعضها البعض خلال العامين الماضيين؟
قد تكون أهم القضايا الحساسة التي قد تحسم التوصل إلى اتفاق من عدمه هي مسألة العدالة الانتقالية لأنها مرتبطة بدماء الشهداء الذين سقطوا بنبل وبسالة دفاعا عن حق الشعب السوداني في التحول الديمقراطي. وبالتأكيد فإن لهؤلاء وذويهم حقوقا على من مارس الانتهاك ضدهم.
والمأزق الذي تواجهه الشعوب الثائرة في هذه الحالة مزدوج، بمعنى أن من مارس الانتهاك قادر على الاستمرار فيه بحكم توازنات القوى وبالتوازي مع ذلك فإن هذه الدماء الطاهرة تكون غالبا محلا للتوظيف والاستخدام من جانب بعض الأطراف السياسية.
وطبقا لهذا المأزق يكون من المطلوب طرح فكرة الإفلات من العقاب مقابل التعويض عن الانتهاك المفضي إلى الشهادة، وبالتأكيد لن تملك قوى سياسية سودانية شجاعة أن تطرح فكرة الإفلات من العقاب، وهو ما يفسر لنا التصريحات المتتالية من جانب قادة القوى السياسية بهذا الشأن، وطبقا لذلك ربما يكون أصحاب المصلحة أي أسر الشهداء وروابطهم هم وحدهم القادرون على تقديم هذه التضحية، مقابل أن تستقر صيغة التوافق السياسي المطروحة ويحصلون على ترضية معنوية مناسبة وكذلك تعويضات عن خسائرهم التي لا تقدر بأموال الدنيا وربما تكون الجائزة الكبرى هي استقرار بلدهم.
ثاني القضايا الشائكة هي قضية اتفاق جوبا وذلك من ناحيتين الأول هو قدرة الأطراف الدولية على الضغط على محمد حمدان دقلو (حميدتي) وظهيره الإقليمي دولة الإمارات للانخراط في عملية الترتيبات الأمنية التي يقاومها ويفضل أن يبقي كيانا عسكريا شبه مستقل يملك بعض مفاصل الدولة خصوصا الاقتصادية وقد يكون من المطروح الحفاظ على المكاسب الاقتصادية لشخص حميدتي مقابل انخراط القوات في المصفوفة النظامية للقوات المسلحة السودانية.
أما الفصائل المسلحة فربما يكون كل من حاكم دارفور ماركو ميني أركو ميناوي ومالك عقار في ولاية النيل الأزرق أكثر الأطراف المطلوب تسوية أوضاعهم بمكاسب سياسية يتطلعون إليها في هذه المرحلة.
أما التحديات المطروحة أمام المكون المدني فهي في مدى قدرته على تسمية رئيس وزراء يحوز على توافق الأطراف وأيضا يملك كفاءة سياسية ليبحر بسفينة الحكومة الانتقالية وسط بحر متلاطم من المصالح والتناقضات. وربما يكون الشرط الأهم هو قدرة المكون المدني على دعم رئيس الوزراء المرتقب وليس الضغط والمزايدة عليه كما حدث مع د. عبدالله حمدوك.
وأخيرا فإنه كلما اقترب هذا الاتفاق من المصداقية في الأهداف والآليات، في تحول حقيقي نحو الديمقراطية، وحلول سياسية متفاوض عليها مقبولة من الجميع، وكذلك قبول القوات المسلحة السودانية في التخلي عن القيام بأدوار سياسية، كلما خسرت القوى السياسية المزايدة على الاتفاق جماهير لها تتحرك في الشارع حاليا متخوفة من الاتفاق فالتيار العام للشعب السوداني لابد وأن يكون جانحا نحو سلم وأمن ودولة تستطيع أن تحقق حياة آدمية لمواطنيها.