استخدمت دول الخليج -منذ سبعينيات القرن الماضي- قوتها المالية لتشكيل بيئتها الإقليمية. وقد قدمت حزم إنقاذ ضخمة للدول التي تواجه ضائقة اقتصادية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وخارجها، واستخدمت هذه المساعدات كوسيلة ضغط تحقق بها أهداف أمنها القومي. واليوم، وبينما يسمح ارتفاع أسعار الطاقة لدول الخليج بتحقيق فوائض كبيرة في الميزانية، فإن الرياح الاقتصادية المعاكسة بسبب جائحة كورونا (COVID-19)، ثم الحرب الروسية الأوكرانية والتضخم، تزيد من الطلب الإقليمي على تدخلات الإنقاذ الخليجية، ومن ثم مزيدًا من الضغوط على الدول المدينة.
اقرأ أيضًا: “عندما يتكلم المال”.. كيف يشتري الخليج السياسة الخارجية للدول؟
ولقد طورت دول الخليج ترسانة من الأدوات الاقتصادية والمالية لتشكيل البيئة السياسية والأمنية في منطقتهم. وذلك منذ الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينيات وحتى الربيع العربي 2011 وما تلاه. واستخدمت دول الخليج المساعدات والاستثمارات وغيرها من تدفقات رأس المال للعب دور مركزي في الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط، وفق ما يذكره تقرير جديد أجراه المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS).
حجم التأثير
تلعب دول الخليج دورًا فريدًا بين مقدمي مساعدات الإنقاذ لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. إذ أنفقت بين عامي 1974 و2022، ما يقدر بنحو 231 مليار دولار أمريكي، إلى 12 دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وخارجها. وهو أمر جعل دول الخليج أكثر المانحين ضخًا للأموال إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وحتى أكثر من معظم المانحين الثنائيين والمتعددي الأطراف التقليديين، بما في ذلك صندوق النقد الدولي.
صندوق النقد أنفق ما يزيد قليلًا عن 81 مليار دولار أمريكي في قروض لتلك البلدان خلال نفس الفترة.
ويوضح التقرير أنه من خلال تقديم مساعدات الإنقاذ بهذا الحجم، أثبتت دول الخليج نفسها كلاعب أساسي في مشهد مساعدات التنمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وأنه نظرًا للسرعة والنطاق اللذين يمكن لدول الخليج أن تستخدم بهما دعم الميزانية، بودائع البنوك المركزية، ومساعدات النفط والغاز في الدول المنكوبة، فإنها غالبًا ما تكون قادرة على تغيير حسابات الدول المستهدفة بشكل كبير لصالحها.
دبلوماسية الإنقاذ الخليجية
على الرغم من حجمها، إلا أن دبلوماسية الإنقاذ الخليجية ليست مفهومة تمامًا، كما يقول تقرير (IISS). إذ لا تُبلغ دول الخليج بشكل منهجي عن مدفوعات مساعدات الإنقاذ. كما أنها لا تحدد بشكل منتظم أهداف هذه المدفوعات.
يكشف التقرير أنه على الرغم من أن وكالات التنمية الوطنية في دول الخليج قد تبنت بشكل متزايد معايير إعداد التقارير الخاصة بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بشأن المساعدة الإنمائية الرسمية، فإن مساعدات الإنقاذ -التي عادة ما تتحايل على هذه الوكالات- لا يتم الكشف عنها عادة بنفس الطريقة. وأن نقص البيانات هذا يجعل من الصعب فهم الحجم الحقيقي لتدخلات الإنقاذ الخليجية أو تقييم تداعياتها على الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط.
الإيثار أم السياسة؟
يضيف التقرير أنه على مدى خمسة عقود، استخدمت دول الخليج قدرات الإنقاذ لحماية مصالحها الأساسية من التحولات الزلزالية في الجغرافيا السياسية للمنطقة. وأنه على الرغم من أن البعض قد عزا التحول السياسي في المساعدات الخارجية الخليجية إلى الربيع العربي، إلا أن حزم الإنقاذ المدفوعة باعتبارات أمنية أو سياسية ترجع إلى صدمة النفط عام 1973.
فمنذ ذلك الحين، قدمت دول الخليج لما لا يقل عن 17 دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أكثر من 231 مليار دولار أمريكي كمساعدات إنقاذ. بينما ساعدت في إنقاذ البلدان المنكوبة في المنطقة من الإفلاس في مناسبات متعددة. وقد كانت معظم المساعدات تأتي استجابة للصدمات الإقليمية التي شكلت تهديدًا مباشرًا لمصالح الخليج.
ومرت دبلوماسية الإنقاذ في الخليج بثلاث حلقات رئيسية تتوافق بشكل وثيق مع المسار الجيوسياسي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
الحلقة الأولى:
كانت الحلقة الأولى هي الحرب الإيرانية العراقية 1980 – 1988، التي زودت فيها دول الخليج العراق بكميات هائلة من دعم الإنقاذ. وكان ذلك خوفًا من مخططات إيران لتصدير ثورتها عام 1979، وإثارة الاضطرابات، إذ مولت دول الخليج الحملة العسكرية العراقية خلال الحرب.
كانت الحرب بين إيران والعراق هي الحلقة الأكثر أهمية في تدخلات خطة الإنقاذ الخليجية. حيث استحوذت على أكثر من 29% من إجمالي مساعدات الإنقاذ الخليجية التي تم صرفها منذ عام 1974، وظلت لا مثيل لها منذ ذلك الحين. وقد أتاحت هذه الحرب فرصة لدول الخليج المستقلة حديثًا، والتي كانت غارقة في عائدات النفط، للتأثير على النتائج الأمنية الإقليمية وتشكيل بيئتها الخاصة.
لكن، سرعان ما أدت تجربة دول الخليج في دبلوماسية الإنقاذ إلى نتائج عكسية. ذلك عندما غزا صدام حسين الكويت في عام 1990.
الحلقة الثانية:
خلال هذه الحلقة الثانية، استخدمت دول الخليج دبلوماسية الإنقاذ لحشد الدعم الدولي لتحرير الكويت ومكافأة حلفائها الإقليميين، ولا سيما مصر والمغرب وباكستان لوقوفهم إلى جانبهم، وفق ما تذكره دراسة (IISS).
وكان الغزو العراقي للكويت 1990-1991 لحظة وجودية لدول الخليج. فبالإضافة إلى ضم الكويت، هدد صدام أيضًا باجتياح المملكة العربية السعودية، ما دفع الولايات المتحدة للتدخل عسكريًا.
الحلقة الثالثة:
أما الحلقة الثالثة الحاسمة، فكانت الربيع العربي عام 2011، وهي لحظة محورية في تاريخ المنطقة. حيث وجدت دول الخليج أن سقوط حليفتها القديمة مصر، وانتشار الاضطرابات في البحرين والأردن والمغرب وعمان واليمن، واحتمال سيطرة القوى الإسلامية المعادية لها، أمر مقلق للغاية.
ولتحقيق الاستقرار للحكومات الصديقة والتأثير على التحولات السياسية، صرفت دول الخليج أكثر من 52 مليار دولار أمريكي كمساعدات إنقاذ لمصر والأردن والمغرب وباكستان والسودان واليمن بين عامي 2011 و 2018. بينما كان لصعود قطر كممارس رئيسي لدبلوماسية الإنقاذ، أثر كبير في زيادة حدة التنافس بين دول مجلس التعاون الخليجي.
اقرأ أيضًا: تحرير سعر الصرف.. صناديق الخليج تقتنص فرصة تراجع الجنيه ومصر تخسر أصولها ودولاراتها
مزيد من المساعدات
يقول تقرير (IISS) إن التداعيات الاقتصادية لوباء COVID-19 والغزو الروسي لأوكرانيا يمكن أن تفتح اليوم مرحلة جديدة من دبلوماسية الإنقاذ في الخليج. إذ تواجه العديد من البلدان في المنطقة، ارتفاعات في أسعار الطاقة والغذاء. وفي الوقت نفسه، تتمتع دول الخليج بمكاسب كبيرة غير متوقعة من أسعار الطاقة. (منذ عام 2021، تعهدت دول الخليج بتقديم دعم إضافي لإنقاذ مصر وباكستان والسودان). بينما بالنظر إلى الوضع الحالي اقتصاديًا، فإن هذه الدول تخاطر بمواجهة طلب أكبر على مساعدات الإنقاذ من المنطقة، وفق ما يشير إليه تقرير .
كيف استفاد الخليج؟
لا يمكن إنكار أن دبلوماسية الإنقاذ الخليجية قد حققت نجاحات. فمن خلال تمويل الحملة العسكرية العراقية، ساعدت دول الخليج في منع إيران من تحقيق النصر في الحرب العراقية الإيرانية. وكذا فعلت في مواجهة تهديد وجودي من العراق في عام 1990، حيث حشدت دول الخليج مواردها المالية لحشد أكبر عدد ممكن من اللاعبين الإقليميين إلى جانبها.
وحتى بعد الربيع العربي، نشرت دول الخليج مساعدات إنقاذ لوقف انتصار الإخوان في مصر، وتشكيل المرحلة الانتقالية في السودان بعد عمر البشير، والمساعدة في الحفاظ على الأردن.
ومع ذلك، فقد واجهت دبلوماسية الإنقاذ الخليجية أيضًا نكسات متعددة. ومن المفارقات، أنه قبل غزو الكويت، كان العراق هو المستفيد الأكبر من مساعدات الإنقاذ في تاريخ دول الخليج.
يشير تقرير (IISS) كذلك إلى أن المستفيدين الآخرين من دعم الإنقاذ الخليجي، ولا سيما مصر وباكستان، اختاروا أحيانًا تجاهل المطالب الخليجية عندما تصادمت مع مصالحهم. ومن الأمثلة على ذلك رفض مصر وباكستان لعب دور مباشر في حرب اليمن أو دعم المعارضة السورية.
يقول التقرير إنه على الرغم من أن دبلوماسية الإنقاذ تشتري النوايا الحسنة لدول الخليج وتأثيرها، إلا أنها لا تضمن امتثال المستفيدين منها.
ويبدو أن دول الخليج تعلمت من نكساتها، واستخلصت الدروس لتعديل ممارساتها في دبلوماسية الإنقاذ. فعلى مدى العقد الماضي، أصبحت مدفوعات دعم الإنقاذ أكثر حصافة وقابلة للعكس ومخصصة بمبالغ أصغر. إذ اختارت دول الخليج في عام 2016 ربط المساعدات للقاهرة بناءً على امتثالها لصندوق النقد الدولي.
وفق التقرير، فقد عدلت دول الخليج أسلوب عملها، بما يعكس أسلوب تعامل أكثر انتقائية وتفاعلية مما كان عليه في الماضي.
التداعيات على المانحين الغربيين
يقول التقرير إن دبلوماسية الإنقاذ الخليجية تحمل تداعيات بعيدة المدى على اللاعبين الغربيين في مجال التنمية والمؤسسات المالية الدولية. فدول الخليج شريكة طويلة الأمد للمؤسسات المالية الدولية، تساهم في ميزانياتها، وتتعاون معها بطرق متعددة.
على سبيل المثال، فإن القوى الغربية والمؤسسات المالية الدولية تطالب دول الخليج في أوقات الأزمات بالتدخل للمساهمة في ضخ الأموال. مثال على ذلك، ما تم من تمكين بعض قروض صندوق النقد الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الأوسع ، مثل حزمة 12 مليار دولار أمريكي المعتمدة لمصر في عام 2016 وحزمة 1.17 مليار دولار أمريكي المعتمدة لباكستان في عام 2022، من خلال التمويل التكميلي من دول الخليج. هذا يمنح دول الخليج نفوذًا أكبر داخل تلك المؤسسات ويجعلها محاور رئيسي للقوى الخارجية في المنطقة.
اقرأ أيضًا: سينما وتلفزيون وثقافة.. مال الخليج وقوى مصر الناعمة.. مخاطر وفرص
ومع ذلك، فقد دفعت دول الخليج بشكل متزايد من أجل مصالحها الأمنية والسياسية بشكل مستقل عن الأولويات الغربية.
وعلى الرغم من أن المانحين التقليديين مثل الولايات المتحدة واليابان مارسوا أيضًا دبلوماسية الإنقاذ، إلا أن تدخلات الإنقاذ الخليجية تختلف في بعض النواحي. ففي حين أن ممارسات المساعدة الإنمائية الخارجية الخليجية تتماشى تدريجيًا مع المعايير الغربية، فإن دعم الإنقاذ، الذي عادة ما يقرره قادة الخليج أنفسهم، ظل مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالمصالح السياسية رفيعة المستوى.
على عكس حزم صندوق النقد الدولي، فإن دعم الإنقاذ الخليجي ليس مرتبطًا عادة بالإصلاحات الاقتصادية أو الإصلاحات الإدارية. وقد تم استخدامه أحيانًا كمصدر بديل للتمويل من قبل البلدان المتلقية التي لم ترغب في الخضوع لمثل هذه الإصلاحات.
دبلوماسية إنقاذ جديدة
قد يكون للرؤى الاقتصادية الطموحة لدول الخليج والمواقف المتغيرة تجاه الاستدامة الاقتصادية والمالية عواقب بعيدة المدى على استعدادها لإنقاذ دول أخرى. نظرًا لعدم اليقين بشأن الطلب العالمي طويل الأجل على النفط والغاز، فقد تبنت دول الخليج رؤى، أشهرها رؤية السعودية 2030، التي تهدف إلى تمهيد الطريق لمستقبل اقتصادي متنوع وأكثر استدامة. ذلك إلى جانب اتخاذ موقف أكثر حذرًا تجاه الإنفاق المالي، قد تترك التصاميم الاقتصادية لدول الخليج وخطط التحول في مجال الطاقة مجالًا أقل لعمليات الإنقاذ السخية.
وعلى الرغم من أن الزيادة في أسعار الطاقة، التي تفاقمت بسبب جائحة COVID-19 والحرب الروسية الأوكرانية، قد تؤدي إلى انتعاش في عمليات الإنقاذ الخليجية، قد يؤدي الاتجاه طويل الأجل للسياسات الاقتصادية لدول الخليج إلى تسريع تحولها نحو نهج أكثر استهدافًا وتعاملات في فن الحكم الاقتصادي. ومع ذلك ، يبدو من غير المرجح أن تتغير الدوافع الجيوسياسية الأساسية لسلوك الخليج، لا سيما الرغبة في تعزيز مصالحها الوطنية، وتأكيد استقلال سياستها الخارجية عن الولايات المتحدة، والتنافس مع الخصوم الإقليميين، وتحقيق الاستقرار لحلفائها في المنطقة.