يمكن تلخيص فلسفة الدوحة في حماية أمنها، بأنه “كلما تحدّث العالم عن قطر، قلَّ خطر العدوان ضدّها”. وهي سياسة ناجحة حتى الآن، وفق الباحث بمؤسسة “كارنيجي” فرانشيسكو سيكاردي. وهو يصف استضافة الدولة الخليجية الغنية -محدودة المساحة- لكأس العالم 2022، بنقطة التحوّل في سياستها الخارجية، مضيفًا أن على أميرها تميم بن حمد، التفكير في طرق أكثر زخمًا لإعطاء جوهر جديد لمكانة بلاده العالمية، التي ستنالها بعد هذا الحدث الفريد في تاريخها.
وفق مدير الأبحاث ببرنامج Carnegie_Europe، فإن استضافة كأس العالم 2022 بالنسبة لقطر يتعدى كونه يعكس صورة إيجابية للعالم عنها، وأنه يساهم في تنشيط القطاع السياحي بها، ويمثل تنويعًا لاقتصادها بعيدًا عن الغاز الطبيعي. إذ هو أحد عوامل ضمان أمن البلاد وتحصينها في وجه طمع الدول المجاورة المعادية غير المرغوب فيه.
يقول “سيكاردي” إن هذه هي الاستراتيجية التي شرع القادة القطريون إلى صياغتها منذ أوائل التسعينيات، بُعيد انتهاء حرب الخليج الأولى. وكان دافعها ما ساورهم من مخاوف أن تواجه بلادهم، التي تمتلك موارد طبيعية غير محدودة، مصير الكويت نفسه، بعد أن غزتها جارتها الأكبر (العراق). وقد تحرّك حاكم البلاد آنذاك حمد بن خليفة آل ثاني، بعد توليه الحكم في العام 1995، على جبهات عدّة لضمان مستقبل قطر.
منذ التسعينيات
يتحدث “سيكاردي” عن نهج قطر لربط أمنها بدول أخرى كبرى ضمن سياستها لحماية لأمنها في مقابل جيرانها، فيشير إلى افتتاحها قاعدة العديد الجوية في العام 1996، والتي تعدّ اليوم أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط.
كذلك، وعلى صعيد القوة الناعمة، أطلق الأمير السابق -حمد بن خليفة- شبكة الجزيرة الإعلامية، التي باتت إحدى العلامات التجارية القطرية الأكثر شهرةً، وأداة تأثير كبيرة في المنطقة وخارجها.
وقد استثمرت الدوحة -خلال السنوات اللاحقة- في شركات عالمية بارزة، على غرار هارودز وميراماكس فيلمز ورويال داتش شل وبورش. و ركزت خلال العقدَين الماضيين، على الاستفادة بكرة القدم كأداة قوة ناعمة، مستثمرة كونها الرياضة الأكثر شعبية في العالم، ويشاهدها مليارات المشجعين في مختلف القارات.
وفي سبيل ما توفره من مكانةً على الساحة العالمية وضمان تحقيق عائدات هائلة، دفعت قطر المليارات في الاستثمار في كرة القدم (يُتوقع أن يشاهد كأس العالم 2022 على شاشة التلفاز حوالي 5 مليارات شخص).
قوة الرياضة
يلفت “سيكاردي” إلى صفقة شراء قرية لندن الأولمبية التي أبرمتها قطر في العام 2012، ذلك من أجل تحويلها إلى مشروع شقق فاخرة.
كذلك، كانت الدوحة أول راعٍ لسباقات رويال آسكوت للخيول على الإطلاق في العام 2014. وأصبحت البلاد مضمارًا رئيسًا للأحداث الرياضية الدولية.
وعلاوةً على ذلك، استضافت قطر أكثر من 20 حدثًا منذ مطلع القرن الحادي والعشرين. بما فيها دورة الألعاب الآسيوية للعام 2006، وبطولة العالم لسباق الدراجات الهوائية على الطريق للعام 2016، وبطولة العالم لألعاب القوى للعام 2019.
ولقد أدّت كرة القدم، بشعبيتها المتزايدة وعائداتها الهائلة، إلى نقل هذه الاستراتيجية إلى مستوى مختلف.
وفق “سيكاردي”، بلغت النفقات الإجمالية التي تكبدتها قطر تحضيرًا لحدث المونديال 220 مليار دولار. وهي تشمل تكلفة بناء الملاعب الجديدة وتجديد الملاعب الحالية، وكل الأموال التي تم إنفاقها على البنية التحتية. الأمر الذي يجعل كأس العالم لهذا العام في قطر هي الأغلى على الإطلاق.
اتهامات بالفساد ولكن
يقول “سيكاردي” إن الدوحة منذ حصولها على حقوق استضافة كأس العالم في العام 2010، تواجه اتهامات بالفساد. إلا أن هذا لم يمنع تحوّلها إلى مركز عالمي لكرة القدم. وأنها حققت هذا الإنجاز من خلال اعتماد استراتيجية مفصلة تطوّرت في اتجاهات ثلاثة:
أوّلًا، ربطت قطر اسمها بأفضل أندية كرة القدم في العالم. سواء عن طريق الرعاية المُربحة أم السيطرة المباشرة.
وقد اعتاد المُشَجِّعون على رؤية اسم قطر على قمصان أنديتهم الوطنية الأشهر، على غرار نادي برشلونة الإسباني وبايرن ميونيخ الألماني وبوكا جونيورز الأرجنتيني.
بينما يُعتبر نادي باريس سان جيرمان الفرنسي درّة تاج قطر في رياضة كرة القدم. وكانت شركة قطر للاستثمارات الرياضية الحكومية استحوذت عليه في العام 2011، وحوّلته إلى أحد أنجح الأندية الأوروبية. واختير لرئاسة النادي، ناصر الخليفي، وهو مدرب تنس سابق ومُقرّب من الأمير تميم بن حمد آل ثاني.
اقرأ أيضًا: المونديال والمناخ.. هل نجحت قطر في تجنب “الأفيال البيضاء”؟
ثانيًا، شكّل استحواذ قطر على حقوق البث الحصري لبطولة العالم وسيلة أخرى لتوسّعها في رياضة كرة القدم العالمية، عبر شبكة قنوات “بي إن سبورت” الرياضية القطرية، التي تُبثّ في 43 دولة عبر القارات الخمس وباللغات العربية والإنجليزية والفرنسية. وهي أداة قوية للنفوذ الإقليمي الرياضي لقطر على حساب خصومها من الدول المجاورة.
ثالثًا، أتاحت الاستثمارات المحلية الضخمة الفرصة أمام قطر لتحسين مكانتها في عالم كرة القدم. وفي هذا الإطار، يشير “سيكاردي” -في تقريره- إلى أكاديمية أسباير، التي تأسّست في العام 2004، كإحدى أشهر برامج تطوير المواهب في كرة القدم حول العالم.
وتعمل “أسباير” سنويًا على استكشاف 5 آلاف قطري في سنّ الحادية عشرة. كما تُقدّمُ المنح التعليمية لأكثر الموهبين حتى بلوغهم الثامنة عشرة من العمر. من خلال إعطاء الأولوية للاعبين المولودين في قطر وكذلك الشباب غير القطري، الذين هم عادةً أبناء مهاجرين جاؤوا إليها بسبب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وعاشوا القسم الأكبر من حياتهم فيها.
وقد ساهمت أكاديمية “أسباير” في تحسين جودة كرة القدم القطرية بشكل كبير، وأعادت تعريف معنى الانتماء لقطر.
الرياضة تهزم السياسة
في إجابته على سؤال: كيف استفادت قطر من استراتيجيتها للقوة الناعمة في مقابل أعدائها؟، يشير “سيكاردي” إلى الطريقة التي انخرط بها نادي باريس سان جيرمان وقنوات بي إن سبورت الرياضية والمُنتَخب القطري في المشهد الجيوسياسي خلال السنوات الماضية.
يقول إنه خلال الأيام الأولى من عزل الدول الخليجية لقطر، شكّل نادي باريس سان جيرمان أداةَ تواصل مذهلة مع العالم. وبعد أسابيع قليلة، وقّع الفريق صفقاتٍ قياسية لضمّ قائد المنتخب البرازيلي نيمار والنجم الفرنسي الصاعد كيليان مبابي.
إذ حظيت قطر، بفضل هذا الاستثمار الذي تجاوزت قيمته 450 مليون دولار لضمّ اللاعبَين، باهتمام غير مسبوق. كما كشفت عن قوتها المالية غير المحدودة تقريبًا، في وقت كان من المفترض أن تكون الدولة معزولة دوليًا.
وفي حين كانت علاقات قطر الإقليمية تمرّ بأسوأ حالاتها، كانت تعيش ذروة شهرتها العالمية.
كذلك، امتدّ الخلاف الخليجي إلى حقوق بثّ بطولات كرة القدم. وفي أواخر العام 2017، بدأت محطة تلفزيونية مقرصنة تسمى “بي آوت كيو” ببثّ برامج ومباريات قناة بي إن سبورت بشكل غير قانوني. وتمّ تتبع ضلوع المملكة العربية السعودية في هذا العمل.
اقرأ أيضًا: مونديال قطر والتكامل الإقليمي.. أثر اقتصادي يُنعش الخليج قد يمتد لمصر
وفي العام 2020، خلصت منظمة التجارة العالمية إلى أن السعودية قد انتهكت القواعد العالمية لحقوق الملكية الفكرية من خلال عدم اتخاذ إجراءات ضد القرصنة التي قامت بها قناة بي آوت كيو.
أيضًا، ظهرت التوترات بين قطر وجيرانها على أرض الملعب في مباراة نصف نهائي كأس آسيا في العام 2019، التي شهدت مواجهة قطر للإمارات، التي عادتها سياسيًا ورياضيا، لكنها سقطت أمامها بخسارة كروية كبير 4-0، في لقاء لم يُسمح سوى للمُشَجِّعين الإماراتيين بحضوره.
يقول “سيكاردي” إن ما أنقذ الفريق القطري وقتها هو أن الفريقٍ تمّ تطوير مهاراته بشكل شبه كامل في أكاديمية “أسباير”، الأمر الذي أوصل قطر إلى المباراة النهائية التي فازت بها ضد اليابان. وغاب المسئولون الإماراتيون عن حفل توزيع الجوائز وطعنوا في النتيجة بعد ذلك.
ولا تزال حسابات الدوحة الأولية والمتمثلة في أنه كلما تحدّث العالم عن قطر، قلَّ خطر العدوان ضدّها، صحيحة.
وحتى وإن تسببت كرة القدم في ظهور عدد كبير من الأخبار السيئة عن قطر، والظروف السيئة المحيطة بصحة وسلامة العمال في البنى التحتية لكأس العالم. إذ تجاهلت الدوحة كل الانتقادات، وحققت شهرة عالمية بفضل البطولة، ما يُعتبر أكبر جائزة لها، وفق “سيكاردي”، الذي يؤكد أن قطر لديها فرصة تاريخية بعد انتهاء هذه البطولة لتدعيم مكانتها العالمية.
وهو يشترط لتحقيق ذلك إرساء توازن في موقفها من الصين والولايات المتحدة، مرورًا بالمساعدة على معالجة نقص إمدادات الطاقة في أوروبا، وصولًا إلى أن تصبح قطر مركزًا إقليميًا للطاقة الخضراء.
ويضيف أنه في حين قد يؤدي ذلك إلى تعقيد المسائل الأمنية، تشير آخر القرارات القاضية بمنح قطر حقوق استضافة كأس آسيا لكرة القدم للعام 2023 والألعاب الآسيوية للعام 2030 إلى أن البلاد ستواصل تركيز اهتمامها على القوة الناعمة لكرة القدم، والرياضة بشكل عام لتحقيق أغراضها السياسية والاقتصادية.