10 أعوام قضاها البابا تواضروس جالسا على كرسي القديس مرقس الرسول المُبشر بالمسيحية في مصر، ممسكا بزمام الأمور، محاولا إعادة ترتيب المقر البابوي، الذي شهد صراعات عدة بنهاية عصر البابا الراحل الأنبا شنودة الثالث، ولحظات تحول كبرى في الشارع المصري، بإزاحة جماعة الإخوان عن الحكم، وما تلا ذلك من توترات عنيفة.
الملامح الجديدة
حفل تجليس البابا تواضروس الثاني على الكرسي المرقسي أقامته الكنيسة القبطية في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2012، بعد إجراء قرعة هيكلية بين المرشحين الثلاثة الأعلى أصواتًا بانتخابات البابوية “الأنبا رافائيل-القمص رافائيل أفامينا-البابا تواضروس”، والتي أشرف على إجرائها “قائم مقام البطريرك” الأنبا باخوميوس مطران البحيرة، بمعاونة الأنبا بولا عضو اللجنة المشرفة على الانتخابات البابوية، ومطران طنطا، وسحب ورقة الحسم الطفل “بيشوي جرجس” -آنذاك-، والذي يدرس حاليًا بمرحلة الثانوية العامة.
حين كان يجرى طقس القرعة الهيكلية بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية في القاهرة، أقام “الأنبا تواضروس” بدير الأنبا بيشوي في خلوة روحية بين الرهبان. وفي مساء الليلة ذاتها تشكلت ملامح فترة “البطريرك” الجديد بعد لقاء جرى مع الصحفيين آنذاك، تصدره شعار “جئت من أجل السلام، وليس من أجل المعارك، أو الصدام مع الدولة”.
معارك فرضت نفسها
وقد بدأت “معارك” البابا الذي جرى اختياره في “زمن الإخوان”، وصدّق على اختياره الرئيس المعزول “محمد مرسي”، قبيل أيام من تجليسه. كان ذلك حين أعلنت الكنيسة انسحابها من الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور، بقرار من “الأنبا باخوميوس”. بعدها لم يكن بوسع “البابا” الذي رفع شعار “لا للمعارك” إلا الدخول على خط مقارعة “الدستور”، ووصفه بالتمييزي، “ذي صبغة مفروضة من قبل أغلبية مسيطرة على الجمعية التأسيسية”.
بعد نحو 5 أشهر من حفل تجليس البطريرك “الصيدلي” الدقيق، الذي أولى رعاية خاصة لإعادة ترتيب البيت الكنسي من الداخل وفق لوائح منظمة وهيكلة إدارية جديدة، وقع “حادث الخصوص” مطلع إبريل/ نيسان 2013. وعقب صلاة جنازة على ضحاياه، وقع اعتداء -لأول مرة في تاريخها- على الكاتدرائية المرقسية بالعباسية إثر شجار اندلع في محيطها.
اقرأ أيضًا: كيف عالجت الكنيسة أزمة غياب البابا عن “شعبه” في فاجعة أبو سيفين؟
وقتئذ، وجه البابا اتهامًا بالإهمال إلى الرئيس السابق محمد مرسي. واستقر في دير الأنبا بيشوي دون أن تعلن الكنيسة اعتكافه، غضبًا من الهجوم ورد الفعل الرسمي عليه.
رفض “البابا” حينها استقبال وفد رئاسي للتعزية بالمقر البابوي، وأناب الأنبا موسى أسقف الشباب، والأنبا رافائيل أسقف وسط القاهرة لاستقباله. واعتبرت أوساط سياسية رفض البابا التراجع عن الإقامة بالدير “حسمًا ينذر بقوة في تناول قضايا الأقباط”.
وفي العموم، فإن تصريحات البابا تجاه “الرئيس المعزول محمد مرسي” الأقوى من نوعها منذ وصوله إلى الكرسي البابوي. وقد قال نصًا في مداخلة تلفزيونية: “إن الرئيس مرسي وعد بعمل كل شيء من أجل حماية الكاتدرائية. لكن في الواقع لا نرى شيئًا على الأرض”.
وبعد أقل من 60 يومًا انتشرت دعوات معارضة للخروج في مظاهرات 30 يونيو للضغط على نظام “الإخوان” من أجل عدة مطالب أهمها إجراء انتخابات رئاسية مبكرة. غير أن البابا تواضروس لم يقطع برأي يمس الأقباط. وقال في تصريحات متلفزة “18 يونيو 2013”: “هذه حرية شخصية”.
“وطن بلا كنائس”.. لماذا؟
مد البابا تواضروس الثاني خط الممانعة على استقامته. وظهر في “خطاب 3 يوليو” ممثلًا عن الكنيسة والأقباط في مشهد “خارطة الطريق”. وتصدى فيما بعد لحملات موجهة ضد الأقباط، بلغت ذروتها في الرابع عشر من أغسطس/ آب 2013 “بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة”، باعتداءات على الكنائس في عدد من المحافظات. حيث تبلورت عبارته آنذاك: “وطن بلا كنائس، أفضل من كنائس بلا وطن”.
وقد فسر “البطريرك” عبارته تلك بعد نحو 10 أعوام من تاريخها خلال احتفالية التجليس بـ”مسرح الأنبا رويس” بكاتدرائية العباسية، لافتًا إلى أنه تذكر وضعية “سوريا”، وقد تعرضت الأديرة والكنائس هناك لاعتداءات شديدة، غير أن النتيجة أقسى من الاعتداء، هناك وطن انتهى، ولم يعد به شيء.
الكنيسة والدولة
مع وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي للحكم عقب انتخابات أجريت في مايو/ أيار 2014، شهدت الكنيسة تطورًا استثنائيًا في علاقتها بالدولة. فالبابا الذي لم يخف رغبته في ترشح “السيسي” للرئاسة -15 مارس/ آذار 2014- في تصريحات لقناة “الوطن” الكويتية، وصف فيها الترشح بأنه “واجب وطني”، استقبل لأول مرة في تاريخ الكنيسة رئيس الجمهورية إبان احتفالها بـ”عيد الميلاد المجيد” -يناير/ كانون الثاني 2015-، وهي “البشارة” التي ساقها البطريرك للأقباط بأن “ثمة مواطنة كاملة تتبلور معالمها”.
عقب ذلك الحدث الاستثنائي، تعرضت العلاقة بين الكنيسة والدولة لاختبارات عنيفة في حوادث دموية متفرقة، من بينها “ذبح 21 قبطيًا في ليبيا” -فبراير/ شباط 2015-، ومن بعده “حادث سيدة الكرم بالمنيا” 2016، وتفجير الكنيسة البطرسية 2017. غير أن البابا تواضروس وصف مثل هذه الأحداث بأنها تزيد من قوة النسيج الوطني، وكأنه أراد قطع الطريق على المناوئين للدولة. قال: “إن زيارات مستمرة للكاتدرائية وبيوت الشهداء تجعلنا نشعر أنهم من كل بيت مصري، وليسوا من بيوت محددة”.
اقرأ أيضًا: كنيستا يوليو ويونيو.. سجالات البابا والرئيس في جمهورية تتبدل
وقد عقّب الرئيس عبد الفتاح السيسي على حادث “سيدة الكرم”، في بيان متلفز، قائلًا: “الإساءة لسيدة مصرية غير مقبولة (لم أقل سيدة كذا…)، كلنا واحد، لنا حقوق، وعلينا واجبات متساوية”، مقدمًا اعتذاره لها.
على الجانب الآخر، حافظ البابا على هدوء العلاقة بين كنيسته والدولة، ورغم ضغوط شعبية واسعة لاتخاذ موقف قوي تعليقًا على الحادث، لفت في بيان صادر عن المقر البابوي، إلى أن المسئولين في الدولة أكدوا أن صيانة شرف الأم مصرية واجب، ومسئولية جماعية.
وفي أعقاب جنازة “ضحايا البطرسية” العسكرية (راح ضيحتها 29 أغلبهم من النساء والأطفال)، قال البابا في بيان رسمي: “نشكر الرئيس، والقوات المسلحة، والشرطة، وقيادات الدولة على ما تقدمه الدولة للأحباء الذين استشهدوا في حادث البطرسية، وحسب قول الرئيس: المحن تزدنا صلابة، وارتباطًا”.
وخلال كلمته بالذكرى العاشرة لتجليسه على الكرسي المرقسي من الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، وصف البابا هذه الأحداث الصعبة بأنها أصبحت تاريخًا، وبقيت العلاقة جيدة مع مؤسسات الدولة، معربًا عن امتنانه لتزامن “بابويته” مع بدايات تأسيس الجمهورية الجديدة. واستطرد قائلًا: “نصلي لأجل أن يحفظ الله البلاد بعيدًا عن قوى الشر”.
إعادة ترتيب البيت
لم يأت البابا منتسبًا لأي من فرقاء الصراع الذي شكلته الدوائر النافذة والطامحة لوراثة البابا شنودة. وقد قضى سنواته البابوية الأولى في قراءة وفحص واستيعاب وتفهم الخريطة الكنسية، بهدوء وصبر وصمت، حسبت كعلامات ضعف و”قلة حيلة” عند كثير من متابعي المشهد. بينما كان يؤسس لتغيير “الحرس القديم”-حسب قول المفكر القبطي كمال زاخر مؤسس جبهة العلمانيين الأقباط.
بمفهوم البابا تواضروس، ومنذ أيامه الأولى قبيل تجليسه على الكرسي المرقسي، استحال مصطلح “التغيير” إلى “إعادة ترتيب البيت الكنسي” تجنبًا لأي صدامات داخل المجمع المقدس.
أصدر البطريرك عدة لوائح من بينها “تنظيم الرهبنة، انتخاب البابا، الأسقف، الكاهن، الشمامسة، مجالس الكنائس، وغيرها”، إلى جانب تأسيس المكتب البابوي للمشروعات، ومكتب الرعاية الاجتماعية لتسديد احتياجات الجميع، والمعهد القبطي للإدارة والتدبير الكنسي، وتأسيس المركز الإعلامي القبطي كأول مؤسسة ناطقة باسم الكنيسة ومعبرة عن رؤاها وتوجهاتها.
كذلك، انفتح البابا تواضروس الثاني على الكنائس الأخرى في الداخل والخارج، حسبما أفاد الأنبا دانيال سكرتير المجمع المقدس، مشيرًا خلال كلمته بحفل التجليس، إلى أن هذا التوجه يتبناه “البابا تواضروس”، ويحذر من إهماله؛ لأن الأولوية للتقارب، “حتى لا تسبقنا الكنائس، ونبقى هنا نتأسى على ظلال الماضي”.
انفتاح رغم الهجوم
استمر البابا في سياسة الانفتاح على الكنائس الأخرى غير عابئ بهجوم أو نقد وجه له شخصيًا من مجموعات لها حساباتها. وخلال زيارته إلى دولة السويد في أكتوبر/ تشرين الأول 2015، شارك في الصلاة بكنيسة السويد التي ترأستها أنتجي جاكلين، وتُلقب برئيسة الأساقفة.
تنتمي كنيسة السويد إلى المذهب اللوثري. وهي أكبر كنيسة لوثرية في أوروبا، وثالث أكبر كنيسة لوثرية على مستوى العالم.
بعد زيارة البابا فرنسيس بابا الفاتيكان للقاهرة، وتوقيع “بيان المعمودية” مع البابا تواضروس- إبريل/ نيسان 2017- تعرض البطريرك لضغوط شديدة من مجموعات تطلق على نفسها “حماة الإيمان”، تزعم أن “البابا تواضروس خالف أصول المعتقد”.
تطور الأمر بعد عودة “بابا الفاتيكان” إلى بلاده لصراع يستهدف البابا تواضروس الثاني عبر صفحات موقع التواصل “فيسبوك”. حيث تم تصوير “بيان المعمودية” على أنه مخالف للمعتقد.
ولصعوبة المعركة وطول أمدها داخل المجمع المقدس، أصدر مفكرون أقباط بيانًا تضامنيًا ضد ما أسموه “مؤامرة على البابا”.
وصف هذا البيان المجموعات الرافضة لمواقف البابا بأنها “تنفذ أجندات خاصة”، وتسعى لبث روح الفرقة داخل الكنيسة.
اقرأ أيضًا: السوشيال ميديا التي يكرهها البابا تواضروس ولا يستغني عنها
من الفرد إلى المؤسسة
حسبما أفاد “مؤسس جبهة العلمانيين الأقباط”، فإن البابا تواضروس نقل الكنيسة من الفرد إلى المؤسسة. ولم يتوقف في ذلك عند تغيير أشخاص ومواقع. بل امتد، بهدوء وصبر وقليل من الكلام، إلى خطوات مرتبة، فأقام حوارات جادة مع أطياف من أصحاب التوجهات المختلفة. ذلك إلى جانب علاج ملف المستبعدين من “الإكليروس” -رجال الدين والعلمانيين- بهدوء لم يكن الإعلام طرفًا حاضرًا فيه.
خطة البابا في إعادة ترتيب البيت الكنسي منذ مجيئه إلى الكرسي البابوي حجَّمت جزءًا من سلطات بعض قيادات الحرس القديم، وتسببت في غضبهم ثم هجومهم عليه. وقد ظهر ذلك بوضوح عقب توقيعه وثيقة مع نظيره بابا روما حول الاعتراف المتبادل بالمعمودية، وما ترتب على التوقيع من غضب بين الأوساط القبطية. ما دفع البابا إلى إنكار التوقيع، موضحًا أنها مجرد وثيقة لاستمرار السعي في المباحثات.
اقرأ أيضًا: العلمانيون والإكليروس.. قصة مضطربة انتهت بانتصار أصحاب العباءات السوداء
لم ينعزل البابا تواضروس عن مواقف الكنيسة المعروفة بشأن القضية الفلسطينية، واستمر يؤكد في تصريحات متعددة، أنه يمشي على خطى مدرسة البطريرك الراحل البابا شنودة الثالث.
وفى ديسمبر/ كانون الأول 2017، أصدرت الكنيسة القبطية بيانًا برفض قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، معربة عن تضامنها الكامل مع الأشقاء العرب. وذكرت أن ذلك الاتجاه سيؤدي إلى نشوء مخاطر كبيرة تؤثر سلبًا على استقرار منطقة الشرق الأوسط بل والعالم ككل.
ربما لم يكن البابا تواضروس محظوظًا بأجواء صاحبت وصوله للكرسي البابوي. حيث توتر المناخ السياسي إبان فترة “مرسي”، وكذلك الكنسي، بعد رحيل “بطريرك” ظل في موقعه أربعين عامًا، أرسى خلالها قوانين وقواعد أرثوكسية خاصة. غير أن فقد البابا تواضروس لـ”الأنبا إبيفانيوس” رئيس دير الأنبا مقار، وأسقف البحث العلمي، الذي قُتل أثناء ذهابه في الصباح الباكر لصلاة القداس بالكنيسة الأثرية داخل الدير بوادي النطرون في تموز/يوليو 2018، يعد الملمح الأبرز خلال فترته البابوية، وهو حادث كاشف لأشياء كثيرة، لم تنته بعد.